
الأمازيغ من بين الشعوب القليلة جدا في العالم التي تتوفر على نظام كتابي خاص بها ، لأن فعل التدوين والكتبة لم يتركان أثرا في سجل الأدب الأمازيغي لاعتبارات ذاتية وموضوعية، لذلك نجد كل ما وصلنا من المنجز الأدبي الأمازيغي هو من كتبة الذاكرة الجمْعية كخزان لهذا الارث الأدب الإنساني العريق عراقة الإنسان الأمازيغي نفسه.
فالأدب الأمازيغي ظل شفهيًا لقرون طويلة رغم امتلاك الأمازيغ لنظام كتابي قديم وهو تيفيناغ، الذي يعود استخدامه إلى العصور القديمة. لكن غياب التدوين المنتظم في الأدب الأمازيغي يعود إلى عدة أسباب، منها:
1-العوامل الذاتية
•الطبيعة الشفوية للثقافة الأمازيغية:
اعتمد الأمازيغ على الرواية الشفوية لنقل القصص، الأشعار، والحكم، والأساطير والقيم الثقافية والاجتماعية مما جعل الذاكرة الجماعية تتولى تخزين المعلومة ومصدر ومرجع أساسي لحفظ ونقل الأدب الأمازيغي .
•الاهتمام بالممارسة أكثر من التوثيق :
كان الأدب الأمازيغي مرتبطًا بالأنشطة الاجتماعية والاحتفالات والمناسبات الاجتماعية ، حيث يُؤدى شفويًا بدلًا من كتابته.
•عدم انتشار التعليم النظامي باللغات الأمازيغية :
رغم وجود تيفيناغ، لم يتم تطويره كنظام كتابة رسمي لفترات طويلة، مما أدى إلى استمرار الأدب في شكله الشفوي.
2. العوامل الموضوعية
•التأثيرات الثقافية والحضارية الخارجية:
خضعت المجتمعات الأمازيغية بشمال إفريقيا لتأثيرات حضارات أخرى، مثل الفينيقيين، الرومان، والعثمانيين و العرب، مما أدى إلى استخدام لغات أخرى في التدوين عوض الكتابة باللغة الأمازيغية بحرفها تيفيناغ ، الأدب الأمازيغي لم يكن معزولًا عن التأثيرات الخارجية، بل تأثر وتفاعل مع عدة حضارات وثقافات عبر التاريخ، مما أثرى مضامينه وأشكاله التعبيرية. ومن أبرز هذه التأثيرات:
1-التأثير الفينيقي والقرطاجي (القرون الأولى قبل الميلاد_)
مع وصول الفينيقيين إلى شمال إفريقيا، تأثرت الثقافة الأمازيغية بالتقاليد التجارية والاقتصادية، مما انعكس على بعض القصص والأساطير التي دخلت الأدب الأمازيغي.
ربما تأثرت بعض الأساليب السردية الأمازيغية بالقصص الفينيقية التي كانت تُحكى شفويًا.
2-التأثير الروماني (146 ق.م – 430 م)
لقد أدخل الرومان مفهوم التوثيق والكتابة، لكن الأدب الأمازيغي ظل شفهيًا رغم وجود محاولات للكتابة باللغة اللاتينية. كما أثرت القيم الرومانية على الادب الامازيغي ، خاصة المتعلقة بالبطولة والحروب، في بعض الحكايات والأساطير الأمازيغية. وتبنى الأمازيغ بعض الأشكال المسرحية الرومانية، خاصة في الحفلات والمهرجانات.
3-التأثير البيزنطي (القرن الخامس – القرن السابع ميلادي)
تأثر الأدب الأمازيغي بالروحانية البيزنطية، حيث بدأ يظهر في الحكايات الشعبية والأمثال موضوعات تتعلق بالصراع بين الخير والشر و ساهمت الفترة البيزنطية في تعميق بعض الموضوعات الاجتماعية والسياسية داخل الأدب الأمازيغي.
4-التأثير العربي والإسلامي (القرن السابع وما بعده)
مع دخول الإسلام، تأثر الأدب الأمازيغي بالقرآن والحديث النبوي، مما أدى إلى ظهور الشعر الديني والمدائح النبوية. كما أثرت اللغة العربية في مفردات الشعر الأمازيغي، حيث بدأ يظهر استخدام بعض الكلمات العربية في النصوص الأمازيغية. وانتشرت قصص الأنبياء والصحابة بين الأمازيغ، وتم دمجها في الحكايات الشعبية الامازيغية . برز كذلك تأثيرات السيرة الهلالية في الأدب الشفوي الأمازيغي، خاصة في بعض القصائد والقصص البطولية.
5-التأثير الأندلسي (القرن الثامن – القرن الخامس عشر)
مع ازدهار الحضارة الأندلسية، تأثر الأدب الأمازيغي بالشعر العربي الأندلسي، خاصة في الغزل والزجل. وكان الأمازيغ الذين قاموا بغزو الأندلس نقلوا معهم عناصر من الأدب الأمازيغي، وتأثروا بالموسيقى والشعر الأندلسي، ما انعكس لاحقًا على موسيقى الروايس وأحواش.
6-التأثير العثماني على الأدب الأمازيغي
رغم أن التأثير العثماني في شمال إفريقيا كان أقل وضوحًا مقارنة بالتأثيرات الأوروبية العربية أو الأندلسية، إلا أنه ترك بصمات في بعض الجوانب الثقافية والأدبية، خاصة في المناطق التي خضعت للحكم العثماني مثل الجزائر وتونس وليبيا، بينما ظل تأثيره محدودًا في المغرب بسبب استقلاله عن السيطرة العثمانية.
1-التأثير العثماني في المواضيع الأدبية الأمازيغية
•ظهور موضوعات الجهاد والمقاومة:
مع الحروب العثمانية ضد الإسبان في شمال إفريقيا، تأثر الشعر الأمازيغي بمواضيع الجهاد والبطولة، حيث بدأت تظهر قصائد تحكي عن المعارك ضد الغزاة الأجانب.
•ازدياد الطابع الصوفي:
ازدهرت الطرق الصوفية في الفترة العثمانية، مثل الطريقة القادرية والرحمانية، مما أدى إلى انتشار الشعر الديني الصوفي في الأدب الأمازيغي، وخاصة في الجزائر.
•تأثير القانون العثماني:
بعض الأشعار والأمثال الأمازيغية بدأت تتناول موضوع العدالة والضرائب، متأثرة بنظام الحكم العثماني الذي فرض ضرائب على السكان، مما انعكس في النقد الاجتماعي في الأدب الشفهي.
2-التأثير اللغوي في الأدب الأمازيغي
دخول بعض الكلمات التركية إلى اللغة الأمازيغية، خاصة في الجزائر وليبيا، مثل:
o”باي” (حاكم)
o”قايد” (قائد)
o” دزدار” (حارس القلعة)
o”سراي” (قصر)
o”برطمة” (شقة)
هذه المصطلحات وجدت طريقها إلى بعض الأغاني والحكايات الشعبية، مما يعكس تفاعل الأدب الأمازيغي مع الثقافة العثمانية.
3- التأثير على الفنون الشعبية والموسيقى
أثر الموسيقى العثمانية على بعض الأنماط الموسيقية الأمازيغية، خاصة في الجزائر، حيث تأثرت موسيقى الراي والشعبي بالألحان العثمانية التي كانت تُؤدى في قصور الحكام. بعض الأغاني الأمازيغية بدأت تدمج إيقاعات وآلات موسيقية عثمانية مثل الناي والعود.
4-التأثير على الحكايات والأساطير الشعبية
ظهرت في الحكايات الشعبية الأمازيغية شخصيات مستوحاة من الحكم العثماني، مثل الحكام الظالمين والجنود الأتراك.بعض القصص الأمازيغية دمجت عناصر من التاريخ العثماني مثل الصراع بين الكراغلة (أحفاد الأتراك) والأمازيغ المحليين.
5- تأثير الإدارة العثمانية على الشعر الأمازيغي
بسبب الضرائب الثقيلة والقوانين العثمانية، ظهر في الشعر الأمازيغي انتقادات للحكم العثماني، خاصة في مناطق الجزائر التي تأثرت بالوجود العثماني المباشر.في المقابل، دعمت بعض القبائل الأمازيغية الحكم العثماني ضد الاستعمار الأوروبي، مما أدى إلى ظهور قصائد تمجد بعض الحكام العثمانيين الذين دافعوا عن شمال إفريقيا.كان التأثير العثماني على الأدب الأمازيغي أكثر وضوحًا في الجزائر وليبيا، بينما كان محدودًا في المغرب الذي لم يخضع للحكم العثماني. وقد تجلى هذا التأثير في اللغة، المواضيع الشعرية، الحكايات الشعبية، والموسيقى، لكنه لم يكن بنفس قوة التأثيرات العربية أو الأندلسية. ومع ذلك، ظل الأدب الأمازيغي محتفظًا بهويته الخاصة، حيث استوعب هذه التأثيرات دون أن يفقد جوهره التقليدي.
7-التأثير الاستعماري الفرنسي والإسباني (القرن التاسع عشر – العشرون)
خلال فترة الاستعمار، تأثر الأدب الأمازيغي بالأدب المكتوب، حيث بدأت محاولات تدوينه بالحروف اللاتينية.ظهرت موضوعات جديدة في الشعر الأمازيغي تتناول المقاومة ضد الاستعمار، مثل أشعار الحسن اليوسي و محمد المختار السوسي وأغاني المقاومة.ساهم الاستعمار في نشر التعليم النظامي، مما أدى إلى تدوين بعض الحكايات والأساطير الأمازيغية التي كانت شفوية.
•التأثير الحديث والعولمة
مع انتشار وسائل الإعلام والإنترنت، بدأ الأدب الأمازيغي يتأثر بالأدب العالمي، حيث ظهر أدب أمازيغي حديث يواكب التطورات الأدبية العالمية. تأثر الشعر الأمازيغي بالقصيدة الحديثة، حيث بدأ استخدام أساليب جديدة في التعبير.ساهمت العولمة في إعادة إحياء الكتابة بحروف تيفيناغ ونشر الأدب الأمازيغي على نطاق أوسع.
ورغم هذه التأثيرات، ظل الأدب الأمازيغي محتفظًا بروحه الأصيلة، حيث امتص العناصر الخارجية وطوّعها لتتناسب مع هويته وثقافته. هذا التفاعل مع الحضارات المختلفة جعله أدبًا غنيًا ومتجددًا عبر الزمن.
6-القيود السياسية والتهميش:
في بعض الفترات التاريخية، لم يُشجَّع على استخدام الأمازيغية في الكتابة الرسمية، مما ساهم في غياب التدوين المنظم للأدب الأمازيغي.
7-الطبيعة الجغرافية :
ساهمت الجبال والصحارى التي تسكنها القبائل الأمازيغية في تعزيز الثقافة الشفوية، حيث كانت وسائل الاتصال والتوثيق محدودة.
8-الذاكرة الجماعية كحامل للأدب الأمازيغي
رغم غياب التدوين لفترات طويلة، كانت الذاكرة الجمعية الأمازيغية قادرة على حفظ هذا الأدب، من خلال:
•الأمثال والحكم الشعبية التي تعكس الحكمة والتجارب الحياتية.
•أغاني الروايس وأشعار إزلان، حيث يتم نقل المعارف والقيم عبر الموسيقى.
•الحكايات والأساطير التي تتوارثها الأجيال وتحمل مكونات الهوية الثقافية.
رغم تأخر التدوين، إلا أن الأدب الأمازيغي الشفوي ظل محافظًا على غناه وتنوعه عبر القرون. ومع تطور الدراسات الأمازيغية وإحياء نظام تيفيناغ، بدأ هذا الأدب يجد طريقه نحو التوثيق والانتشار بشكل أوسع في العصر الحديث.