اختار الكاتب والأديب” حسن بيسي الحاجبي”* لنصوصه السّردية عنوان ” جنازة رجل”؛ وهو عنوان يحفر فيه الكاتب لنفسه رمسا ليشيع ذاته ..وقد جاء العنوان مركبا من مفردة جنازة؛ والجنازة إعلان عن الموت والانسحاب إلى عالم آخر يحيط به المجهول، ويصنف في إطار الغيبيات ..بالجنازة تنتهي محطة الحياة المادية بكل ألوانها ومحطاتها وأصواتها ..وقد ألحق بالمفردة الأولى كلمة ” رجل ” حتى يرفع اللّبس عن طبيعة الجنازة ويوفر على القارئ رحلة البحث عن ماهيتها؛ فهي جنازة رجل ..
يُصَدِّرُ الكاتب إضمامته القصصية بنص اجترح له عنوان : ” عن ذاك الكلب أحكي” ..وهو في هذا النص انتهج أسلوبا ساخرا تهكميا ..إذ استدعى واقعة قتل أجنبية لكلب السارد ليحيل على المأساوية التي يعيشها الإنسان الكلبي ..إذ تحضر الرمزية بقوة في هذا النص.
يكشف الكاتب ” حسن بيسي الحاجبي ” عن دونية الإنسان في مجتمعنا؛ من خلال استدعاء المكانة الرفيعة التي يحظى بها الكلب / الكلاب في المجتمعات الأخرى..فعندنا أسمج النعوت والأوصاف هي التي تحيل عليها عبارة ” كلب ” / ” كلاب” ..فكلابنا غير كلابهم ..تلبس هنا اللغة أقنعةً لتقول الكثير..
إن الكاتب من خلال توظيفه لمعجم الحيوان ” الكلب، الكلاب هاوهاو ..كلابنا ..كلبكم ..كليب،نبح،…الخ”..يجعل من الكلب شخصية في النَّص السردي؛ وهاجسه الكشف عن ملابسات التعامل مع الإنسان والحيوان …فكما نعلم الكلب في المجتمعات الغربية يحظى بمكانة وشأو رفيع، ويجرم ويعاقب كل من يمسُّ بحقوق الحيوانات ..بيد أنه في مجتمعاتنا يتحول الكائن الإنساني إلى كلب؛ والكلب عندنا يستعمل كسبة وكصفة ونعت قدحي؛ وفيه من إشارات الإذلال والاحتقار الشيء الكثير ..وهذا ما أراد المبدع عن يكشف عنه من خلال المقابلة بين كلابنا وكلابهم.
الرَّمزية حاضرة بقوة في النص، فلم يورد مفردة الكلب عبثا ..بل أراد الكاتب بتوسله بالرمز أن يحيل على قدسية الحيوان واحتقار ودونية الإنسان..
كما يكشف عن نظرتنا للكلب ونظرتهم له..فنحن مجتمعات يحضر فيها الكلب كسبة وإشارة إلى الاحتقار ..فكلما أردنا أن نحتقر إنسانا ننعته بمفردة ” كلب ” لذلك استحضر في هذا السياق الهزيمة النكراء التي انتهى إليها حاكم عربي؛ وإن لم يذكره بالاسم؛ فقد أشار إليه بأحد أقواله المأثورة : ” بيت ..بيت ، دار ،دار، زنكة، زنكة ص ١٤ من المجموعة القصصية.
فحضور مفردة الكلب كما المعت؛ تصبح مؤشرا دالا على كل محتقرٍ وذليل ..ويختم النص بقوله في ص ١٤ :
” …عند المساء، كان الخبر قد نبأ إلى مسمع العالم، مات الكلب الضاري، مات لا حتى كما تموت الكلاب، مات في المجاري”.
وهنا الكاتب يحور سياقا واقعيا بتوسل الكلب كشخصية لتمرير خطابه ورسالته ..فكما يقال إلى مزبلة التاريخ تشيع جنائز النتنة سيرهم ..إن اللعبة السردية في هذا النص شيدت وفق حبكة قوية عمادها الترميز والإشارة..وهنا وإن لم يتبدى عنوان المجموعة بشكل واضح ..فهناك قرائن داله تجعل من كل نص في المجموعة تتزيا وتتسربل بتيمة الجنائزية ..جنازة رجل انتهى ومات في المجاري ..لم تكن جنازة إنسان ولا حتى كلب ضارٍ ..فالمجاري هنا إشارة قوية إلى النتانة والنجاسة والاتساخ ..فالكلاب تعيش وتموت مطاردة ..وعندما يتحول هنا الكائن الإنساني إلى كلب، تنتفي إنسانيته ويطرده التاريخ ..وأورد الأديب :حسن بيسي الحاجبي”، في هذا النص أن المطالبين بالكرامة والخبز، كانوا يجابهون بكائن كلبي؛ ينبح فيهم قائلا من أنتم ..فقوبل هنا المطالبين بالحرية والكرامة بالنُّباح وبالتوعد بالمطاردة كما الكلاب ..
لقد جعل المبدع والأديب ” حسن بيسي الحاجبي ” عنوان المجموعة القصصية عنوانا للنص الأخير؛ والذي جعل جزءا منه أيضا على ظهر خلاف المجموعة ..فالسَّارد يشيع جنازته، وهو حي يرزق ..وهو بهذا يتهكم ويسخر من الواقع وتناقضاته..فلم يترك للآخر المريض الفرصة ليكتب نعيه..بل طفق في كتابته على هاتفه النقال وجلس ينتشي بفنجانه و بوقع خبر النعي ..
—
الهوامش:
*- حسن بيسي الحاجبي، كاتب أديب وإمام خطيب، من مواليد ١٩٦٣ بالعاصمة الإسماعيلية مكناس.
من إصداراته :
_ الدُّر المتناثر من خُطَبِ المنابر؛
خطبة الجمعة بين أزمة النَّص، وجَدليَّة الخِطاب؛
– على بيتك طليت؛
– نسائم قرآنية، بصائر في آيات الرّحمان؛