أبدع الشاعر العربي نصوصه في بيئة عربية استلزمت تنوعا في الأغراض بحسب المواقف والمناسبات فكان الشاعر العربي مداحا وكان هجاء ومتغزلا وواصفا وراثيا ومفتخرا ..، مما أثرى القصيدة العربية بمعان تناصت وتضمنت في قصائد تعاصرت أو تباعدت عصورها فكان حديث النقد العربي عن السبق والإجادة في المعنى وعلى أساسها منح
الأفضلية لهذا الشاعر عن صاحبه، ولم يكن من اليسير على الشاعر العربي أن يأتي بكل الأغراض ويجيد فيها كاملة بالقدر الذي تتأتى فيه القريحة وتتفتق فيه الملكة في غرض دون غيره فتجد الشاعر مجيدا في الرثاء والنسيب ولا تجد له كل الإجادة في الفخر مثلا وقد تجده بارعا في الوصف والهجاء لكنه من المدح بعيد وتجده مداحا مفلقا لكن الخور والضعف في هجائه بين فينصرف عن هذا الغرض إلى غيره مما يجيد فتظهر فيه براعته ويبين حذقه وتتجلى صناعته ، لذا فالمتأمل في أغراض الشعر العربي لن يجد شاعرا عربيا إلا وتمنع عنه غرض من الأغراض وأبرع في غيره كل الإبراع حتى يعرف بين الناس بالإجادة في مدح فتطلبه الملوك والوزراء ليحظوا بمدحه أو هجاء فيخشاه الناس ويتقونه خوفا على أنفسهم من المعرة والمذلة أو فخرفيكون لسان قبيلته وقومه ونفسه يمجد ويعلي أو رثاء فيكون سباقا إلى بكاء ميت أو مكان يقع فيه حنينه فتتفجر أحاسيسه صادقة من لوعة وحرقة وتنكتب مراث لم يسبق إليها في عرف الشعراء وقد يكون الشاعر منقطعا إلى غزل يذكي فيه صبابته ويبث فيه لوعته فيختص فيه تخصص البارع الحاذق العارف بشعابه ومسالكه فيأتي فيه بالصور الملاح وبالبديع الأنيق ، وقد يبرع الشاعر في الوصف فينقل صور الأشياء ويقتحم دقائقها التي لا تستطيعها العقول ولا العيون فيرسمها صورا غاية في الافتتان ومشاهد قمة في البيان، وفي التاريخ الشعري العربي ارتبطت الذاكرة الشعرية بأسماء كبيرة عرفت بضلاعتها في أغراض خاصة كالفخر عند عنترة بن شداد والمتنبي والوصف والهجاء عند ابن الرومي والغزل مع عمر بن أبي ربيعة الذي كان أول شاعر يؤلف ديوانا خاصا بالغزل في تاريخ الشعر العربي والمدح مع زهير والمتنبي والبحتري والرثاء مع الخنساء وشعر الخمرة مع أبي نواس وشعر الزهد مع أبي العتاهية وهكذا فالذاكرة الشعرية تستطيع أن ترصد ارتباطات الأسماء بالأغراض التي شكلت منتجها الأكبر في عرف الشعرية العربية القديمة، غير أن هذا الطرح يظل أحيانا يغرد خارج السرب حينما يتم إقصاء منتج شعري لشاعر عربي بعينه بسبب تغليب كفة الغرض المهيمن على الإبداع الشعري عنده ، فلا يلتفت إلى جانب آخر مضيء من شعريته المتدفقة لأن ذلك الجانب يبقى خارج طول الجياد وعددها بمعيارية ابن سلام الجمحي في مفاضلته بين الشعراء وتصنيفهم إلى طبقات ، ولأن السياق الاجتماعي استطاع أن يصنع رؤية غير مكتملة جذبتها الشعرية الأعلى في غرض ظاهر ومكثف من حيث الممارسة وبه جرى اشتهار الشاعر في الوسط الاجتماعي فكان لابد من صرف النظر عن تلك المتفرقات الشعرية التي يقولها في هذا الغرض وذاك ، ومن هذا المنطلق حاولت هذه الدراسة أن تقارب شعر الهجاء عند الشاعر العباسي البحتري وتظهر ما فيه من شعرية فذة لم تكن تقل عن شعرية الهجاء عند ابن الرومي الذي زعم كثيرون في عصريهما أن البحتري كان يهاب ابن الرومي ويترجاه ألا يهجوه لأنه لا يستطيع مضاهاة هجاء أبي العباس بن جريح الذي لا نستطيع أن ننكر براعته وقوة شاعريته التي اتسمت بالرسم الكاريكاتوري الساخر أثناء هجائه المرعب ، لكن البحتري كما ذهبت إلى ذلك مصادر تاريخية تراثية لم يكن يتهيب من ابن الرومي لأجل تفوق هذا الأخير في الهجاء وبراعة البحتري في المدح وإنما كان لانصراف البحتري إلى ما هو أهم من ذلك فطبيعة حياته التي ارتبطت بالقصر وانشغاله بمدح الملوك وعلية القوم جعله ذا حظوة متخيرة ومكانة عالية لم يكن من اللائق إفسادها بالشتم والتعيير سواء من جهته جهة غيره لأن في ذلك صرفا له عن حرفته الشعرية وهي التخصص في مدح الخليفة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان وغيرهما ممن رأى وجوب لمدح في حقهم ، لذا كان البحتري حريصا على تجنن الرومي لا خوفا منه ولكن خوفا على مكانته كشاعر للبلاط خاصة أن ابن الرومي جرب الاقتراب من القصور لكنه لم يظفر بنصيب من المدح فكان لذلك أثر على نفسيته التي ازدادت تأزما أكثر مما كانت عليه بسبب الفقد الذي قدر عليه ، فكان البحتري رجل دهاء حينما صرف عنه ابن الرومي بلباقة حسن سياسة حتى لا يغدو الهجاء لدى الطائي التزاما شعريا يضيع عليه فرص الالتحاق بالبلاط والحظي بالرفعة بمجالسة الخليفة والدنو من أعيان القصر في عصره لذلك لما قتل المتوكل هام البحتري على نفسه وكانت عودته إلى مسقط رأسه “منبج ” يقضي فيها باقي أيامه حتى مات هناك سنة 280 هـ.
ومما يدل على أن البحتري لم يكن يخشى ابن الرومي لقوة شعريته في الهجاء وتفوقه فيه هو أن الطائي لم يتوان عن هجاء من استحقوا الهجاء في زمنه ، وهو هجاء لا يقل كاريكاتورية وبارودية عن هجاء ابن الرومي مع مساحة من التفوق لأبي العباس لأنه أفرغ جهده وطاقته الوصفية الدقيقة للملمح البشري أكثر من البحتري الذي كان الهجاء عنده ظاهرة عارضة يستلزمها سياق ما من السياقات في حين أن ابن الرومي لم يكن لينجو أحد من سلاطة لسانه إذا ما اجترأ عليه وتطاول أو إذا ما رأى فيه مصدر شؤم ونحس من خلال منظره المستقبح أو سلوكه المشين فكان الهجاء سيفا في لسان ابن الرومي ، اما الطائي فقد هجا مغنيا يدعى أحمد بن أبي العلاء قائلا : (1)
غناؤك ليس يغني سامعــــــيه وضربك يوجب الضرب الوجـيعا
ووجهك يطرد النشوات عــنا وقربك يذكر المـــوت الســــــريعا
إذا غنينا يـوم اصطــــــــــــــباح فقد أوسعتنا عطــــــشا وجــــوعا
فهذه صورة من صور الهجاء عند البحتري لهذا المغني الذي لم يكن يجيد غناء يفقد سامعيه شهية أكل وشرب تزداد بسبب قبح منظره الذي يطرد كل نشوة يمكن الاحساس بها لما في صوته وضربه من نشاز وفيها من الشعرية ما يلزم لتكون ذات أثرووقع على النفس ، وإن كانت لا تستطيع ان تبلغ مبلغ ابن الرومي في هجائه لمعلم يدعى أبا سليمان يلقن طلبته أبجديات الغناء قال فيه:(2)
أبو سليمان لا ترضي طريقـــــــته لا في غناء ولا تعــــليم صــــــــبيان
له إذا جاوب الطنبور محــــــــتفلا ضرب بمصر وصوت في خراسان
عواء كلب على أوتار منــــــــــدفة في قبح قرد واستـــــــــــكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اخـــتلفا عند التنغم فكـــي بغل طــــــــــحــــــــان
هنا تظهر براعة ابن الرومي وقدرته الهائلة على التصوير والتوصيف الكاريكاتوري كأنه رسام يمسك ريشة يرسم بها على لوحة ، فإظهار صورة الوجه هنا أقوى وأعمق وأدق وحاملة للمتلقي على التخييل تشمل الصوت والمنظر والسلوك جمعت في بيت واحد زادته الصورة الكاريكاتورية لحركات الفك قوة مضافة ، مثلما أنه يمتلك ناصية المدح وقد حفل شعره بمدح أشخاص كالمبرد وأبي العباس وعلي بن اليحيى المنجم وغيرهم ، ولست أريد من هذه المقارنة أن أوازن كما فعل الآمدي من قبل بين الشاعرين من حيث المعنى وإنما أردت أن أثبت أن ابن الرومي في هجائه يمتلك من القوة والبراعة أكثر مما قد يمتلكه شاعر في عصره وأن هذا الأمر لا ينقص من شاعرية البحتري شيئا فهجاؤه للمغني على درجة من القوة والتأثير الذي يليق بهذا المغني الذي لن يستطيع الرد على البحتري لأنه مغن كان في قصر المتوكل أولا وثانيا لأنه ما كان محتاجا لهجاء مقذع إذ حسبه هذه الأبيات فهي كفيلة بالتأثير عليه ، إذ لو كان الأمر متعلقا بهجاء شاعر كابن الرومي أو غيره لأبدع البحتري في الهجاء أكثر مثل إبداعه في المدح ، لأن الحاجة أم الاختراع ، فهو لذلك لم يكن محتاجا لأكثر من ذلك حتى إنه لم يجاوز على الأبيات الثلاثة ، وتظهر قوة شاعرية البحتري في الهجاء حين يستدعي مقام حاسم ذلك فتتشكل قصيدة زاخرة بالسخرية والتهكم فتتعالى القصيدة وترتفع مقاماتها كما حصل مع الخثعمي في قصيدته الكافية يقول فيها:(3)
قد أهدف الغث العمي لو لم يكن وغدا وليس الوغد من أهدافي
وأتى بأبيــــات له مســــــــــروقــــــة شتى النجار ونــسبة أفـــــــواف
ما إن يزال يــــجر من أشـــعــــــاره جيفا فكيف أقول في الجــياف
والشاعر السراج كان يفــــــــــوتنا عجبا فقل في الشاعر الإسكاف
متلفف العــــــــــــثنون من إكبابه للخزر بين قـــــــــــوالب وأشاف
فقدتك أقدام العلوج فكل مـــن ببلاد رأس الــــعين بعدك حاف
وزعمت أنك ” خثعمي ” بــعدما عرفوا أباك فبعض ذا الإرجاف
إني قنعت ب ” خثعم ” وهي التي ليست من الأنساب غير كفاف أسرقت شعري ثم جئــــــــــــت تذمــــــــــــــــــــــــنـــــي؟ يا وغـــــــــــــــد ما هـــــــــــــــذا من الإنــــــــــصاف
وجريت تطلبني فردك خــــــــــــائبا حســــــــــــب الحـــــــــــــمار وكبوة الإقـــــــــراف
إن لم أدل على أبـــــــــــيك فإنني من لؤم نطـــــــــــــــفة جـــــــــــــدك ” النطاف”
فهذه المقتطفات من قصيدة له في هجاء رجل إسكافي يدعى الخثعمي كان تجرأ على البحتري فجعله هدفا له في هجائه المرير، فتظهر الصور التي نقلها عن الشخصية مدى حذق البحتري وقوة شاعريته في الهجو عبر التلاعب بالحروف تماما كما كان يصنع ابن الرومي من تصحيف للكلمات وقلب معانيها وأبنيتها مثل قوله في وصف الموز:(4)
إنما الموز حين تمكن مــــنه كاسمه مبدلا من المــــيم فاء
وكذا فقده العزيز علـــــــينا كاسمه مبــــدلا من الزاي تاء
فهو الفوز مثلما أن فقــــده الموت لقد بان فضله لا خفاء
إن هجاء البحتري للخثعمي في هذه المقطوعة كاف ليدلنا بوضوح على أن الطائي لم يكن شاعرا يجيد المدح فحسب مثلما انه برع في أغراض أخرى كالغزل والوصف وأنه كان ذا حظ يسير في الهجاء ، لأن هذه النماذج المساقة على سبيل التمثيل تجزم وتفصح عن شاعرية قوية تظهر جلية في المعاني التي تحملها الأبيات حيث التعيير بالنسب وهو من أكبر المعرات ، والوضع في سياق المقارنة بين المهجو و الشاعر وشعره الذي عرف الطائي أنه مسروق منه ناعتا إياه بأقدح النعوت مصورا إياه في صورة الأتان التي أصابها داء في رحمها بسبب تداولها من الحمر راسما أمام العيون صورة الحرفين اللام المستقيمة والكاف المائلة وفي هذا الطرح الشعري نموذج بارع من صفاء التخييل الكاريكاتوري الذي رسمه البحتري بريشة شاعر فنان.
ولننظر الآن إلى هجائه في ابن المغيرة وكان هذا الرجل شاعرا خبيث اللسان هجاء نادم المتوكل وكانت له معارضة للبحتري لما كان يلقي قصيدته الميمية في مجلس الخليفة التي مطلعها ” عن أي ثغر تبتسم” يقول البحتري : (5)
قد لعمري يا بن المغيرة أصبحْـ ت مغيرا على القوافي جميعا
شرفا يا أخا ” جديـــــــــلة” أبــــيا تك ردت قيظ ” العراق” ربيعا
ما لعيــــــنيك تغــــــــــزلان إذا ما رأتا في الرؤوس رأسا صليعا
إن حب الصلعان يبدي من المر ء لأهل التكشيف أمرا فظيعا
لست عندي الوضيع بل أنت يا وغ د وضيع عن أن تكون وضيعا
زحلي قد استفاد من الشــــــــؤ م جليسا ومؤنـسا وضجيعــــــا
يبدو أن هذه الأبيات كانت شديدة الأثر في نفسية المغيرة وكفيلة بتأديبه في مجلس المتوكل لما تحمله من صور ورموز قوية وعميقة الأثر تشكل منتهى لكل هجاء كما في البيت الذي ينعت فيه وضاعة وحقارة المهجو ونسبه في البيت الأخير لكوكب زحل المرتبط في العرف الثقافي الخرافي بالنحس وما يولده ذلك في نفس المتلقي من نفور، ينسجم مع المعنى السابق الذي رسمه الشؤم بتلك الشعرات التي تنبت في قصاص الناصية ثائرة لا تكاد تسترسل وهي معروفة عند العرب بأنها مصدر للتشاؤم.
يبدو من خلال هذا التمثيل الشعري أن الطائي كان يمتلك ناصية الهجاء كامتلاكه لناصية المدح الذي برع فيه أكثر من غيره بحكم طبيعة التوجه الذي سلكه في شعره ولو أن ابن الرومي أتيح له ما أتيح للبحتري من حظوة ومنزلة بين القصور ولدى الأعيان لرأيناه مداحا لايقل شأنا عن الطائي فالشاعر العربي لا يعجزه غرض من الأغراض ينظم فيها بقدر ما قد يعجزه البيت من الشعر أحيانا عند استعصاء الإبداع وتمنعه ، وإنما انصرافه إلى غرض دون آخر يكون نتاجا لسياقات ثقافية واجتماعية تحتم هذا اللون دون غيره بل وقد تحتم نسقا شعريا دون غيره من الأنساق التي دأبت عليها الشعرية العربية في السابق مثلما حصل مع أبي نواس لما أمره الخليفة أن يقول شعرا محتذيا المنهج الشعري القديم فقال : (6)
أعر شعرك الأطلال والدمن القفرا فقد طال ما أزرى به نعتك الخمـرا
دعاني غلى وصف الطلول مسلط تضيق ذراعي أن أجوز له أمـــــــــرا
فسمعا أمير المؤمنـين وطاعــــــــة وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا
مما يدل على أن الشاعر العربي يستطيع ـ وهو الذي يمتلك من خوارق القدرة الشعرية ـ أن يأتي بأي غرض يفرضه السنن ويستلزمه السياق، فابن الرومي بحكم طبيعة نشأته وما تعرض له من أزمات نفسية جعلت منه ذلك الشاعر المتطير والمتبرم من الناس يهجو وينتقم ممن يتجرؤون عليه أو يرى فيهم أمارة نحس وشؤم بينما حظي البحتري بمجالسة الأعيان وعلية القوم فكان لابد لشعره أن يعكس هذه الروح المثالية ، غير أن المحافظة على المكانة والرفعة التي منحه إياها القصر كانت تحتم عليه أن يدافع عن نفسه بكل شراسة للحفاظ على صورته المثالية كشاعر للبلاط لا يقهر أمام غيره من الشعراء أو المتشاعرين، لذا فإن تفادي ابن الرومي كان في حد ذاته ذكاء ودهاء من البحتري حتى لا يقحم نفسه في سجالات شعرية مشحونة بالصراع الكلامي فيكون الأمر إعادة للنقائض الأموية التي لا يأمن فيها الشاعر على نفسه مادام يخوض غمار منافسة ومبارزة كلامية سيحكم فيها الناس على المنتصر والمنهزم ، ويصرف انتباهه عن حياة البلاط التي ذاق نعومتها ورفل في بحبوحتها فلا مجال لتفريغ طاقاته الشعرية في أمور كهاته في الوقت الذي كان أمثاله من الشعراء يتلهفون للوصول إلى قصر الخليفة والتقرب من أعيان القوم.
الفهرس
1.البحتري الديوان تح حسن كامل الصيرفي دار المعارف ط 3 ص 1329
2. ابن الرومي الديوان تح د. حسين الصفار ج 6 مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة ط 3 سنة 2003 ص 2584
3. البحتري الديوان ص 563
4. ابن الرومي الديوان ج 1 ص 61
5.البحتري الديوان ص 510
6. أبو نواس الديوان برواية الصولي تح د. بهجت عبد الغفور الحديثي دار الكتب الوطنية أبو ظبي ط 1 سنة 2010 ص 98