(1)
في البصرة جنة البستان الشاعر مهدي محمد علي يحاول ان يستعيد ما أخذه الزمان من الامكنة من جراء التغيير العمراني الذي لايخلو في الكثير من الاحيان من قسوة وقلة دراية بطبيعة المكان ذاته، فـ(ان مايسمى تخطيطا عمرانيا لمدينة عصرية تعكس فوضى كونية مصغرة لا أجد تفسيرا لمجاورة مستشفى ولادة لمقبرة أو ملهى لدار عبادة أو سجن لمدرسة). فعل الاستعادة عند الشاعر على ذاكرة فردية بشكل رئيسي يعتمد على الذاكراة الواعية/الثقافية/المعززة بالمراجع كما هو الحال عند القاص في بصرياثا.
في البصرة جنة البستان الشاعر مهدي محمد علي يحاول ان يستعيد ما أخذه الزمان من الامكنة من جراء التغيير العمراني الذي لايخلو في الكثير من الاحيان من قسوة وقلة دراية بطبيعة المكان ذاته، فـ(ان مايسمى تخطيطا عمرانيا لمدينة عصرية تعكس فوضى كونية مصغرة لا أجد تفسيرا لمجاورة مستشفى ولادة لمقبرة أو ملهى لدار عبادة أو سجن لمدرسة). فعل الاستعادة عند الشاعر على ذاكرة فردية بشكل رئيسي يعتمد على الذاكراة الواعية/الثقافية/المعززة بالمراجع كما هو الحال عند القاص في بصرياثا.
(2)
ان الشاعر يستعيد المدينة بذاكرة الطفل الذي كان (غايتي الاساسية هي رسم المدينة بريشة المذاكرة الاولى وبحدود امكانيتي المؤرخة وخلاف ذلك يعني التخلي عن المخزون الطفولي التلقائي) من هذه الغاية المعلنة يتشقق السؤال التالي: من الذي يقوم بالتوصيف لفترة الخمسينات الطفل مهدي محمد علي، أم الشاعر المنفي مهدي؟.. ان الاستعادة مزدوجة القيمة فهي استعادة ما يأخذه الزمان عبر حركيته الطبيعية من الكائنات الحية وغير الحية، كما انها استعادة ما استلبته المنافي من العراقي الشاعر وعلى حد قول قاص وروائي عراقي (ان الذكريات والاصالة عند المنفيين هي كالنواة في الخلية، اذا تشوهت واضطربت فأنها تصيبهم بسرطان روحي قاتل) والشاعر مهدي محمد علي لصيق بالمكان لائذ به لانه منتزع منه، لقد انتزعته مخالب لامثيل لشراستها في العالم، هنا تاتي كتابة المدينة تذكرها كرد فعل متألق على هيئة استعادة ذهنية..رد فعل هذا هو المسكوت عنه والمعلن عنه بأختزال شديد، فعلى الغلاف الداخلي السطر الاخير هو التالي (كتب خلال 1982-1990) ويتكرر الامر في التقديم/ص5.
(3)
وقائعية الخطاب مقصودة لكنها وقائعية تلقائية لاتمد جذورها في الكتب والمراجع، انها توثيق ذاكرة اولى تكون فيه (الصور ضمن الوانها في الذاكرة وحتى ضمن غموضها الاثير او اختلاطاتها الغريبة) ذلك لان فعل الكتابة هنا فعل تذكر يتم من خلاله (رسم المدينة بريشة الذاكرة الاولى والذاكرة الاولى احيانا لاتسعفها ذاكرتها على التذكر، فتستعين بذاكرة اخرى مجاورة لها ويمكن اعتبار الذاكرة الثانية مرجع شفاهي (ام الشاعر9 كما هو الحال في فصل (ذكريات/ص45): (وتحدثنا أمس عن سنوات لم نكن قد ولدنا الا بعد مرورها عاما/54) وهناك ذاكرة ثالثة (ويحدثنا اخي الاكبر عن تلك الايام حين كنا في الابتدائية/ص61)..المؤلف/الشاعر غير معني بالبصرة كلها، وله الحق في ذلك انه يتجول في أزقتها/مقاهيها/دور السينما/الخان/أغاني الخميس/طقوس العبادة/الاعياد/علامات البصرة البشرية..الخ لكنه يتوضع في (جنة البستان) ولا أعني البصرة كلها بل تلك البقعة المباركة العزيزة على قلب الشاعر وروحه وذاكرته الكائنة خلف المقصب/ في منطقة/الساعي/ (وخرجنا من المقصب..قطعنا طريقنا في العودة عبر دروب نعرفها من (أيام البستان) ولكننا مررنا بها هذه المرة تحت جنح الظلام/1994-1995) والبستان كما تصفه الام (جنة من الاعناب امام الكوارث الطبيعية التي تهدد جمال البستان) (أقول: يا أمي ان البستان جميل) فتقول:(لو رأيته قبل الفيضانين/58) والشاعر جاء الى الوجود بعد ان تحول جنة البستان من واقع معيش الى ذكرى (جئت الى الدنيا/بعد الطوفان الثاني/الذي ذهب بما تبقى من جنة البستان/ على حد قوله في (مدخل) يلي الـ(تقديم).
والشاعر لايرى المدينة الا من خلال تموضعه البيتي (استؤنفت الاعمال في الطريق الجديد الموازي للنهر والمتاخم للبستان) انبسط الامتداد الواسع الذي سيستقل السيارات والحافلات والشاحنات..فيصبح الطريق الجديد طريقا للعودة من العشار الى البصرة القديمة..كنا دائمي النظر الى ذلك الطريق عبر النهر..نتامل انواعا من عمال الطرق ومكافحة الامراض المتوطنة والحشرات/45) وكذلك في قوله (لم تكف السفن النهرية (المهيلات) عن القدوم الى هنا في موسم جني التمور/ص48 نرى ان المشاهد كلها (مبارة) اي ان المتغيرات الفاعلة في البنية الاجتماعية يراها المتذكر من خلال تموضعه البيتي الثابت.
(4)
لنفكك العنوان كالتالي، من تموضع الشاعر الثابت يمكن ان نتشق هذا العنوان (طفولتي:جنة البستان) والعنوان معبر بحق عن الهوية الذاتية لخطاب التذكر، لكن قراءتنا ترى ان هذا الجزء ينتمي الى كلية مكانية هي الاكثر جمالا في عيني الشاعر وفي عيون البصريين فيكون العنوان هو (البصرة:جنة البستان) ان البصرة كلها جميلة والبستان في عيني الشاعر: هو البصرة كلها..اذن البستان هو الجمال كله..ألم يقل ذلك الصحابي (الدنيا:بصرة).
(5)
خطاب التذكر في (جنة البستان) عبر ثنائية نصية يتحرك:
(1): نص سردي تفصيلي/ وقائعي. (2) نص شعري يميل الى القصر.
تسبق النصين عتبة نصية تتكون من (1) تقديم (2) مدخل شعري قصير محدد فترة مجيء الشاعر الى الوجود، والنص الشعري اشبه مايكون تتمة شعرية تاليته لنص نثري كما هو الحال مع قصيدة (عيسى عمران) فهو يحدثنا عن الشخص ذاته في الفصل الحادي عشر (أطياف اولى/ص228) او يكون النص النثري أشبه بتفكيك سردي للنص الشعري الذي يسبقه كما هو الحال في الفصل ذاته الذي يبدا بقصيدة (البيت الاول) (225-226) يلي ذلك النص النثري حول البيت نفسه (227-228-229) وبهذه الثنائية النصية يتصل (جنة البستان) بكتاب (مطالع السعود) لعثمان بن سند، حيث يترافقان الشعري/النثري في مسيرة الكتاب..في مطلع فصل (ولاية سليمان باشا الكبير) يعمد ابن سند الى الوحدة السردية الصغرة التالية (جاءه البشير بآياتها والبسه حلة زعامتها وكفالتها) ثم يفكك هذه الوحدة شعريا مستعملا مجزوء المتقارب بأربعة ابيات، وكذلك يفعل مهدي محمد علي فهو يبدأ الفصل الثاني بقصيدة (تلك الجنة/ص25) وهي وجيز شعري لما سوف يسرده علينا بعد ذلك في/ص58.
(6)
بصريانثا: تتكون من جنسين أدبيين (1) نصوص سردية على هيئة فصول هي محتويات الكتاب(2) نصوص فوتوغرافية تتصدر الفصول كافة بأستثناء (حلم نهر) النصوص الفوتوغرافية تشكل من جانب اخر/ اغلفة داخلية للفصول ويمكن ان نطلق عليها اغلفة فرعية/مسبوقة بالغلاف الرئيس للكتاب. على حد العنوان التفسيري بصرياثا/ صورة مدينة..
هذه الصورة المتكونة من صور الاغلفة الداخلية/الفرعية.
وصورة المدينة: سيرتها فوتوغرافيا وثمة علاقة تجاور في الصوت بين صورة/سيرة ومن الممكن للقاص الماهر ان تتحول على يديه الصورة الى سيرة حين ينظر الى الصورة بعين المخيلة القصصية وعين التذكر الوقائعي كما فعل الروائي الجزائري رشيد بوجدرة في روايته (التفكك) التي تدور حول خمسة من قياديي الحزب الشيوعي الجزائري تجمعهم صورة فوتوغرافية واحدة..والقاص العراقي محمود عبد الوهاب في رائعته (سيرة/احدى قصص مجموعته “رائحة الشتاء”).
(7)
كتاب الشاعر مفتوح، نهايته نسبية، وهو كتاب تذكر. والذاكرة بين (1982-1990) قالت (بعض):الاكل ما لديها..خشية على الذين في داخل الوطن..الان وتحديدا 2003 هل بمقدورها ان تستقبل الماضي؟ هل التذكر هو الاجراء الوقائي الذي يوقف عن البصرة: الخراب(هذا الكتاب بحاجة دائما الى طبعة مزيدة مادامت البصرة تعاني الخراب تلو الخراب/ص7)..القارىء يقرأ الذكريات لتستفز ذاكرته على المقارنة بين بصرتين:بصرة الخمسينات (أعوام البهجة) وبصرة الثمانينات:القمع/اعدامات الجملة في السجون/ القتل في الحرب التي استاجرونا فيها لنقاتل الجارة ايران نيابة عنهم او الموت جماعيا في حفرة يطلق عليها مجازا مقابر جماعية او المرقنة قيودهم لانهم ليس من العرب الاقحاح كما يريد لهم النظام..
ان (الكتاب يشيخ ايضا)هل هناك من ينوب عن المؤلف لتجديد شباب الكتاب وانقاذه من حتمية الشيخوخة؟ ذلك مايخبرنا به مؤلف بصرياثا وهو يتركنا في متاهة ميتافيزيقية توصلنا الى حافات رؤى بورخس او على عتبة من عتبات مدن كالفينو اللامرئية (لأن الطريق الصاعد هو الطريق النازل، فقد تصورت بصرياثا مدينتين كنت موجودا فيهما في آن واحد/ص15 بصرياثا) ان الفهم الميتافيزيقي للوجود الذي يؤكد على اولوية الوعي على المادة نلمسه واضحا في (ص12-13) ان شعرية التضاد في السرد لذيذة جدا كاسلوب ولكن كفكر يجعلنا نتمهل متفكرين به..كيف يحدث ذلك (قبل طروادة كانت الالياذة) اين كانت طروادة؟ او في قوله (فوجودنا الاول في مكان هو بداية الخلق اما انتقالنا الى مكان اخر فهو استمرار خلق لا اعادة خلق/ص14).
هل اصبح القاص مؤلفا للكتاب عبر بريد تناسخ الارواح(هناك من كان يشبهني بين الخلطاء زاحم الجاحظ وصنف كتاب بصرياثا عاش الكتاب قبلي وكان سيؤلفه واحد غيري لا اعرفه لولا انه ارسله الى عنواني الذي لم يكن ليوجد لولا المدينة) كما تستوقفنا هذه التخريجات الميتافيزيقية التالية: ماكانت بصرياثا لو لم استولدها، لو لم أستولد خططها في هذا الكتاب) (نطفة هذا الكتاب قدمت من العدم) (لتمنح اسما لوليد عليم بولادته) (لان ولادته تكررت مرات ومرات)..يمكن لاستجابة القاريء التقدمية المنحى ان تستقبل المقوسات الانفة الذكر عندما توظف في نص شعري، لكن تواجدها كوحدات سردية صغرى تجعلها عصية على مثل هذه الاستجابة.
(8)
القاص الذي في (محمد خضير) هو الذي كتب (بصرياثا) بعد كتابته (المملكة السوداء) و(45مئوى) اي القاص المسلح بخبرة قصصية متميزة والتي جعلته متفردا في حقل اختصاصه الابداعي.. والقاص في بصرياثا يتمرن على كتابة قصص قادمة اذن يمكن اعتبار (كتاب بصرياثا) مشغلاً قصصياً (اريد لكتابي هذا ان يمهد للقصص التي تاتي بعده/ص13) ان مقاطع قصيرة من السيرة الذاتية للقاص محمد خضير موجودة في الكتاب (مدينة متنقلة/ القسم الثالث/ص112/ يوميات الحرب/135)..اسلوبيا يستمر القاص في تشغيل مخيلته القصصية في بصرياثا فنحن لانلاقي اليبوسة التي سنلاقيها في كتاب سيرى/ مديني كما هو الامر في كتاب الروائي عبد الرحمن منيف (عمان/ سيرة مدينة) واذا كان مهدي معنيا اساسا بمكان معين ثم يسعى للابتعاد عن مرز الدائرة/البستان) فان محمد يتنقل بين الامكنة كافة، فمن مائيات أبي الخصيب الى رمال عين الجمل ومن حلم نهر الى مدينة متنقلة وهو يوزع علينا (عطايا الجمعة) ثم يدعونا الى وليمة تقام في مقبرة ام البروم وهو ايضا يتنقل في الازمنة ابتداءا من عام الطاعون الاكبر (1831/ص39) وانتهاءا بالنار التي اشعلها الطاغية نيابة عن اسياده ضد ايران (يوميات الحرب/135) في البصرة جنة البستان الشاعر يلتزم بما اعلنه في العنوان الذرائعي للكتاب (البصرة في خمسينيات القرن العشرين) حيث ينتهي مع بداية ثورة 14 تموز الخالدة/ص335.
(9)
اذا كان الشاعر يعتمد على الذاكرة الاولى فأن القاص يسلّح ذاكرته بالمراجع والمصادر ليدخل مدينته ليتعرف من الداخل اليها انه يستعير ذاكرات مستشرقين/فلاسفة/حكماء، ليعزز رؤيته هو انه يستعير عيونا اجنبية ليرى المحلي/ الخاص/الحميم/ منذ الفصل الاول ونحن نرى المدينة والبصرة مدينة (حسب تحديد فوكو/ص15) والمواطن الابدي هو النموذج السقراطي/ص18 ونتصالح مع التناقض في المدينة على وفق حكمة الغرب/ص21 وندخل الى عين الجمل من خلال قيادة ثيسيغر لنا في رمال العرب واذا انحدرنا في شط العرب فبرفقة (مدام ديلافوا/ص56) عام 1881 ثم تختفي المدام ليظهر اخرون (نيبور) (تافرينه) (باسنز) ان الاخر هو الذي يحسسنا بجمالية المكان الخاص بنا، واذا اردنا الدقة المعلوماتية فأننا نستعين بالمعلومة ذات الاصل التاريخي (وكان البلاذري قد ذكر (120) الف نهر/58 أو (البصرة أرض نخل قال عبد الرحمن بن أبي بكرة غارسا اول فسيلة في رمال المدينة البصرة/ص81) (ومن البصرة نقل البستاني (عكبوبة) الفسائل الى بغداد) وفي احيان اخر نتجول في البصرة القديمة برفقة مؤرخ بصري حديث (يوسف ناصر العلي/81) نصغي الى السياب/كاظم الحجاج/حسين عبد اللطيف/محمود عبد الوهاب وابي حاتم في كتاب (النخل) ومحمود احمد السيد وهو على ظهر السفينة (باجورا) ونحن نتوغل في (جنة البستان) سنرى تومان/احمد الوطن/ الخياط حميد علوان/ العم نجف…الخ.
(10)
الكتابان لذيذان وكل منهما له منظور خاص يرصد من خلاله المدينة في تحولاتها.
(11)
انعدام المسافة بين القاص والمدينة جعلته يشتغل على النول/ المخيلة القصصية او يستعين بعين كان بينها وبين المدينة مسافة المراقب/ الراصد لا العائش فيها حد التماهي.
(12)
انتباذ الشاعر عن المدينة: انتباذ قسري دفعته اليه آليات القمع السياسي حاول الشاعر العود للمدينة انتقاما من قسرية الانتباذ فأستعان بريشة ذاكرته الاولى.
(13)
بصرياثا: المدينة مقروءة بمراجع محلية/ عربية/ استشراقية.
جنة البستان: استعادة المدية عبر الذاكرة الاولى.
بصرة/ صيف 2003.
ان الشاعر يستعيد المدينة بذاكرة الطفل الذي كان (غايتي الاساسية هي رسم المدينة بريشة المذاكرة الاولى وبحدود امكانيتي المؤرخة وخلاف ذلك يعني التخلي عن المخزون الطفولي التلقائي) من هذه الغاية المعلنة يتشقق السؤال التالي: من الذي يقوم بالتوصيف لفترة الخمسينات الطفل مهدي محمد علي، أم الشاعر المنفي مهدي؟.. ان الاستعادة مزدوجة القيمة فهي استعادة ما يأخذه الزمان عبر حركيته الطبيعية من الكائنات الحية وغير الحية، كما انها استعادة ما استلبته المنافي من العراقي الشاعر وعلى حد قول قاص وروائي عراقي (ان الذكريات والاصالة عند المنفيين هي كالنواة في الخلية، اذا تشوهت واضطربت فأنها تصيبهم بسرطان روحي قاتل) والشاعر مهدي محمد علي لصيق بالمكان لائذ به لانه منتزع منه، لقد انتزعته مخالب لامثيل لشراستها في العالم، هنا تاتي كتابة المدينة تذكرها كرد فعل متألق على هيئة استعادة ذهنية..رد فعل هذا هو المسكوت عنه والمعلن عنه بأختزال شديد، فعلى الغلاف الداخلي السطر الاخير هو التالي (كتب خلال 1982-1990) ويتكرر الامر في التقديم/ص5.
(3)
وقائعية الخطاب مقصودة لكنها وقائعية تلقائية لاتمد جذورها في الكتب والمراجع، انها توثيق ذاكرة اولى تكون فيه (الصور ضمن الوانها في الذاكرة وحتى ضمن غموضها الاثير او اختلاطاتها الغريبة) ذلك لان فعل الكتابة هنا فعل تذكر يتم من خلاله (رسم المدينة بريشة الذاكرة الاولى والذاكرة الاولى احيانا لاتسعفها ذاكرتها على التذكر، فتستعين بذاكرة اخرى مجاورة لها ويمكن اعتبار الذاكرة الثانية مرجع شفاهي (ام الشاعر9 كما هو الحال في فصل (ذكريات/ص45): (وتحدثنا أمس عن سنوات لم نكن قد ولدنا الا بعد مرورها عاما/54) وهناك ذاكرة ثالثة (ويحدثنا اخي الاكبر عن تلك الايام حين كنا في الابتدائية/ص61)..المؤلف/الشاعر غير معني بالبصرة كلها، وله الحق في ذلك انه يتجول في أزقتها/مقاهيها/دور السينما/الخان/أغاني الخميس/طقوس العبادة/الاعياد/علامات البصرة البشرية..الخ لكنه يتوضع في (جنة البستان) ولا أعني البصرة كلها بل تلك البقعة المباركة العزيزة على قلب الشاعر وروحه وذاكرته الكائنة خلف المقصب/ في منطقة/الساعي/ (وخرجنا من المقصب..قطعنا طريقنا في العودة عبر دروب نعرفها من (أيام البستان) ولكننا مررنا بها هذه المرة تحت جنح الظلام/1994-1995) والبستان كما تصفه الام (جنة من الاعناب امام الكوارث الطبيعية التي تهدد جمال البستان) (أقول: يا أمي ان البستان جميل) فتقول:(لو رأيته قبل الفيضانين/58) والشاعر جاء الى الوجود بعد ان تحول جنة البستان من واقع معيش الى ذكرى (جئت الى الدنيا/بعد الطوفان الثاني/الذي ذهب بما تبقى من جنة البستان/ على حد قوله في (مدخل) يلي الـ(تقديم).
والشاعر لايرى المدينة الا من خلال تموضعه البيتي (استؤنفت الاعمال في الطريق الجديد الموازي للنهر والمتاخم للبستان) انبسط الامتداد الواسع الذي سيستقل السيارات والحافلات والشاحنات..فيصبح الطريق الجديد طريقا للعودة من العشار الى البصرة القديمة..كنا دائمي النظر الى ذلك الطريق عبر النهر..نتامل انواعا من عمال الطرق ومكافحة الامراض المتوطنة والحشرات/45) وكذلك في قوله (لم تكف السفن النهرية (المهيلات) عن القدوم الى هنا في موسم جني التمور/ص48 نرى ان المشاهد كلها (مبارة) اي ان المتغيرات الفاعلة في البنية الاجتماعية يراها المتذكر من خلال تموضعه البيتي الثابت.
(4)
لنفكك العنوان كالتالي، من تموضع الشاعر الثابت يمكن ان نتشق هذا العنوان (طفولتي:جنة البستان) والعنوان معبر بحق عن الهوية الذاتية لخطاب التذكر، لكن قراءتنا ترى ان هذا الجزء ينتمي الى كلية مكانية هي الاكثر جمالا في عيني الشاعر وفي عيون البصريين فيكون العنوان هو (البصرة:جنة البستان) ان البصرة كلها جميلة والبستان في عيني الشاعر: هو البصرة كلها..اذن البستان هو الجمال كله..ألم يقل ذلك الصحابي (الدنيا:بصرة).
(5)
خطاب التذكر في (جنة البستان) عبر ثنائية نصية يتحرك:
(1): نص سردي تفصيلي/ وقائعي. (2) نص شعري يميل الى القصر.
تسبق النصين عتبة نصية تتكون من (1) تقديم (2) مدخل شعري قصير محدد فترة مجيء الشاعر الى الوجود، والنص الشعري اشبه مايكون تتمة شعرية تاليته لنص نثري كما هو الحال مع قصيدة (عيسى عمران) فهو يحدثنا عن الشخص ذاته في الفصل الحادي عشر (أطياف اولى/ص228) او يكون النص النثري أشبه بتفكيك سردي للنص الشعري الذي يسبقه كما هو الحال في الفصل ذاته الذي يبدا بقصيدة (البيت الاول) (225-226) يلي ذلك النص النثري حول البيت نفسه (227-228-229) وبهذه الثنائية النصية يتصل (جنة البستان) بكتاب (مطالع السعود) لعثمان بن سند، حيث يترافقان الشعري/النثري في مسيرة الكتاب..في مطلع فصل (ولاية سليمان باشا الكبير) يعمد ابن سند الى الوحدة السردية الصغرة التالية (جاءه البشير بآياتها والبسه حلة زعامتها وكفالتها) ثم يفكك هذه الوحدة شعريا مستعملا مجزوء المتقارب بأربعة ابيات، وكذلك يفعل مهدي محمد علي فهو يبدأ الفصل الثاني بقصيدة (تلك الجنة/ص25) وهي وجيز شعري لما سوف يسرده علينا بعد ذلك في/ص58.
(6)
بصريانثا: تتكون من جنسين أدبيين (1) نصوص سردية على هيئة فصول هي محتويات الكتاب(2) نصوص فوتوغرافية تتصدر الفصول كافة بأستثناء (حلم نهر) النصوص الفوتوغرافية تشكل من جانب اخر/ اغلفة داخلية للفصول ويمكن ان نطلق عليها اغلفة فرعية/مسبوقة بالغلاف الرئيس للكتاب. على حد العنوان التفسيري بصرياثا/ صورة مدينة..
هذه الصورة المتكونة من صور الاغلفة الداخلية/الفرعية.
وصورة المدينة: سيرتها فوتوغرافيا وثمة علاقة تجاور في الصوت بين صورة/سيرة ومن الممكن للقاص الماهر ان تتحول على يديه الصورة الى سيرة حين ينظر الى الصورة بعين المخيلة القصصية وعين التذكر الوقائعي كما فعل الروائي الجزائري رشيد بوجدرة في روايته (التفكك) التي تدور حول خمسة من قياديي الحزب الشيوعي الجزائري تجمعهم صورة فوتوغرافية واحدة..والقاص العراقي محمود عبد الوهاب في رائعته (سيرة/احدى قصص مجموعته “رائحة الشتاء”).
(7)
كتاب الشاعر مفتوح، نهايته نسبية، وهو كتاب تذكر. والذاكرة بين (1982-1990) قالت (بعض):الاكل ما لديها..خشية على الذين في داخل الوطن..الان وتحديدا 2003 هل بمقدورها ان تستقبل الماضي؟ هل التذكر هو الاجراء الوقائي الذي يوقف عن البصرة: الخراب(هذا الكتاب بحاجة دائما الى طبعة مزيدة مادامت البصرة تعاني الخراب تلو الخراب/ص7)..القارىء يقرأ الذكريات لتستفز ذاكرته على المقارنة بين بصرتين:بصرة الخمسينات (أعوام البهجة) وبصرة الثمانينات:القمع/اعدامات الجملة في السجون/ القتل في الحرب التي استاجرونا فيها لنقاتل الجارة ايران نيابة عنهم او الموت جماعيا في حفرة يطلق عليها مجازا مقابر جماعية او المرقنة قيودهم لانهم ليس من العرب الاقحاح كما يريد لهم النظام..
ان (الكتاب يشيخ ايضا)هل هناك من ينوب عن المؤلف لتجديد شباب الكتاب وانقاذه من حتمية الشيخوخة؟ ذلك مايخبرنا به مؤلف بصرياثا وهو يتركنا في متاهة ميتافيزيقية توصلنا الى حافات رؤى بورخس او على عتبة من عتبات مدن كالفينو اللامرئية (لأن الطريق الصاعد هو الطريق النازل، فقد تصورت بصرياثا مدينتين كنت موجودا فيهما في آن واحد/ص15 بصرياثا) ان الفهم الميتافيزيقي للوجود الذي يؤكد على اولوية الوعي على المادة نلمسه واضحا في (ص12-13) ان شعرية التضاد في السرد لذيذة جدا كاسلوب ولكن كفكر يجعلنا نتمهل متفكرين به..كيف يحدث ذلك (قبل طروادة كانت الالياذة) اين كانت طروادة؟ او في قوله (فوجودنا الاول في مكان هو بداية الخلق اما انتقالنا الى مكان اخر فهو استمرار خلق لا اعادة خلق/ص14).
هل اصبح القاص مؤلفا للكتاب عبر بريد تناسخ الارواح(هناك من كان يشبهني بين الخلطاء زاحم الجاحظ وصنف كتاب بصرياثا عاش الكتاب قبلي وكان سيؤلفه واحد غيري لا اعرفه لولا انه ارسله الى عنواني الذي لم يكن ليوجد لولا المدينة) كما تستوقفنا هذه التخريجات الميتافيزيقية التالية: ماكانت بصرياثا لو لم استولدها، لو لم أستولد خططها في هذا الكتاب) (نطفة هذا الكتاب قدمت من العدم) (لتمنح اسما لوليد عليم بولادته) (لان ولادته تكررت مرات ومرات)..يمكن لاستجابة القاريء التقدمية المنحى ان تستقبل المقوسات الانفة الذكر عندما توظف في نص شعري، لكن تواجدها كوحدات سردية صغرى تجعلها عصية على مثل هذه الاستجابة.
(8)
القاص الذي في (محمد خضير) هو الذي كتب (بصرياثا) بعد كتابته (المملكة السوداء) و(45مئوى) اي القاص المسلح بخبرة قصصية متميزة والتي جعلته متفردا في حقل اختصاصه الابداعي.. والقاص في بصرياثا يتمرن على كتابة قصص قادمة اذن يمكن اعتبار (كتاب بصرياثا) مشغلاً قصصياً (اريد لكتابي هذا ان يمهد للقصص التي تاتي بعده/ص13) ان مقاطع قصيرة من السيرة الذاتية للقاص محمد خضير موجودة في الكتاب (مدينة متنقلة/ القسم الثالث/ص112/ يوميات الحرب/135)..اسلوبيا يستمر القاص في تشغيل مخيلته القصصية في بصرياثا فنحن لانلاقي اليبوسة التي سنلاقيها في كتاب سيرى/ مديني كما هو الامر في كتاب الروائي عبد الرحمن منيف (عمان/ سيرة مدينة) واذا كان مهدي معنيا اساسا بمكان معين ثم يسعى للابتعاد عن مرز الدائرة/البستان) فان محمد يتنقل بين الامكنة كافة، فمن مائيات أبي الخصيب الى رمال عين الجمل ومن حلم نهر الى مدينة متنقلة وهو يوزع علينا (عطايا الجمعة) ثم يدعونا الى وليمة تقام في مقبرة ام البروم وهو ايضا يتنقل في الازمنة ابتداءا من عام الطاعون الاكبر (1831/ص39) وانتهاءا بالنار التي اشعلها الطاغية نيابة عن اسياده ضد ايران (يوميات الحرب/135) في البصرة جنة البستان الشاعر يلتزم بما اعلنه في العنوان الذرائعي للكتاب (البصرة في خمسينيات القرن العشرين) حيث ينتهي مع بداية ثورة 14 تموز الخالدة/ص335.
(9)
اذا كان الشاعر يعتمد على الذاكرة الاولى فأن القاص يسلّح ذاكرته بالمراجع والمصادر ليدخل مدينته ليتعرف من الداخل اليها انه يستعير ذاكرات مستشرقين/فلاسفة/حكماء، ليعزز رؤيته هو انه يستعير عيونا اجنبية ليرى المحلي/ الخاص/الحميم/ منذ الفصل الاول ونحن نرى المدينة والبصرة مدينة (حسب تحديد فوكو/ص15) والمواطن الابدي هو النموذج السقراطي/ص18 ونتصالح مع التناقض في المدينة على وفق حكمة الغرب/ص21 وندخل الى عين الجمل من خلال قيادة ثيسيغر لنا في رمال العرب واذا انحدرنا في شط العرب فبرفقة (مدام ديلافوا/ص56) عام 1881 ثم تختفي المدام ليظهر اخرون (نيبور) (تافرينه) (باسنز) ان الاخر هو الذي يحسسنا بجمالية المكان الخاص بنا، واذا اردنا الدقة المعلوماتية فأننا نستعين بالمعلومة ذات الاصل التاريخي (وكان البلاذري قد ذكر (120) الف نهر/58 أو (البصرة أرض نخل قال عبد الرحمن بن أبي بكرة غارسا اول فسيلة في رمال المدينة البصرة/ص81) (ومن البصرة نقل البستاني (عكبوبة) الفسائل الى بغداد) وفي احيان اخر نتجول في البصرة القديمة برفقة مؤرخ بصري حديث (يوسف ناصر العلي/81) نصغي الى السياب/كاظم الحجاج/حسين عبد اللطيف/محمود عبد الوهاب وابي حاتم في كتاب (النخل) ومحمود احمد السيد وهو على ظهر السفينة (باجورا) ونحن نتوغل في (جنة البستان) سنرى تومان/احمد الوطن/ الخياط حميد علوان/ العم نجف…الخ.
(10)
الكتابان لذيذان وكل منهما له منظور خاص يرصد من خلاله المدينة في تحولاتها.
(11)
انعدام المسافة بين القاص والمدينة جعلته يشتغل على النول/ المخيلة القصصية او يستعين بعين كان بينها وبين المدينة مسافة المراقب/ الراصد لا العائش فيها حد التماهي.
(12)
انتباذ الشاعر عن المدينة: انتباذ قسري دفعته اليه آليات القمع السياسي حاول الشاعر العود للمدينة انتقاما من قسرية الانتباذ فأستعان بريشة ذاكرته الاولى.
(13)
بصرياثا: المدينة مقروءة بمراجع محلية/ عربية/ استشراقية.
جنة البستان: استعادة المدية عبر الذاكرة الاولى.
بصرة/ صيف 2003.