أبسط مثال يمارسه كل الناس في مرحلة معينة من العمر هي البحث عن طرف بشري مختلف، طرف يوافق على الاقتراب منه للجيرة أو للمؤانسة كما تفرض البيئة لدى جميع المخلوقات، وفرد مع فرد وهكذا يتراكم الأفراد إلى أن تصبحوا مجموعة، ثم ريف وقرية إلى المدينة، أو بما يسمى تقليديا بالتجمع الإنساني، والحياة المدنية وفق التفكير الإداري الحديث، وفي خضم هذه الرغبة تتولّد الرغبة في التجمع للشعور بالأمان، وبهم تتعدد أيضا الوظائف بشكل فردي وثنائي وجماعي، بما يُعرف اليوم بالمؤسسات والمصانع والورشات، فينتفع كل منهم بما ينتجه الآخر شراء وتبادلا، ومنها تشاركهم في تجربة المتعة الطبيعة بحسب الاختلاف الجيني، وأقصد ما يترتب عن زواج الرجل بالمرأة، فالجنس هو أساس التنشئة الاجتماعية، كنقطة انطلاق للروابط الاجتماعية كما ترى الفلسفة.
الاختلاف في المظهر والجسد والكلام والمشاعر ضمن ثنائية يرى الإنسان أنه لا دخل له فيها، وليس الأمر كما هي الحال في العلاقات التجارية والاقتصادية وسائر الروابط الأيديولوجية، وبالنسبة للدين فقد فصل الله سبحانه في المسألة بقوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر ) سورة الكهف. لكن المتصدرون لتأسيس الحياة الدينية يسيئون مفهوم مشروعية الجهاد، حتى الكيان الصهيوني الإسرائيلي متورط في إساءة المفاهيم المسيحية، فكل من النضال الإسلامي والمسيحي يجابه الكفر المؤذي في الإنسان وليس بوصفه كفرا فقط، لأن الواقع يثبت وجود كافر مفيد ومسالم، كما يوجد في المقابل مسلم غير مفيد وغير مسالم، ويوجد أيضا مسيحي غير مفيد وغير مسالم، ولعل الكيان الصهيوني نموذج لهذه الحالة، وبخصوص الأوامر والنواهي المقدسة سواد لدى المسلمين أو المسيحين فهي تخص المؤمنين بها فقط، وكذلك بالنسبة للعادات السائدة والأعراف، عموما إن التجمعات الإنسانية حاجة بيولوجية مُلحّة ما كان الإنسان ليشعر بحاجته إليها لو لم يدججها الله بلذة يعتقد أنها فعل خرافي، هذا ما يسمى فقهيا بالنعمة وهناك من يحمد الله عليها وهناك من يكفر بها، التاريخ يشهد بأن إسرائيل كفرت بها في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) سورة البقرة.
إنها حاجة حيوية ذات صلة بالوجودية واستمرارها، والإنسان حين يقبل على الشهوة فهو يبدو أمام الله كما الطفل إذا منحه والده حلوة لذيذة أو لعبة مسلية، وهذه حالة تعبر عن عناية الخالق سبحانه وتعالى بخلقه وكونه، وهذا أيضا ما يفسر قوله تعالى: (وكان الإنسان ظلوما جهولا) بمعنى يمكن للإنسان أن يتأخر أو يتخلى عن الاعتناء بهذه الأمانة، وهكذا صانها واعتنى بها عندما وجدها مكللة بشهوات مختلفة ومتنوعة، بما في ذلك شهوة الخبز والماء والفاكهة والنوم والصحة، وهي شهوات مشتركة بين المخلوقات جميعا، إلّا شهوة المال والبنون والرغبة في الحياة، وغالبا ما يشاركه فيها إبليس بتحليتها له خارج المقدس، فيجعل منها تلهية ويلغمها بالغواية، فيدفع صاحبها إلى الطغيان أو ما يُعبّر عنه فقهيا بالبطانة السيئة، وفي المقابل جعل الله سبحانه العبادة شهوة مستعصية على النفس لا يشعر بلذتها إلّا الذّائبون في طاعته عز وجل، لأن ثمنها الجنة حيث لا ينالها إلّا الذين حملوا الأمانة بحسّ يليق بالإنسان المكرم، ليتناول هذه النعم بفعل إيجابي، فينتج بها الحياة بشكل فعال متوافق مع علة وجوده كخليفة في الأرض، لم يشهد التاريخ أخطر من سلبية إسرائيل تواجدا في الأرض وحوارا مع الله، بل يصل – كما ورد في القرآن الكريم – إلى درجة السخرية به عزّ وجلّ وذلك في حوارها التاريخي الشهير: ( وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ (67) قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ فَٱفۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ (68) قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّٰظِرِينَ (69) قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلۡبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيۡنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ (71).
هذه الشهوات التي تربط الإنسان بالحياة رغم اهميتها تخضع إلى قوانين وضعية أو إلى تعاليم دينية، فالله لم يترك الأمر إباحيا مطلقا كما هي الحال عند الحيوانات التي سخرها للإنسان أكلا وركوبا وأشغالا مختلفة، لذلك انتقص من عقول هذه المخلوقات خاصية التفكير وعفاها من مهمة التكليف، وبسط لها الأرض ومنحها جزافية التناكح بلا وسيط ولا قانون، وإن في ذلك لرحمة للإنسان حتى تتوالد سريعا وتتكاثر لتشمل فوائدها كل البشر، فلا يجد الإنسان المكلف بإعمار الكون والإستخلاف حجة ولا ذريعة للتخلف عن مسؤوليته في الاعتناء بأمانة التواجد والتواصل والاستمرار، وتحكيم العقل لتوفير العدالة التي تضمن تشارُك الجميع في تأسيس الحياة الدنيا وفق حالة من التآخي والتعاون والتآلف والمواطنة، في النهاية نلقى الله بقلوب سليمة، لأن كلّا من السماوات والأرض أبين أن يحملن هذه الأمانة وحملها الإنسان وكان ظلوما جهولا.
لعل جهالة الإنسان التي لمح إليها الله عز وجل تكمن – بحكم راهن الصراع – في الدول التي تتصارع على قيادة العالم بخلفيات تجارية وليس بدافع إنساني حرصا على إرساء العدالة وتحقيق السلام في العالم، لنشاهد على رأس هذه الثقافة الهابيلية إن صح القياس إسرائيل وأمريكا وبعض الدول التي تعتبر نفسها عظمى، وذلك بنية الاستحواذ على الخلافة في الأرض وفق قالب أكبر مما أقبل عليه قابيل، بحيث شمل حشدا من القوابيل ضد حشد أخر من الهوابيل فيما يسمى في منطق الحروب بدول التحالف، متحججين بحماية الديمقراطية والحريات تارة، وتارة أخرى بمكافحة الإرهاب وردع الديكتاتوريات، أيُّ تحالف هذا أيها المتحضرون؟ وأي حماية تقصدون وأرواح الأبرياء تزهق بمعدل مائة شخص في اليوم؟ عودوا إلى قواعدكم ودعوا الحياة فإنها مأمورة لتغمرنا بأمنها وسلامها دون تدخل أحد، فالله خلقنا ويعرف عددنا مذ خلقنا وعددنا حين يقيم علينا الساعة وحين نلقاه في الآخرة، ويعرف أيضا أن الأرض تسعنا جميعا وأن كلأها وخيراتها تكفي الجميع، حيث لخص النبي – صلى الله عليه وسلم – المواطنة العالمية في جملة بسيطة: “الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار”، فإذا رجعنا إلى هذه المسميات الثلاثة وأسقطناها على المسميات الحديثة لوجدناها هي قلب ما تتصارع عليه الدول الآن، الماء متمثل في البحار والمحيطات والأنهار والسدود وما يختبىء في جوف الأرض، والكلأ الأرض وما تنبت من زرع وفاكهة، والنار النفط والغاز، أمّا طبيعة الشراكة في الانتفاع بهذه المواد الثلاثة فهي الاشتراكية بكل معانيها غير أن قوانينها لا بد أن تُستمد من الإسلام لأنها تعاليم الله وهي الأجدر بالتطبيق والاحترام لأنها إيمان راسخ وعهد مع الله وليس مع البشر، فالرأس مالية عادة ما يطغى بها فردٌ واحد أو جماعة على الفقراء والكادحين الذين يمثلون الشريحة الكبرى في المعمورة.
حصاد ذلك هو ما يحدث اليوم بالضبط، وهو المتجلي في الرأسمالية المتوحشة التي تدير بها مجموعة من التجار شؤون العالم، ولا يخاطبون فيها إلّا الأغنياء والمترفين، ومع الأسف انساقت وراءها دول عربية وغير عربية تدعي أنها إسلامية وما هي بإسلامية، لأنهم على سيرة الرأسماليين لا يعملون بنظرية “من أين لك هذا؟”، يقولون أنهم إسلاميون فقط ليحتكروا أصوات المتعاطفين مع الدين، أمّا واقعيا فهم سواء ولا أحد يحاسبهم، بل يتعدّون ذلك إلى الاستثمار في الدين بجمع التبرعات والزكاة والعطاية المباحة التي يعتبرون هدايا، وكثيرا ما يبررون بها سلوكا محرّما كالرشوة مثلا، مجمل المعنى لا الرأسمالية ولا الاشتراكية ولا الإسلام سلِموا من مكر البشر، ولا ضحايا في العملية سوى الفقراء والمساكين والجوعى والخائفون.
الإنسان يظلم الكثير من الكائنات البريئة حين يخترع على شاكلتها طائرات ودبابات، الخفاش مثلا بريء من طائرة الشبح التي تخيف النساء والأطفال والعجزة، يكاد الخفاش يصرخ بملء فيه ويقول للعالم: أنا لست شبحا في شكل طائرة ولا دراكولا في شكل إنسان، أنا مخلوق جائع وغالبا ما أكتفي بفأر واحد ثم أعود لأنام، وقد اخترت الليل ليس لأنني شبح بل لأن الفأر من مكره لا يخرج إلّا في الظلام، فلماذا تقتلون بهذا الافتراض المطيح ببراءتي البشرية جهارا نهارا، ولماذا ترعبون الأطفال والبسطاء بمسخي إلى إنسان شرير يحب شراب الدم في الظلام؟
أليس أحرى بالإنسان أن يُحَكّم العقل والدين والأعراف، من المؤسف أن يعتبر البعض جنونهم ظاهرة طبيعية تقليدا لمخلوقات غير عاقلة، وينسون أنها مُقامة عليهم الحجة بحكم توفرهم على عقل صالح للتمييز والحوار وتقدير الأمور، لأن الظاهرة لدى المخلوقات الأخرى – بخلاف البشر- تغلب عليها النية في الاستحواذ على الفرائس والجثث المترامية في الطبيعة، أخشى أن تكون هناك فيئة بشرية تشبه هذه الحيوانات المفترسة، وما أخشاه أكثر أن تكون هي الفيئة الحاكمة، أو المجموعة المتصارعة على الحكم، أخاف أن يحق عليهم قوله تعالى: “مثلهم كمثل الأنعام أو أضل”، وأن هؤلاء الضلاليين هم الذين وصلوا بالسياسة إلى درجة هذا الافتراس، وأعني الجريمة المنظمة، إمّا باسم أنظمة بمسميات قانونية، أو باسم جماعات إرهابية ومنظمات وطنية وإقليمية ودولية، ولا أحدثكم عمّا ينتجه الظلم من عفويات دفاعا عن النفس، هذه العفويات التي تنجر بكثرتها إلى الاصطدام، ومنها إلى فوضى دموية لا يردعها إلى سفك الدم، حيث مرتع تجار السياسة ومروجي الأسلحة الفتاكة، فيدخل العالم في غوغائية الكلُّ يعتبر نفسه ضحية فيها.
الكثيرون من البشر يقتلون آخرين قد يكونون أصدقاءهم أو جيرانهم أو شركائهم في التجارة مثلا، أو أغنياء بالغوا في ترفهم ففاقموا حرمان الآخر ودفعوه إلى التفكير في نهبهم أو قتلهم، أو ربما منعوهم من أخذ حقوقهم في العيش، أو فُرضت عليهم طبقة إنسانية دونية غير مؤهلة للحياة، أو درجة حيوانية ابعدتهم عن المشاركة في مظاهر الحضارة، أو الأقل الوجود السيادي في أرض يعتقدون أن لهم حق العيش فيها والاستفادة من خيراتها، يعزلونهم بسلوك لا تنزح إليه الحيوانات إلّا دفاعا عن النفس، أو بدافع العيش كما يفرض قانون الغاب، ورغم ذلك نادرا ما يأكل الأسد أسدا أو ذئبا يفترس ذئبا مثله.
يُحكى أن في مناطق معينة من العالم أكل البشر لحوم بعضهم البعض بسبب تفاقم الجفاف أو الحروب التي تؤدي عادة إلى المجاعة، وهذه مسألة وجودية ينحدر فيها الإنسان المجرد من التعاليم الدينية إلى درجة الحيوان، يقال أن هذه الدول التي لها تجربة في هذا الأمر تروض الآن مواطنيها على تناول كثير من الحيوانات والحشرات والزواحف التي تعتقد دول أخرى أنها في غنى عن أكلها، وحثيثا طورت التجربة إلى حدّ جعلت منها ثقافة رائحة ومعقولة، فُشيِّدت مطاعم متخصصة لتشجيع المواطنين على خوض هذه التجربة الغذائية الجديدة، تجربة تُعتبر بطبعها بدائية جدا تعود إلى الإنسان الأول ما قبل التاريخ، قبل أن يتطور العقل ويفرق بين طيٍّب الغذاء وخبيثه، وقبل نزول الكتب السماوية التي حدّدت له بدقه ما يمكن أكله، وما من الضروري الاحتفاظ به للزينة، وما يمكنه الاستثمار فيه للعمل والأسفار وحمل الأثقال.
لكن الدراسات الحديثة تؤكد أن هذه المأكولات بديلة تجنبا لتكرار تلك التجربة المؤلمة، في حال فقدان أطعمة أكثر لياقة بمستوى الإنسان العاقل، ورغم أن الباحثين والملاحظين يصفون دائما ما سلف من الزمن بأنه عصر تخلف، غير أنه كان أكثر هدوء وأمنا مما هو عليه الإنسانية اليوم، حيث كانت نسبة الضحايا بسبب اعتداء الإنسان على أخيه الإنسان أقل بكثير وأحيانا تكون منعدمة، مما يجعلنا ننتقد هذا الإنسان الموصوف بالمتقدم والمتحضر، ونقول أنه جنى على نفسه بتنشيط واختلاق الخلافات وأدلجتها ضمن مصطلحات ومسمّيات ما عرف الإنسان الأول لها أصلا، رغم تواضع عقله وبدائية تفكيره، بل دأب على تأسيس التجمعات البشرية ليجابه الطبيعة وما يمكن أن تفاجئه به من مخاطر، ولم تكن الإنسانية ذلك الوقت تخاف من بعضها، بل يرون في تجمعها وتآلفها وتشاركها أمنا واستقرارا لهم. فأي حضارة هذه التي تسهر وتنفق ما لا يتخيله العقل من أموال لاختراع السلاح الموسِّع والمطوِّر لدائرة صراع الخير والشر.
المشهود أن الحيوان خلال إدارة علاقاته الغابية لا يتخلى عن عقله رغم بسطاته وتخلفه مقارنة بعقل الإنسان، ويظل يستعمله فيما سخره الله له، في المقابل أثبتت التحقيقات الجنائية في المحاكم عبر العالم أن الإنسان كثيرا ما يتخلى عن عقله في إدارة الكثير من علاقاته الإنسانية، وذلك لأسباب ثلاثة: إمّا أن هذه العلاقات لم تُؤسَّس بموضوعية منذ البداية، أو أنه كان يكذب حينما تحدث عن الديمقراطية والحرية والنزاهة ومشاركة الآخر، أو أن تفكيره منفصل تماما عن العقل والدين والقانون والأعراف، وبذلك تكون نزعته ليست بعيدة عن شرعة الغاب.
الإنسان – لأسباب مختلفة لا تعني الأنعام بحكم ثباتها على الفطرة التي خلقها الله عليها – يدفعه الغرور إلى التفكير في اختراع مكمّلات يعتبرها غذائية وأحيانا روحية، وكثيرا من الأحيان يعتبرها وسيلة للدفاع عن النفس ظنا أنها تمنحه القوة والجرأة، كالخمر والمخدرات، لا ندري لماذا لا يكتفي الإنسان بالقدرات الطبيعية في تدبير شؤون علاقاته مع الآخرين كما هي الحال عند الكائنات الأخرى.
النزعة لدى هذا النوع من البشر تتولد من التمرد عن الأديان والقوانين والأعراف، ولأنهم من أسّسوا لهذه العلاقات بنوايا خبيثة، أو بسطحية نفعية مرتبطة باستهلاك شيء ما لدى الطرف الآخر، تجاوزوا سلوك الأنعام بسبب عجزهم عن حل مشاكلهم دينيا وقانونيا، لأنهم من البدء مخالفون لها، أو أنهم يريدون حلولا ترضيهم على حساب الآخرين، فتجعلهم الحالة يلجأون إلى العنف وتراهم يختلقون لها المبررات والذرائع، وهذا ما تتسم به السياسة الإسرائيلية في الوقت الحالي بالنظر إلى تصرفاتهم العشوائية وطموحاتهم المجنونة، هذه الظاهرة لا توجد عند الأنعام، لذلك قال سبحانه وتعالى أو “أظل”، فهي بخلاف الحيوانات لا تريد ما يريده الله، بل تعتقد أنه لا يستطيع أن يميز بين البشر من حيث الأفضلية، بدليل أن شعوب العالم عدلت عن الاعتماد على الكهنة إلّا هم، فمن وجهة نظرهم أن الله في كل مرة يخطأ في اختيار رسله وأنبيائه، وبتهور أغرب مما فعله إبليس طلبوا من أنبيائهم أن يروا الله جهرة، حتى وإن رأوه فلن يؤمنوا به، أكيد سينقلبون عليه لمجرد أن يستجيب لهم وينزل إليهم – تعالى عن ذلك علوّا كبيرا – فيقولون له: كيف تكون ربّا وقد استجبت لمخلوقات تدعي أنك خلقتها، لماذا لم تامرهم بالصعود إليك؟
إسرائيل بارعة في ابتكار الالتواءات حتى على الله الذي خلقها، ومن باب الجدل لماذا لا يجد أولئك الذي يدّعون مهارة الحوار الرغبة في محاورة إبليس، أليس كلاهما ملعون إلى يوم الدين؟
إذن لا يمكن للأظل من الأنعام أن يبني علاقة موضوعية مع الآخرين، وبها يساهم في بناء حضارة العالم، نعم لا يمكنه ذلك إلّا بالرجوع إلى العقل، أو الاكتفاء بقدرات الأنعام طبيعة أو تقليدا ليبدو على الأقل أليفا مثلها وطيبا ومفيدا، لا يختلف عنها إلّا بكوننا نحتاج إلى لحمها وصوفها وحليبها، لكن هو لا نحتاج منه شيئا، فما عليه إلّا الاندماج بهدوء وعلينها مساعدته ليعيش بيننا في أمن وسلام، فإذا مات فعلينا أيضا غسله ودفنه، ونعتذر له إذا قلنا عنه مات بدلا من فارق الحياة، لأنه لا حياة للأنعام فقد فطرها الله لتسمن ثم نأكل لحومها حيث لا آكل للحمه إلّا الدّود والتراب، نقول هذا الكلام لأنه كثيرا ما يلتقي الأنعام بالبشر في علاقات زوجية وجوارية وإقليمية ودولية، فتكون العلاقة بين الرجل والمرأة مثلا عادية إذا كان كلاهما محسوبا على الأنعام، أو كلاهما محسوبا على البشر، غير أن العلاقة تختلف بين هذين النوعين من حيث ازهار العلاقة إنسانيا، لكن تتفاقم سلبية العلاقة إذا كان أحدهما أظل من الأنعام أو كلاهما، وأكيد تكون لهذه العلاقة نتائج وإفرازات مضرة بالإنسانية ككل، وعادة ما تعتبرهم الدراسات السوسيولوجية مفرزة للشر وبؤرة لإنتاج العنف، والتقارير المتكتَّم عنها في هذا الموضوع كلها تشير إلى إسرائيل لكن يحول دون جلاء الحقيقة.
بكل حذافير ما ذكرناه من معان يمكننا استخلاص سلوك إسرائيل اتجاه الآخرين، أمّا القائلون بأن إسرائيل يمكن أن تكون نظاما يساعد على الهدوء والسلام، فلأنهم فقط خاضعون لتأثيرات جانبية تتقن إسرائيل إعدادها وحبكها وربطها بالسياسة وشؤون المال والأعمال، وأقصد الدعارة والرشوة وتلفيق الفضائح وأحيانا اقتناصها بالصوت والصورة، لهذا فإن الخدمة الاستخباراتية في إسرائيل تعتمد بالدرجة الأولى على الفتيات الجميلات، بل يتعدى الأمر إلى درجة استدعائهن تحت غطاء نداء الواجب، يعني دعوى سامية تفوق بقداستها الاستدعاء الروتيني لأداء واجب الخدمة العسكرية الوطنية التقليدية المعروفة لدى الدول الأخرى، وهذا أمر ظاهر ومعروف لدى القاصي والداني وليس سرّا، إسرائيل نفسها مجاهرة به، بل وتقوم بتقديم إغراءات لفتيات جميلات من أنحاء العالم، ناهيك عن سرّيتها في شراء ذمم المؤثرين من الرجال بشتى الحيل والإغراءات والوسائل، بمعنى هي الوحيدة التي لديها خطابان، خطاب ظاهر أمام الإعلام تثير به شفقة العالم على أنها مظلومة تاريخيا، وخطاب أشد ضراوة على هدوء العالم وسلامه تخوضه في الكواليس بالسحر والمال والخمر والدعارة والإغراءات.
فوق ذلك الخبرة في ظهورها بوجه صحيح رغم ما تثيره من كذب وادعاءات مفضوحة أمام العالم، بخلاف الدول الأخرى التي عادة ما يعتذر زعماؤها للعالم ثم يلوحون باستقالاتهم لمجرد أن تثبت عليهم فضيحة أو تناقض في مواقفهم، إسرائيل محترفة للكذب والفضائح لدرجة تعتبر أن الذي يعترف ويعتذر فهو غبي، لأنها تاريخيا تنزه أفعالها وتعتبرها امتدادا للثالوث الذي لا يخطىء رغم سلبيتها الفاضحة، حتى اغتيال السيد المسيح تعتبروه انتصارا على الله حتى لا ينفرد بالحكم، ولا يمنحها إلّا ما هو مقدر في الغيب، ولأنها لا تأمن جانبه كواحد أحد اضافوا لشؤون غيبه رمزية الابن لإرضائه وجبر خوطر فقرائها بأنها متعاطفة معهم بشكل من التعزية، أما روح القدس ليضمن الكاهن المهندس مداخلة لما يريد تقريره في حال فكر الله اصرار الله في الانفراد بالحكم أو فكر في إرسال رسول آخر، وهذا هو ملخص الأقانيم الثلاثة التي تعتمد عليها مسيحية الكيان الصهيوني المنحرف لإثبات أفضليته على سائر الشعوب الأخرى.
هؤلاء أشد كراهية للمسيحية القديمة التي تعتبر السيد المسيح رسولا جاء ليعم البشرية بالخير والبشائر، لأن من ضمن هذه البشائر رسول آخر من أمة تعدّها إسرائيل أمة متأخرة إنسانيا، فقبيلة قريش كانت مجموعة قطاع طرق تقوم حياتها على عبادة الأصنام وشراب الخمر وتجارة الجواري، ومشهورة بجلسات عميقة الجهل، ثأر وأد المولودات وخطف اليافعات لاستمتاع بهن ثم بيع الجميلات منهن في نشاط تجاري يشبه إلى حد ما تجارة السيارات في وقتنا الحالي، فكانت بالنسبة إليهم أسواق جواري وعبيد، فيحن احتكروا الذهب والفضة تجارة ولبسا، واحترفوا كثيرا من صناعة الأسلحة المؤذية كالسيوف والمنجنيق والجُلّة الملتهبة، ألهمهم الله هذه الحرف تمكينا لرسالته، ولم يكتف بذلك بل رفع هممهم وزاد من عزيمتهم بقوله: ” يا بني إسرائيل إني فضلتكم على العالمين”، لكنهم استثمروا في هذا التمكين لإبادة وقهر الإنسان بدلا من تنويره وتوفير الأمن والسلام له، ثم استغلوا تلك الأفضلية للظهور على باقي الأجناس ظهور المخلوق الخارق.
انقَلبوا حتى على الله الذي منحهم هذه المكانة، وكانت إرادة الله في اختيار رسول من أمة تحتقرها ولا تقيم لها وزنا وختم بها، حتى لا يراودهم الطمع في رسول آخر لا يمكن أن يكون إلّا من بينهم، طنّا أن الله سيراجع خياره عندما تزداد قوتهم وصلابتهم، ثم يتراجع العرب عن مكانتهم ويتخلون عن رسولهم كما فعلوا هم، و” كل إناء بما فيه ينضح ” كما يقال، وقد يستعسر عليهم ويطول عليهم أمد انتظار ذلك فيخرج إلينا من يدعي البنوة، وها قد خرجت بالفعل شخصيات سياسية تدعي ذلك، ولعل أشهرهم بوش الابن الذي قال بأنه رأى الرب في المنام يأمره بغزو العراق، وتلاه نتن ياهو ثم الرئيس الأمريكي ترامب، لكن الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – بمعجزة صدقه وأمانته سيظل يبطل مزاعمهم حتى آخر يوم من الحياة الدنيا، رغم دأبهم وإصرارهم تشويشا عن الحقيقة حسدا في الذين أمنوا بها: (يود الذي كفروا لو يردوكم بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)، والإشارة عليهم لأنهم هم أول من عرفوا بأن الله أحدٌ، وأن الحياة الآمنة لا يمكن أن تقوم إلّا بالصدق والأمانة، أما السحر والكذب وآلة الحديد فهي أدوات لا تضمن الحياة السوية للإنسان، ولا يمكن أن تكون سببا في دخول الجنة إلّا دفاعا عن العدالة والسلام والأمن العالمي، وعملا على رفاهية الإنسان ورخاء عيشة، حيث لا يسمح الله أن تُستعمل لإبادته وتجويعه كما يبدو الآن سلوك إسرائيل أمام العالم.