إنّك ستقف حائرا..هل يجوز أن تصفه فنّانا, أم أكاديميا, أم موسوعيّا, أم مؤلّفا, مخرجا, ممثّلا, نخلة, هور, برديّ, قصبة, مسرح, حلم, واقع, ..الخ, والأحق والأجدى تقول : مثقّفا.
حينما يجلس صامتا, ستظنّه نائما, لكنّ ذلك وهم, لأنّه في الحقيقة لاينام أبدا , بل كان متأهّبا للتحليق, حالما بالجمال, غارقا في عالم حلمي, محلّقا في سماء الخيال, وهو طائر جميل في هذا الفضاء الذي يليق بأمثاله. يستشعر السؤال ويجيب عن أصعب الأسئلة بأسهل وابلغ الأجوبة وبسرعة عجيبة الى درجة إنك تقتنع بأن هذه الاسئلة ملكه, هو من كتبها وحفظها, ثم وضع أجوبتها وما عليه سوى أن يعيد سردها كما حفظها, لأنّه خزين من الأجوبة لأسئلة سكنته منذ أن وعى للدنيا , الأسئلة تسكنه, لذا لا يمرّ عليه سؤالا الاّ وشحذ ذاكرته المتوقّدة كي تجيب بطريقة كومبيوترية مخزونة في ذاكرة ليس لها حدود كي تجيب الاجابة الشافية, فهو أستاذ الأسئلة والمجيب عنها وعليها, وفي ذلك سيكون الاستاذ والطالب, السائل والمجيب..كيف ذلك وهو من حفظ وردّد أقوال الامام علي بن ابي طالب(ع), كيف ذلك وهو يعيش شخصيّة أرسطو وإفلاطون وجان جاك روسو وبريشت وجبرا ابراهيم جبرا وسامي عبد الحميد وصلاح القصب ومحمد خضير وداخل حسن.., كيف ذلك وهو الذي يحترف التحليق في الأحلام, كيف ذلك وهو يسير على نار المسرح فيخرج متطهّرا من سوء الأمكنة والأزمنة ويبحث ويستنشق ويبثّ عبقها ولهذا تراه يتنفّس مابين الحروف والكلمات حينما يتكلّم, ليس بسبب قصر نفسه كما يتوهّم البعض, لأنه يعيش النفس الذي لاينقطع, بل إنّه يمدّ الحروف والكلمات والجمل ويمنحها روحا من روحه فتصبح منتمية له, يسبغها بلون من ألوانه التي لا تبدأ بلون ولا تنتهي بلون, بل هو حالة لونية جمالية تتوالد دائما, ألوان أصيلة خالصة, متجدّدة تنتمي الى روح الروح, وأصل اللون الذي ينتمي الى العطر وليس الرائحة, فالعطر أجمل عنده لأنّه عاشق لعطر البصرة بماءها ونخلها وحرارتها اللاذعة التي اكتسب منها أن يكون لاذعا متحفّزا فلا يقول الكلمة وهو مسترخي حتّى لو كان ذلك تمثيلا, بل هو يقول الكلمة والجملة وكأنّه يريد أن يدعوا الجميع الى سماعها لأنها القول والفعل, وهي الصورة والكلمة والحرف الذي سمعه وتعلّمه وعشقه من فم مدرّس اللغة العربية, وهو اللون والخط والكتلة والفكرة والتقنية التي تعلّمها من فكر مدرّس التربية الفنّية.
حميد صابر يعشق البصرة ويعدّها ماهيّة المواطنة الحقيقيّة, ماهيّة الحب, ماهيّة العراق, ماهيّة المسرح الذي غاص فيه وكتب عنه إطروحة الدكتوراه. وهو يؤمن بالزمان والمكان لكنّه يقيس كلّ منهما بقيمة ساكنيه, فالبصرة عنده محمد خضير وو.., وهملت بالنسبة له تكمن قوّته وأثره وضرورته كونه يستيقظ حتى لو كان متأخّرا, لأنّه احترم الزمان. وهو أيضا لم يختار الاّ (ملابس العيد) لكاظم الحجاج فجعل منها عرضا مسرحيّا خاصّا به وعامّا للجميع لأنه يؤمن بأن العمل الفنّي بلا عيد ولا ناس (جمهور) سيكون ميّتا لا محال, وهو سائح بل ساكن بل شامل في تجواله بالأمكنة مابين الشارقة وبيروت ودمشق وبغداد والبصرة وواسط فترك في جميع هذه الأمكنة اثرا, وحاول أن يبث رسالة (الحر الرياحي) في مسرحية وجدها مناسبة للزمان والمكان.. هو يمتلك مقاييس دقيقة للحاجة والاحتياج والاحتجاج, لكنه لايمتلك سوى الثقافة والفن وأللون والحلم والصدق وصلابة الطموح رغم إنّه مؤمن جدا بأن الدنيا ليس سوى (كاروك) أو (مهد) يطيح بنا ذات اليمين وذات الشمال, حركته ليس سوى طيران وابحار, الاستقرار فيه لا يدوم سوى اجزاء الثانية, وجعل الكاروك مسرحيّة أخرجها عن نص ل( عبد الكريم العامري), فتغزلّ حميد بإرجوحة الكاروك التي جعلته أكثر بلاغة وأصدق قول خاصّة وهو يردّد: آما آن لهذا الكاروك أن يستريح ..(آما آن لهذا الوطن أن يستريح؟), أما آن لهذا المسافر أن يستريح؟ وكاروووك حميد صابرلايلتزم باتجاهاته المرسومة سلفا بل هو يدور ويتحرّك ويغزو جميع الامكنة, ذلك لأن تجوال حميد صابر ليس للسياحة والسفر والمتعة بل للبحث عن معارف جديدة, يستنشق منها عبق عطورا إشتاق لها واستشعر مكانها فسافر خلف ذهنه وانفه الذي وجّهه الى تلك الجنّة, سافر خلف حروفه التي يعدّها ميتة , وتبقى مجرّد كلمات صمّاء إن لم يمنحها الصوت ضرورة التلقّي فتصبح جزءا من روح الأنبياء, وهو الصوت والمعنى, الصوت الذي يتحوّل الى رسالة وأثر وزمان ومكان وفعل ووو. وكذب من قال إنّ حميد صابر يعشق البصرة فقط, بل هو عاشق لكلّ شيء, ولكل مكان, ويجعلها ملكه وشغله الشاغل, فضولي الى درجة لايترك بحر الاّ وأبحر فيه, لا يهمّه إن مات غرقا, وحينها سيتغنّى بالموت قبل الانتماء إليه, الموت سيتحوّل عنده الى مملكة جديدة ووطن جديد, فالفنّان والشاعر الذي يسكنه جسد حميد صابر يقول : أيّ شاعر لايتغنّى بوطنه ليس بشاعر, وهو يعيش حالة وطن يصنعها هو لنفسه, الوطن هو ضرورة ووجدان وقيمة وقوّة وتفاعل, ذلك لأنه مؤمن جدا بقول الامام علي عليه السلام: الوطن من حملك ومن أعطاك.
رحم الله العراقي الأصيل والوطني المحب لوطنه البروفيسور حميد صابر.