أفاق أهل القرية على صوت القطروز ينادي الناس إلى اجتماع عاجل في مضافة المختار، فاهتموا واغتموا…
قالت أم محمد الخباز: يا رب سترك!
وردد أبو محمد من ورائها العبارة بصوت أجش وهو جسده النحيل في قمبازه على عجل.
وركضت أم محمد توقظ أبناءها ليستعدوا، ويتجهزوا لاجتماع المضافة.
قالت أم علي الطيان بتذمر: أوف لهذا المختار، أهذا وقت اجتماعاته، إنها السادسة صباحا، ولما تطلع الشمس، كيف يفكر مختاركم هذا؟
أبو علي وهو يضع كفه على فمها ليسكتها: صصص! يا رب سترك، لولا أن الأمر فيه ما فيه، وأن المختار قد مسّه منه نصب وتعب، وخوف، وقلق، وأرق ما نادانا إلى مضافته في مثل هذا الوقت.
وقف المختار ومشى بثبات إلى نافذة المضافة، ثم فتحها، وقال بصوت خافت وهو ينظر إلى مشرق الشمس: يا أهلي وربعي، يا سندي وظهري!
رجل بصوت خافت: ” يا رب سترك!”
يرفع المختار صوته: ” إني رأيت في المنام أنكم صم بكم لا تتحركون. وقد بعثت أسأل عن تفسير رؤياي فأعلموني أن على أهل قريتي أحبتي أن يلزموا الصمت في أيام أسبوعهم هذا كله، ولكني لم أقبل ذلك، وطلبت بثبات وإصرار أن يكون لكل واحد منكم ذَكَرا كان أو أنثى عشر كلمات يقضي بها حوائجه على ألا يتجاوزها، ولا يسمح له ببيعها، أو تأجيرها، ولا يسمح له بتقطيعها، أو التعبير عما في قلبه، أو فكره وحيا أو إشارة. فليخترْ كل واحد منكم كلماته بذكاء، وليحرص على أن تكون كلماته معينة له على قضاء حوائجه، كافية مفهمة مبينة مفسرة، شارحة فاضحة واضحة؛ فإن يومكم طويل، وأعمالكم كثيرة، وحاجاتكم متنوعة، وعواطفكم لا يطفئها ليل أو نهار.
رجل بغضب: يا مختارنا الغالي، ولكن تجارتنا كلها تعتمد على ألسنتنا!
رجل بتذمر: يا مختار، يا مختار، أنا كاتب، وحياتي كلها كلمات عشر كلمات في اليوم قليل، والله قليل!
رجل بارتباك: يا مختار أنا راع، وكلماتي هي حياتي، أهش بها على غنمي
امرأة بتذمر: يا مختار، أنا معلمة وحياتي…
فقاطعها القطروز بقسوة: كانت أربع كلمات، ولكن المختار، أطال الله في عمره، تدّخل لدى مفسر الأحلام، وجعلها عشر.
امرأة بتحدٍ: وإذا لم نفعل؟
رجل وهو يحاول إسكاتها: يا رب سترك!
أصوات همهمات ووشوشات ارتفعت في الساحة
فصاح القطروز بحماسة وهو يوزع عليهم منشورا زاهيا عليه خطوط حمراء قانية: المختار أعرف منكم بما يضركم وما ينفعكم.
أشار المختار للقطروز ليسكت، ثم توجه للجمع الغاضب بتحبب وتودد: الله أعلم بما سيحل بنا، وواجبي أن أحميكم من أنفسكم الأمارة بالحكي والثرثرة، وأنا أعلم مدى ضعفكم أمام الحكي والشرح، فقد قررت تركيب كاميرة على جبين كل واحد منكم تسجل صوته ونبضه وهمسه، وما يحدّث به نفسه في ساعات يومه وليله لكيلا يجلب أحد منكم الويلات إلينا، وكل من يخالف سيدفع غرامة تتناسب وعدد الكلمات التي زادها على حصته من الكلام.
ومضى اليوم ثقيلا جافا على أهل قريتي فقد تاهت فيه دروبهم، وارتبكت فيه نبضاتهم، وحبست فيه أنفاسهم، وربطت فيه ألسنتهم، وعاشوا فيها بين نيران غضب المختار وغراماته، والصوم المتعب عن الكلام، ومراقبة الكاميرا التي لا تنام.
ولما دخل اليوم من عيني الفجر، وبدأت أشعة الشمس تطرق أبواب الظلمة، وتتسرب من بين أناملها أفاق أهل القرية على صوت القطروز، وهو يناديهم بصوت حازم صارم يدعوهم جميعهم إلى المضافة صغارا وكبارا ذكورا وإناثا.
وقف أهل القرية صامتين أمام المختار، الذي أعطى الإشارة للقطروز ليوزع عليهم منشورا زاهي اللون في خطوط حمراء قانٍ لونها.
صوت بتذمر: يا رب سترك!
صوت حزين: يا مختار!
صوت: هذا صعب جدا!
صوت أنثوي: لا أستطيع، ولن أستطيع!
القطروز: لا تنفقوا حصصكم من الكلام على التذمر، نفذوا ما يقوله لكم المختار؛ فهو أعرف بكم من أنفسكم، يعرف ما يضركم وما ينفعكم.
تنحنح رجل، فقال القطروز وهو يلوح بإصبعه: النحنحة كلمة، كل نحنحة هي كلمة.
تنحنح المختار بعينين محذرتين، فصاح القطروز: التعليمات كلها في المنشور رقم ٢.
طأطأ أهل القرية رؤوسهم، وعادوا إلى بيوتهم بصمت كأنهم خشب مسندة، ثم وقفوا أمام حظائر أبقارهم، وزرائب أغنامهم، وأقنانِ دجاجهم بلا حراك…