في العشرينات من هذا القرن، وفي أحضان ثورة 1919 القومية في مصر نشأت المدرسة الحديثة في القصة المصرية على يد كل من محمود تيمور وعيسى عبيد وطاهر لاشين(1)، وفي أحضان ثورة العشرين الوطنية في العراق نشأت القصة العراقية على يد محمود أحمد السيد. إلا أن مصطلح الحداثة الذي أطلقه يحيى حقي على القصة التي كتبها جيل العشرينات ظل يطلق على أجيال عديدة لاحقة، بينما خصص مصطلح الحداثة لوصف القصة العراقية التي كتبها كل من نزار سليم وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي في الخمسينيات من هذا القرن. بالرغم من أن محمود السيد كتب القصة الحديثة منذ نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات التي شهدت ظهور قصاصين محدثين كأنور شاؤول ويوسف مكمل ويوسف متي وبالرغم من النضج الفني والحداثة الفنية التي اتسمت بها أقاصيص السيد في تلك الحقبة، ولا سيما مجموعته القصصية “في ساع من الزمن” الصادر عام 1935.
ولا أريد أن أقف لأناقش هذا الأمر مطولاً، إذ يمكن القول بوجود حداثات متعددة، وأن ثمة ما هو مشترك بين هذه الحداثات. إلا أن إطلاق مصطلح الحداثة على جيل الستينيات من القصاصين العرب، سواء في مصر أو العراق أو أي قطر عربي آخر، فيه من الخلل الشيء الكثير، والنقاد المصريون لا يجمعون على ذلك، فعلى حين وصفت التيارات الجديدة في القصة المصرية بالحداثة لدى بعض النقاد، نجد بعض النقاد يتردد في إطلاق هذا المصطلح مستبدلاً به مصطلح “القصة الجديدة”(2) ليميز هذه القصة الجديدة عن الاتجاهات الحديثة التي شهدتها القصة المصرية قبل الستينيات.
والحقيقة أن الكثير من الظواهر الفنية التي اتسمت بها القصة الستينية لا تنتمي إلى الحداثة بقدر ما تنتمي إلى “ما بعد الحداثة postmodemty”. وعلى الرغم من أن استراتيجيات ما بعد الحداثة غير مستقرة تماماً حتى يومنا هذا، فإن العودة إلى الماضي وإلى التاريخ، والتقطيع السردي، والتغريب، والعجائبي والسحري، وتأمل النص لذاته وإقحام الهامش، وتداخل الأجناس الأدبية والفنية والاحتفال بالعلمي والمعرفي والمعرفة الملغزة، وانفتاح النص على كل ذلك من جهة، وعلى القراءة من جهة أخرى، كلها ظواهر فنية تلتقي مع استراتيجيات ما بعد الحداثة.
وعلى هذا يمكن القول إن النص ما بعد الحداثوي نشأ في الأدب العربي مع جيل الستينات، وصحيح أن هذه النشأة كانت غامضة وملتبسة في العقد الستيني، لكن السبعينات وما بعدها شهدت تبلوراً واضحاً لكل هذه الاستراتيجيات في القص، ولكن الذي حقق كل ذلك هو جيل الستينات. وأن أسهم معهم فيما بعد قصاصون ينتمون إلى العقود اللاحقة، وهو أمر طبيعي جداً.
منذ زمن ليس بالقصير تلح علي فكرة أن الدعوة إلى أدب جديد، وأدب للكتابة كما دعاه بارت، وما يتحقق من هذا الجديد إن هو إلا امتداد واستمرار، وتطوير أحياناً لما بدأه الكاتب والشاعر المسرحي الألماني بريخت، ذلك أن ما تقدم ذكره من ظواهر واستراتيجيات يبدو على وفاق تام مع استراتيجيات(2) مسرح بريخت وبسكاتور وما حققاه من تغريب في مسرحهما. كما وجدت أن التغريب في النص القصصي يؤدي إلى انفتاح النص، وأن العكس صحيح في غالب الأحيان ومن هنا جاء عنوان هذه الدراسة القصيرة.
بدءاً ساحدّ التغريب مؤقتاً بأنه “كل خروج ما هو مألوف في ثقافة جماعة بشرية معينة، بحيث يؤدي إلى ارباك قناعات المتلقي وخلخلة مسلماته ويدفعه إلى إعادة النظر فيها”. ومن المعروف أن مفهوم التغريب هو وليد الشكلانية الروسية والشكلانيين الجيك والبولندين، الذين أبانوا بأن الشيء حين ينقل من متواليته في الواقع إلى متوالية جديدة في الفن، يصبح غرائبياً، فحين يقول بودلير: “الجثة كانت قدماها في الفضاء مثل امرأة شبقة” فإنه يكسب الجثة بكلماته التي يشكلها بها من جديد، دلالة جديدة، وغريبة، وهنا تكمن وظيفة الفن فالرؤية الفنية الجديدة للشيء -الجثة (هنا)، هي التي تحمينا من الأتمتة والصدأ الذي يهدد تصورنا للحب والكراهية والتمرد والتصالح والإيمان والجحود”(4) حسب تعبير ياكبسون، أي أنها تجدد رؤيتنا للأشياء والمفاهيم في هذا العالم، تلك الرؤية التي واتتني تغلف رؤيتنا الواقعية للأشياء بالأتمتة والصدأ والابتذال والتفاهة والعقم.
وينتج عن هذا المفهوم، أن المادة في الواقع غير المادة في الفن، وما ندعوه واقعياً في الفن هو مجرد وهم، إذ ينبغي “تجريد .. الشيء من تشاركاته العادية” لكي يصبح عنصراً في متوالية فنية كما يقول شكلوفسكي، أي يصبح مبيناً، فلا يعود نفس ذلك الشيء أو العنصر في الواقع.
وبالرغم من أن الشكلانيين يوجهون ضربة للمفاهيم الكلاسيكية عن الفن، التي يعد الإيهام بالواقع مطلباً أساسياً ومشتركاً فيها، فإن جذور هذا الفهم الجديد للفن قائمة لدى الكلاسيكيين والواقعيين والرومانسيين، إذ يتطلب الفن لدى الكلاسيكيين “المدهش” ولدى الواقعيين (الخاص). وقد جهد شاتوبريان الرومانسي ليبرهن في “عبقرية المسيحية” بأن (المدهش) الذي يصبح مادة للأدب موجود في الكتاب المقدس، ويقترب مفهوم الخاص الذي ينبغي أن يرتبط بالعام لدى الواقعيين، من الاستثنائي، ومن هنا كان احتفال لوكاش وتمجيده لتلك الشخصيات التي قلما نجد في الواقع مثيلاً لها: هاملت لدى شكسبير، وفاوست لجوته، ودونكيخوته لسرفانتس!
أعود إلى مسرح بريخت الملحمي وما عرف به من تغريب، لأشير إلى ما أكده تيري ايغلتن من أن “رولان بارت” كان بطلاً قديماً لمسرح بريخت في فرنسا، وأنه نشر مقالاً حماسياً عن هذا المسرح عام 1964 وتضمنه كتابه (مقالات نقدية) وإلى إشاراته -أي ايغلتن- إلى أن مفهوم بارت للغة والأدب، والكلمة التي تلمح إلى وجودها المادي، في الوقت الذي تنقل فيه معنى، هي حفيدة اللغة الغربية [كذا] للشكلين والتركيبين الجيكيين وللكلمة الشاعرية لياكبسون التي تتباهى بكيانها اللغوي الواضح”(5) وهكذا يكون مسرح بريخت الملحمي، وسيطأ لنقل المفاهيم التي نادى بها الشكلانيون إلى الأدباء والنقاد في غرب أوربا، بعد أن أصبحت الوسائل التغريبية للشكلانيين “أدوات شعرية وسينمائية ومسرحية لغرض عدم تطبيع.. المجتمع”(6) وتغريبه، ولدى العديد من الأدباء والفنانين في جمهورية فايمار الألمانية في العشرينات من هذا القرن.
إذا كان مفهوم التغريب يعود إلى العشرينات من هذا القرن، فإن التغريب نفسه يعود إلى أبعد من ذلك. وإلى القرن التاسع عشر، ذلك أن رواية (تريستام شاندي) تعد من أقدم النصوص التي عرفت نوعاً من التغريب بات شائعاً في النصوص الروائية اليوم، إذ يقع التأكيد في هذه الرواية على شكل الرواية، بحيث يصبح هذا الشكل عمق الرواية ذاته، كما أوضح شكلوفسكي(6) الذي أعاد لها هو وغيره من الشكلانيين -الاعتبار بعد أن عاملها النقد طويلاً على أنها مجرد ثرثرة فارغة، ومن الطبيعي أن النص حين يتأمل ذاته، يكسرني ذات الوقت جدار الوهم ويزيحه من أمام أبصار القراء.
وقد توافق مع مسرح بريخت في ألمانيا، صدور رواية “مزيفو النقود” لاندريه جيد في فرنسا، ويبدو أن جيد لم يكن يقصد إلى تغريب موضوعة الرواية بقدر ما كان يهدف إلى كتابة رواية جديدة على غرار السمفونية، متأثراً ببعض اللوحات الفنية التي كانت تضم مرآة داخلية تعكس المشهد المرسوم، وجد فيها جيد تقنية من شأنها توطيد النسب والعلاقات في الرواية(8)، ومن هنا فإن جيد يجعل كاتب الرواية -ادوار- الذي يدون مذكرات يسرد فيها قصة كتابته للرواية. واحداً من شخصيات الرواية، وبسبب هذا فقد اختزل “التغريب” إلى حده الأدنى.
لقد باتت كتابة نصوص قصصية تتأمل ذاتها، وتهدم جدار الوهم من أمام القارئ مشركة إياه في مغامرة الكتابة، وشائعة في عالم (القصة والرواية اليوم وسنعرج على بعض النصوص الروائية والقصصية في الأدب العربي الحديث. من تلك التي تحفل بمثل هذا التغريب، عارضين لأبسط أنواع التغريب أولاً ثم أنواعه الأكثر تعقيداً. )
وبدءاً ينبغي أن نميز بين نمطين من التغريب، أحدهما ينبع من نزعة تعليمية إصلاحية يحفل بها القصص الواقعي، دون أن يكون للقاص قصدية في التبعيد أو التغريب الذي عرفه المسرح الملحمي، وآخر ينبغ من منهج فني وتعبيري واعٍ ومقصود للتغريب
لقد عدّ القاص المصري ادوار الخراط ما في قصص يحيى الطاهر عبد الله من نزوع إلى التعليم تغريباً وعدّ هذا التغريب نابياً ويجور على أثمن ما في موهبة القاص، قائلاً: “وسوف يعود الكاتب.. إلى الأسلوب التبعيدي والواقعي (البريختي ربما) في أغنية العاشق إيليا”(9). والقارئ لقصص عبد الله يجد فيها فعلاً هذا التبعيد البريختي الماثل في أسلوب القاص ولغته الشعرية، وفي أساليب التكرار لديه، إلا أن القص الواقعي حافل أيضاً بالتعليم، ويكفي أن نقرأ أي قصة من قصص يوسف إدريس لنرى كيف تتحول إلى دراسة تشريحية لجسد الشخصية أو دراسة سيكولوجية للنفس البشرية، وقلّ مثل ذلك على القاصة العراقية لطفية الدليمي، التي تتحول لديها أحياناً، الفكرة المجردة إلى أحداث وشخصيات ومعادلات خيالية ذات طابع مجازي، وقد عمدت إلى ذكر القاصين لكون التعليم لديهما يأتي مندغماً في النسيج الفني، غير ناب، ولا يتحول إلى وعظ ممل، بل ويشد القارئ أحياناً(10).
على أننا قد نجد عند إدريس بعض القصص التي يتحول التعليم فيها إلى منحى تبعيدي بريختي واضح دون أن يكتمل، إذ يعمد القاص إلى تأكيد الإيهام لا نفيه كما هو الأمر في قصة (أكان لا بد يالي لي أن تضيء النور)، فالراوي يخبرنا بأنه يروي لنا نكتة، وهو ظاهر وبائن للقارئ، ولكنه لا يلبث أن يخبرنا بأن النكتة (واقعة حدثت) ليعيدنا إلى الإيهام بالواقع بعد أن أبعدنا عنه، يقول الراوي: “في البدء كانت النكتة وفي النهاية ربما أيضاً تكون. والنكتة في النكتة أنها ليست نكتة، ولكنها واقعة حدثت لأهل النكتة، صناعها المهرة، رواتها العتاة”(10). ومن المعروف أن القص التقليدي الكلاسيكي. يلجأ إلى تأكيد الإيهام بوسائل كهذه، إذ يخبرنا الراوي بأنه سمع ما يقصه علينا من راو آخر، أو أنه وجد ما يقصه علينا في مذكرات خاصة لشخص ما(11).
ومثال التبعيد القائم على التعليم، وعلى منهج فني واعٍ وعلى قصدية واضحة ما فعله القاص أحمد المديني في روايته “وردة للوقت المغربي” ففيها يقدم الراوي مروية عن منظورات متعددة، تليها رواية للحدث باسم المؤلف نفسه، مذيل بعبارة حصرت بين معقوفتين هي: “وهو غير المؤلف”(12) والمعروف أن النقد الكلاسيكي لم يكن يميز بين الراوي الذي هو كائن من ورق وبين المؤلف وهو ذات إنسانية حقيقية، إلا أن البحث الفلسفي الحديث، أسفر عن وجود ذات معرفية لا تختلف مع الذات الواقعية حسب، بل وقد تتناقض معها، كما أسفر النقد الحديث، عن أن الراوي هو ليس المؤلف، بل الذات الثانية للمؤلف كما أوضح الناقد واين بوث. إن وضع مثل هذه العبارة أمام عيني القارئ الذي اعتاد على استهلاك أنماط قصصية ونقدية تقليدية، من شأنه أن يهز قناعات هذا القارئ ويخلخلها، مباعداً بين القارئ وبين النص، ومانعاً إياه من الاندماج بشخصياته وأحداثه، ومفيضاً الطريق أمام أنساق ثقافية جديدة ليسلكها القارئ!
إذا كان القاص الكلاسيكي يعمد إلى تأكيد الإيهام في صدر أو مقدمة القصة، فإن القصاصين الجدد يعمدون إلى تصدير نصوصهم القصصية بما ينفي الإيهام ويؤكد للقارئ إنه إزاء عمل فني خيالي لا صلة له بالواقع، كما فعل الروائي جبرا إبراهيم جبرا في البحث عن وليد مسعود بين أشخاصها وأسمائهم وبين أناس حقيقيين أو أسمائهم، فلن يكون ذلك إلا من محض الصدفة وخالياً من كل قصد”(13)، ويعد هذا التبعيد من أبسط الأنواع، ذلك أن القارئ ما إن يتجاوز الملاحظة -العتبة هذه حتى يقع أسير الإيهام، إذ ليس ثمة ما يمنع القارئ من التماهي مع شخصيات الرواية.
وربما أراد الروائي أن يناهض الأفكار الواقعية عن الرواية، التي تقول بأن عالمها يفيض ويتداخل مع العالم الواقعي، مقتبساً مثل هذا التغريب من بعض الكتاب الإنجليز الذين عرفوا به كـ “جون فاولز” وغيره.
وأعمق من هذا التغريب أو التبعيد، أن يكون الإعلان عن خيالية العمل ولا واقعيته صادراً عن الراوي وفي المروي نفسه، كما فعل القاص محمد خضير في واحدة من أفضل قصصه عن الحرب. وعلى وفق هذا التغريب البريختي، فإن الراوي يعلن في بدء مرويه مخاطباً القارئ بأنه إنما يقرأ حكاية: “لكل مساءٍ حكاية، حكاية واحدة في أول المساء..”(14). ويواصل الراوي حكايته الخاصة بالتناوب مع الحكاية الخرافية التي ترويها الجدة أم عباس لعائلة الجندي الغائب، والتي تنتهي بموت بطلها إرهاصاً بموت الجندي الغائب- الحاضر في القصة. ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، إذ يعود صوت الراوي ليرتفع من جديد وبصورة أشد وضوحاً، مخاطباً القارئ بكلمات هي أقرب ما تكون إلى مقطع من قصيدة نثر:
“في الظلام يأتي المختلس الزاني
في الظلام يأتي الميت المصاب في القلب بشظية
في الظلام يأتي الحلم الدموي.
(من يود الاحتجاج؟ من يود السخرية؟ من يود الانتظار حتى المساء التالي، لسماع حكاية أخرى أمام الموقد؟)(15).
إن اقتحام الراوي لمرويه بمثل هذه الغنائية والخطابية، في هذه القصة وغيرها من قصص الكاتب هو ما جعل بعض النقاد العرب عاجزين عن فهم إبداع القاص وتقنياته الجديدة(16).
وواضح أن مثل هذا التبعيد من شأنه أن يفتتح النص القصصي الموضوعي على الغنائي، هذا فضلاً عن أشكال التغريب الأخرى لدى محمد خضير، والتي من أبسط أشكالها استخدام مفردات وألفاظ غير عربية تلفت انتباه القارئ وتغريه لما فيها من غرائبية كما هو الأمر مع مفردة “بصرياثا” التي استخدمها القاص لأكثر من مرة، سيما في نصه الكبير المفتوح” “بصرياثا” و”طيبوثة” في تاج لطيبوثة، وهما مفردتان آراميتان من شأنهما أن تدفعا القارئ إلى التفكير وتبعده عن الإيهام.
وثمة وسيلة للتبعيد استخدمها القاص العراقي وارد بدر السالم، في قصته (انفجار دمعة) التي يروي فيها القاص مذكراته في أيام الحرب، وبالرغم من الطابع التسجيلي والبيوغرافي للقصة، فإن القاص يعمد إلى تقطيع سرد الأحداث باستخدام أبيات من الشعر لشعراء عالميين معروفين، أو عبارات نثرية لكتاب عالميين معروفين للقراء. ومن شأن هذه اللافتات الأدبية أن توقف اندماج القارئ بالشخصية والأحداث، وتستحثه على التفكير في هذه اللافتات، سيما حين تكون اللافتة سؤالاً ملغزاً(17) يحتاج إلى الكثير من إعمال الفكر والعقل.
إذا كانت الحداثة تحاول -عبثاً- إلغاء الماضي وأساليبه الأدبية وابتكار أساليب أدبية مما لا يتقيد بأنماط سائدة ولا معايير مطردة”(18)، فإن ما بعد الحداثة تعود إلى كل حقب التاريخ بروح متهكمة وساخرة، وإلى الأساليب التي عرفها الأدب في الماضي وفي القرن التاسع عشر، إلى شتيرن، ورابيله، وبورج، بل وإلى هوميروس في الماضي السحيق، بحيث يصرح “امبرتو إيكو” بخشيته من أن يسمع بأن هوميروس ينتمي إلى ما بعد الحداثة(19). وبفعل هذه العودة أصبح تأمل النص لذاته أسلوباً شائعاً في الرواية، وقد ظفر الأدب العربي بعدد من الروايات والقصص التي تتأمل ذاتها سأقتصر هنا على ذكر روايتين وقصة طويلة قصيرة واحدة.
كتابة “رواية ما ليست في الواقع إلا ضرباً من حب الذات؟ يحب الروائي أن يتجلى في مرآة الوجود، فيبدأ في خلق شخصياته”(20) هكذا يتأمل الراوي وهو -كاتب الرواية- نفسه في “سابع أيام الخلق” لعبد الخالق الركابي، معيداً على أسماعنا أسطورة نرسيس الذي لا يخلو فنان خالق منه: نحن نكتب لكي لا نكون هامشيين ثانويين في هذا الوجود، الذي نريد تأكيد وجودنا فيه. ولا يقتصر هذا التأمل على الراوي نفسه. بل يمتد إلى عمله وعالمه الذي يتشكل من كلمات وحسب “لقد أسدلت الستائر دول مدينة الأسلاف. مدينة الاسمنت والحجر، لافتح بمداد قلمي آلاف الستائر والنوافذ على مدينة الأسلاف الأخرى، مدينة الحروف والكلمات، التي أعاد تشييدها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة. هؤلاء الرواة الستة”(21) وهكذا فالكتابة لاحقة بالقص الشفاهي، والراوي لا يخبر القارئ بأن عمله خيالي، ومدينته خيالية، وهي غير مدينة الواقع، بل يعد بأنه سيفصح عما يقوم به في الصفحات التالية. ولا يقتصر التغريب على ما يقدمه الراوي من معلومات عن عمله وإعلانه بأنه ليس حقيقياً بل من حروف وكلمات، بل أن هيكلة وبناء الرواية يسهم وإلى حد كبير في فصل القارئ عن الحدث وعن التماهي مع شخصياته الخيالية، شاحذاً قدراته العقلية، ومثقفاً لها في الوقت نفسه، لفك رموز هذا النص الذي بني على أساس علوم العرفان لا سيما فلسفة محيي الدين بن عربي المتصوف والفنان، العالم مكتوب في رق الوجود لدى ابن عربي، والقرآن صورة عن هذا العالم، وكما أن للوجود ظاهراً وباطناً كذلك للقرآن ظاهر وباطن، وهكذا عمد الكاتب إلى أن يقيم مدينته، مدينة الحروف والكلمات على أعمدة من الحروف نفسها، فتوزعت أجزاء الرواية على سبعة حروف تكوّن بمجموعها كلمة (الرحمن)، والأجزاء السبعة هذه مساوية لأيام الخلق السبعة، كما وردت في الديانات السماوية أو في أساطير الخلق والتكوين السابقة عليها.
ويسهم في التبعيد أيضاً أن الراوي يترك اليوم الأخير، حرف النون صفحة بيضاء، وتحت عبارة (كتاب الكتب- سفر النون) في وسط الصفحة، عبارة “تمت الرواية” إشارة إلى أن هذا الكون الصغير، الكون الروائي قد اكتمل نهائياً في اليوم السابع من أيام الخلق -وقد أنهى الكاتب الرواية كما ينهي بحثاً علمياً أو معرفياً حين ذيلها بأسماء المصادر والمراجع التي أفاد منها، وبينها بعض مؤلفات ابن عربي، وعبد الكريم الجيلي، وكتاب ألف ليلة وليلة.
إن هذه النهاية للرواية تعيد إلى الأذهان محاولات القاص العراقي محيي الدين زنكنة لكتابه رواية جديدة تتجاوز المنجز والمتحقق في الرواية العربية، وهذه المحاولات حافلة الحبيبة”(24)، وفضلاً عن الابتهال فإن قص ما بعد الحداثة يستعيد بعض التقنيات من القص الكلاسيكي. والتي كانت إلى وقت قريب تعد من عيوب القص الكلاسيكي وأعني بها مخاطبة الراوي للقارئ خارج العمل الفني، وهو غير المروي له داخل الحكاية، كما هو الأمر في قصص طاهر عبد مسلم، التي يتميز بعضها بأشكال من التغريب، كالإشارة مثلاً إلى أن مرجعيات أحداث قصصه، ليس الواقع وإنما الأعمال الفنية، سيما السرود السينمائية والتلفزيونية(25).
لقد أشرنا قبل قليل إلى وسيلة، من وسائل التغريب، باتت شائعة في القص العربي الجديد، وهي قطع الإيهام عن طريق الهوامش، ولقد رأينا ضرباً من ذلك في التوثيق التاريخي في قصة القاص المصري محمد مستجاب، على أن الهامش في بعض القصص يؤدي إلى قطع الإيهام ومن ثم التبعيد، دون أن يشير بالضرورة إلى مرجعيات تاريخية أو معرفية كما هو الأمر في قصة القاص أحمد خلف (بئر الآبار)(25) التي تنازع السرد فيها ثلاثة هوامش تستغرق مساحة فضائية وزمانية ليست بالقليلة إذا ما قيست بالمتن وبالرغم من أن الراوي يشير إلى دراسات علمية وأبحاث، إلا أنها دراسات وهمية يختلقها الراوي
لقد أشرنا في مقدمة هذا البحث أن ثمة تفاعلاً واضحاً بين التغريب أو التبعيد وانفتاح النص القصصي، وأن أحدهما قد يؤدي إلى الآخر، إلا أننا واجدون بعض القصص التي تنفتح على مادة قصصية أصلاً، دون أن يقصد مؤلفوها إلى تغريب ماداتهم أو موضوعاتهم القصصية، أود أن أشير هنا إلى قصته “خطط مسائية لحرب غير منتهية “(27) للقاص لؤي حمزة التي تنفتح على الملصق وتروي القصة حكاية الضجة التي تقيمها إدارة مستشفى والتحقيقات الغريبة التي يجريها شخوص يرتدون أزياء عسكرية، لمجرد أن إدارة المستشفى تكتشف نشرة دوائية يساعد الدواء المذكور فيها على معالجة العقم وتنشيط الباه وقد ألصقها أحد المرضى على جدران المرحاض. وقد صورت هذه النشرة الدوائية (الحقيقة) ووضعت داخل النص القصصي!.
يمكن أن نلخص كل ما سبق إلى نتيجة مفادها، أن نص ما بعد الحداثة القصصي يلغي ويقصي ما عرفه القص الكلاسيكي من إيهام ويباعد ما بينه وبين المتلقي ويغرب موضوعاته وشكله إلى حد بعيد. وقد يصل أحياناً، إلى حد اجتثاث الشعور ويبقى على مخاطبة العقل لدى القارئ مستبدلاً اللذة والمتعة الذهنية بالمتعة النفسية التي عرفها القص الكلاسيكي، وهو بسبب ذلك ونتيجة له أيضاً نص مفتوح، مفتوح على كل الأجناس الأدبية، وعلى الفنون التشكيلية والسينما والموسيقى(28)، وهو مفتوح على الماضي والتاريخ بأحداثه وشخصياته التي غالباً ما يتخذ منها موضوعات من خلال الوثائق التاريخية وتفسيرها(28)، فضلاً عن أنه مفتوح على الأساليب الأدبية لهذا الماضي، وهو مفتوح على المعرفة الإنسانية بكل حقولها وتقنياتها، وعلى التوثيق العلمي وعلى الهامش وهو بعد كل ذلك مفتوح على التيارات والأساليب الأدبية العالمية، سيما أساليب ما بعد الحداثة، فماذا يعني ذلك على صعيد القراءة.
إن نص ما بعد الحداثة القصصي، لا يستنسخ أو يعيد إنتاج نصوص تقليدية قديمة بالرغم من أنه يعود إلى الماضي لاستلهام الأساليب في هذه النصوص، بل هو يستفيد منها لخلق نص جديد يتجاوز البنية النصية القائمة وهو بانفتاحه على المعرفة الإنسانية وبخروجه على الوعي القار الجاهز، يتطلب قراءة منفتحة هي الأخرى، قراءة منتجة للنص ولدلالاته من خلال إعادة تركيب النص واكتشاف آلياته وعناصره(29) وكيفية عملها ومن شأن كل ذلك أن يسهم في تطوير القراءة والقارئ وتغير وعيه، إن المسافة التي يضعها النص الجديد بينه وبين القارئ، من شأنها أن تجعل من هذا القارئ ناقداً يتجه نقده، لا إلى النص والبنى النصية، بل يتجاوزها إلى البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي أنتجت البنية النصية التقليدية.
المصادر والمراجع
1-انظر: فجر القصة المصرية، يحيى حقي، الهيأة العربية العامة للكتاب ص77
2-انظر: ملامح مشتركة في الإنتاج القصصي المصري، فتحي إبراهيم، مجلة جاليري، اكتوبر 1969- ص83.
3-انظر: الحداثة وما بعد الحداثة، تحرير بيتربروكر، ترجمة عبد الوهاب علوب، مراجعة د. جابر عصفور، المجمع الثقافي، أبو ظبي ص68.
4-قضايا الشعرية، رومان ياكبسون، ترجمة محمد الولي، ومبارك حنون، دار توبقال للنشر ص20.
5-مقدمة في النظرية الأدبية، يترى ايغلتن، ترجمة إبراهيم جاسم العلي، مراجعة عاصم إسماعيل الياس، دار الشؤون الثقافية العامة -بغداد 1992 ص148.
6-انظر: بناء القصة القصيرة والرواية، شكلوفسكي، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية ص122.
7-انظر: قضايا الرواية الحديثة، جان ريكاردو، ترجمة صياح الجهيم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1977/ ص263.
8-الدف والصندوق: يحيى الطاهر عبد الله، وزارة الثقافة والإعلام- بغداد، المقدمة.
10-انظر قصة يوسف إدريس في مجموعته: بيت من لحم وانظر على سبيل المثال قصة: البحث عن شجرة الحكمة للقاصة العراقية لطفية الدليمي في مجموعتها القصصية (موسيقى صوفية).
11-انظر: نظرية المنهج الشكلي: ص196.
12-وردة للوقت المغربي، المعهد الديني، دار النشر المغربية- الدار البيضاء ص18.
13-انظر البحث عن وليد مسعود، رواية جبرا إبراهيم جبرا، مكتبة الشرق الأوسط المقدمة.
14-المملكة السوداء، قصص محمد خضير، وزارة الثقافة والإعلام بغداد 1973 ص113.
15-نفسه ص129
16-انظر على سبيل المثال مقال غالب هلسا “الانتظار بدون جدوى” مجلة، الأقلام العدد 10 1977.
17-انظر: انفجار دمعة، قصص وارد بدر السالم، دار الشؤون الثقافية- بغداد 1994 ص43.
18-انظر: النقد والحداثة، عبد السلام المسدى، دار الطليعة- بيروت ص13.
19-انظر مقال أمبر توايكو في الحداثة وما بعد الحداثة، م. س ص354
20-سابع أيام الخلق، رواية عبد الخالق الركابي- دار الشؤون الثقافية ص8.
21-نفسه ص8
22-نجمة أغسطس، رواية صنع الله إبراهيم، منشورات دار الكتاب العرب- دمشق 1974 ص27
23-ديروط الشريف ونعمان عبد الحافظ، محمد مستجاب، مكتبة مدبولي- القاهرة ص43.
24-رؤيا خريف -محمد خضير، مؤسسة عبد الحميد شومان، شركة الشرق الأوسط للطباعة 1995-ص29.
25-انظر صعود القمر، قصص طاهر عبد مسلم، دار الشؤون الثقافية- بغداد 1993- ص51
26-انظر: خريف البلدة، أحمد خلف، دار الشؤون الثقافية، 1995- ص ص17-22
27-انظر: على دراجة في الليل، قصص لؤي حمزة عباس- دار زمنه عمان الأردن 1997- ص45
28-انظر على سبيل المثال قصة “الصرخة” لمحمد خضر في مجموعة (في درجة 45 مئوي) وقصة موسيقى صوفية للقاصة لطفية الدليمي في المجموعة المسماة باسمها.
29-انظر: الحداثة وما بعد الحداثة ص376.
والحقيقة أن الكثير من الظواهر الفنية التي اتسمت بها القصة الستينية لا تنتمي إلى الحداثة بقدر ما تنتمي إلى “ما بعد الحداثة postmodemty”. وعلى الرغم من أن استراتيجيات ما بعد الحداثة غير مستقرة تماماً حتى يومنا هذا، فإن العودة إلى الماضي وإلى التاريخ، والتقطيع السردي، والتغريب، والعجائبي والسحري، وتأمل النص لذاته وإقحام الهامش، وتداخل الأجناس الأدبية والفنية والاحتفال بالعلمي والمعرفي والمعرفة الملغزة، وانفتاح النص على كل ذلك من جهة، وعلى القراءة من جهة أخرى، كلها ظواهر فنية تلتقي مع استراتيجيات ما بعد الحداثة.
وعلى هذا يمكن القول إن النص ما بعد الحداثوي نشأ في الأدب العربي مع جيل الستينات، وصحيح أن هذه النشأة كانت غامضة وملتبسة في العقد الستيني، لكن السبعينات وما بعدها شهدت تبلوراً واضحاً لكل هذه الاستراتيجيات في القص، ولكن الذي حقق كل ذلك هو جيل الستينات. وأن أسهم معهم فيما بعد قصاصون ينتمون إلى العقود اللاحقة، وهو أمر طبيعي جداً.
منذ زمن ليس بالقصير تلح علي فكرة أن الدعوة إلى أدب جديد، وأدب للكتابة كما دعاه بارت، وما يتحقق من هذا الجديد إن هو إلا امتداد واستمرار، وتطوير أحياناً لما بدأه الكاتب والشاعر المسرحي الألماني بريخت، ذلك أن ما تقدم ذكره من ظواهر واستراتيجيات يبدو على وفاق تام مع استراتيجيات(2) مسرح بريخت وبسكاتور وما حققاه من تغريب في مسرحهما. كما وجدت أن التغريب في النص القصصي يؤدي إلى انفتاح النص، وأن العكس صحيح في غالب الأحيان ومن هنا جاء عنوان هذه الدراسة القصيرة.
بدءاً ساحدّ التغريب مؤقتاً بأنه “كل خروج ما هو مألوف في ثقافة جماعة بشرية معينة، بحيث يؤدي إلى ارباك قناعات المتلقي وخلخلة مسلماته ويدفعه إلى إعادة النظر فيها”. ومن المعروف أن مفهوم التغريب هو وليد الشكلانية الروسية والشكلانيين الجيك والبولندين، الذين أبانوا بأن الشيء حين ينقل من متواليته في الواقع إلى متوالية جديدة في الفن، يصبح غرائبياً، فحين يقول بودلير: “الجثة كانت قدماها في الفضاء مثل امرأة شبقة” فإنه يكسب الجثة بكلماته التي يشكلها بها من جديد، دلالة جديدة، وغريبة، وهنا تكمن وظيفة الفن فالرؤية الفنية الجديدة للشيء -الجثة (هنا)، هي التي تحمينا من الأتمتة والصدأ الذي يهدد تصورنا للحب والكراهية والتمرد والتصالح والإيمان والجحود”(4) حسب تعبير ياكبسون، أي أنها تجدد رؤيتنا للأشياء والمفاهيم في هذا العالم، تلك الرؤية التي واتتني تغلف رؤيتنا الواقعية للأشياء بالأتمتة والصدأ والابتذال والتفاهة والعقم.
وينتج عن هذا المفهوم، أن المادة في الواقع غير المادة في الفن، وما ندعوه واقعياً في الفن هو مجرد وهم، إذ ينبغي “تجريد .. الشيء من تشاركاته العادية” لكي يصبح عنصراً في متوالية فنية كما يقول شكلوفسكي، أي يصبح مبيناً، فلا يعود نفس ذلك الشيء أو العنصر في الواقع.
وبالرغم من أن الشكلانيين يوجهون ضربة للمفاهيم الكلاسيكية عن الفن، التي يعد الإيهام بالواقع مطلباً أساسياً ومشتركاً فيها، فإن جذور هذا الفهم الجديد للفن قائمة لدى الكلاسيكيين والواقعيين والرومانسيين، إذ يتطلب الفن لدى الكلاسيكيين “المدهش” ولدى الواقعيين (الخاص). وقد جهد شاتوبريان الرومانسي ليبرهن في “عبقرية المسيحية” بأن (المدهش) الذي يصبح مادة للأدب موجود في الكتاب المقدس، ويقترب مفهوم الخاص الذي ينبغي أن يرتبط بالعام لدى الواقعيين، من الاستثنائي، ومن هنا كان احتفال لوكاش وتمجيده لتلك الشخصيات التي قلما نجد في الواقع مثيلاً لها: هاملت لدى شكسبير، وفاوست لجوته، ودونكيخوته لسرفانتس!
أعود إلى مسرح بريخت الملحمي وما عرف به من تغريب، لأشير إلى ما أكده تيري ايغلتن من أن “رولان بارت” كان بطلاً قديماً لمسرح بريخت في فرنسا، وأنه نشر مقالاً حماسياً عن هذا المسرح عام 1964 وتضمنه كتابه (مقالات نقدية) وإلى إشاراته -أي ايغلتن- إلى أن مفهوم بارت للغة والأدب، والكلمة التي تلمح إلى وجودها المادي، في الوقت الذي تنقل فيه معنى، هي حفيدة اللغة الغربية [كذا] للشكلين والتركيبين الجيكيين وللكلمة الشاعرية لياكبسون التي تتباهى بكيانها اللغوي الواضح”(5) وهكذا يكون مسرح بريخت الملحمي، وسيطأ لنقل المفاهيم التي نادى بها الشكلانيون إلى الأدباء والنقاد في غرب أوربا، بعد أن أصبحت الوسائل التغريبية للشكلانيين “أدوات شعرية وسينمائية ومسرحية لغرض عدم تطبيع.. المجتمع”(6) وتغريبه، ولدى العديد من الأدباء والفنانين في جمهورية فايمار الألمانية في العشرينات من هذا القرن.
إذا كان مفهوم التغريب يعود إلى العشرينات من هذا القرن، فإن التغريب نفسه يعود إلى أبعد من ذلك. وإلى القرن التاسع عشر، ذلك أن رواية (تريستام شاندي) تعد من أقدم النصوص التي عرفت نوعاً من التغريب بات شائعاً في النصوص الروائية اليوم، إذ يقع التأكيد في هذه الرواية على شكل الرواية، بحيث يصبح هذا الشكل عمق الرواية ذاته، كما أوضح شكلوفسكي(6) الذي أعاد لها هو وغيره من الشكلانيين -الاعتبار بعد أن عاملها النقد طويلاً على أنها مجرد ثرثرة فارغة، ومن الطبيعي أن النص حين يتأمل ذاته، يكسرني ذات الوقت جدار الوهم ويزيحه من أمام أبصار القراء.
وقد توافق مع مسرح بريخت في ألمانيا، صدور رواية “مزيفو النقود” لاندريه جيد في فرنسا، ويبدو أن جيد لم يكن يقصد إلى تغريب موضوعة الرواية بقدر ما كان يهدف إلى كتابة رواية جديدة على غرار السمفونية، متأثراً ببعض اللوحات الفنية التي كانت تضم مرآة داخلية تعكس المشهد المرسوم، وجد فيها جيد تقنية من شأنها توطيد النسب والعلاقات في الرواية(8)، ومن هنا فإن جيد يجعل كاتب الرواية -ادوار- الذي يدون مذكرات يسرد فيها قصة كتابته للرواية. واحداً من شخصيات الرواية، وبسبب هذا فقد اختزل “التغريب” إلى حده الأدنى.
لقد باتت كتابة نصوص قصصية تتأمل ذاتها، وتهدم جدار الوهم من أمام القارئ مشركة إياه في مغامرة الكتابة، وشائعة في عالم (القصة والرواية اليوم وسنعرج على بعض النصوص الروائية والقصصية في الأدب العربي الحديث. من تلك التي تحفل بمثل هذا التغريب، عارضين لأبسط أنواع التغريب أولاً ثم أنواعه الأكثر تعقيداً. )
وبدءاً ينبغي أن نميز بين نمطين من التغريب، أحدهما ينبع من نزعة تعليمية إصلاحية يحفل بها القصص الواقعي، دون أن يكون للقاص قصدية في التبعيد أو التغريب الذي عرفه المسرح الملحمي، وآخر ينبغ من منهج فني وتعبيري واعٍ ومقصود للتغريب
لقد عدّ القاص المصري ادوار الخراط ما في قصص يحيى الطاهر عبد الله من نزوع إلى التعليم تغريباً وعدّ هذا التغريب نابياً ويجور على أثمن ما في موهبة القاص، قائلاً: “وسوف يعود الكاتب.. إلى الأسلوب التبعيدي والواقعي (البريختي ربما) في أغنية العاشق إيليا”(9). والقارئ لقصص عبد الله يجد فيها فعلاً هذا التبعيد البريختي الماثل في أسلوب القاص ولغته الشعرية، وفي أساليب التكرار لديه، إلا أن القص الواقعي حافل أيضاً بالتعليم، ويكفي أن نقرأ أي قصة من قصص يوسف إدريس لنرى كيف تتحول إلى دراسة تشريحية لجسد الشخصية أو دراسة سيكولوجية للنفس البشرية، وقلّ مثل ذلك على القاصة العراقية لطفية الدليمي، التي تتحول لديها أحياناً، الفكرة المجردة إلى أحداث وشخصيات ومعادلات خيالية ذات طابع مجازي، وقد عمدت إلى ذكر القاصين لكون التعليم لديهما يأتي مندغماً في النسيج الفني، غير ناب، ولا يتحول إلى وعظ ممل، بل ويشد القارئ أحياناً(10).
على أننا قد نجد عند إدريس بعض القصص التي يتحول التعليم فيها إلى منحى تبعيدي بريختي واضح دون أن يكتمل، إذ يعمد القاص إلى تأكيد الإيهام لا نفيه كما هو الأمر في قصة (أكان لا بد يالي لي أن تضيء النور)، فالراوي يخبرنا بأنه يروي لنا نكتة، وهو ظاهر وبائن للقارئ، ولكنه لا يلبث أن يخبرنا بأن النكتة (واقعة حدثت) ليعيدنا إلى الإيهام بالواقع بعد أن أبعدنا عنه، يقول الراوي: “في البدء كانت النكتة وفي النهاية ربما أيضاً تكون. والنكتة في النكتة أنها ليست نكتة، ولكنها واقعة حدثت لأهل النكتة، صناعها المهرة، رواتها العتاة”(10). ومن المعروف أن القص التقليدي الكلاسيكي. يلجأ إلى تأكيد الإيهام بوسائل كهذه، إذ يخبرنا الراوي بأنه سمع ما يقصه علينا من راو آخر، أو أنه وجد ما يقصه علينا في مذكرات خاصة لشخص ما(11).
ومثال التبعيد القائم على التعليم، وعلى منهج فني واعٍ وعلى قصدية واضحة ما فعله القاص أحمد المديني في روايته “وردة للوقت المغربي” ففيها يقدم الراوي مروية عن منظورات متعددة، تليها رواية للحدث باسم المؤلف نفسه، مذيل بعبارة حصرت بين معقوفتين هي: “وهو غير المؤلف”(12) والمعروف أن النقد الكلاسيكي لم يكن يميز بين الراوي الذي هو كائن من ورق وبين المؤلف وهو ذات إنسانية حقيقية، إلا أن البحث الفلسفي الحديث، أسفر عن وجود ذات معرفية لا تختلف مع الذات الواقعية حسب، بل وقد تتناقض معها، كما أسفر النقد الحديث، عن أن الراوي هو ليس المؤلف، بل الذات الثانية للمؤلف كما أوضح الناقد واين بوث. إن وضع مثل هذه العبارة أمام عيني القارئ الذي اعتاد على استهلاك أنماط قصصية ونقدية تقليدية، من شأنه أن يهز قناعات هذا القارئ ويخلخلها، مباعداً بين القارئ وبين النص، ومانعاً إياه من الاندماج بشخصياته وأحداثه، ومفيضاً الطريق أمام أنساق ثقافية جديدة ليسلكها القارئ!
إذا كان القاص الكلاسيكي يعمد إلى تأكيد الإيهام في صدر أو مقدمة القصة، فإن القصاصين الجدد يعمدون إلى تصدير نصوصهم القصصية بما ينفي الإيهام ويؤكد للقارئ إنه إزاء عمل فني خيالي لا صلة له بالواقع، كما فعل الروائي جبرا إبراهيم جبرا في البحث عن وليد مسعود بين أشخاصها وأسمائهم وبين أناس حقيقيين أو أسمائهم، فلن يكون ذلك إلا من محض الصدفة وخالياً من كل قصد”(13)، ويعد هذا التبعيد من أبسط الأنواع، ذلك أن القارئ ما إن يتجاوز الملاحظة -العتبة هذه حتى يقع أسير الإيهام، إذ ليس ثمة ما يمنع القارئ من التماهي مع شخصيات الرواية.
وربما أراد الروائي أن يناهض الأفكار الواقعية عن الرواية، التي تقول بأن عالمها يفيض ويتداخل مع العالم الواقعي، مقتبساً مثل هذا التغريب من بعض الكتاب الإنجليز الذين عرفوا به كـ “جون فاولز” وغيره.
وأعمق من هذا التغريب أو التبعيد، أن يكون الإعلان عن خيالية العمل ولا واقعيته صادراً عن الراوي وفي المروي نفسه، كما فعل القاص محمد خضير في واحدة من أفضل قصصه عن الحرب. وعلى وفق هذا التغريب البريختي، فإن الراوي يعلن في بدء مرويه مخاطباً القارئ بأنه إنما يقرأ حكاية: “لكل مساءٍ حكاية، حكاية واحدة في أول المساء..”(14). ويواصل الراوي حكايته الخاصة بالتناوب مع الحكاية الخرافية التي ترويها الجدة أم عباس لعائلة الجندي الغائب، والتي تنتهي بموت بطلها إرهاصاً بموت الجندي الغائب- الحاضر في القصة. ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، إذ يعود صوت الراوي ليرتفع من جديد وبصورة أشد وضوحاً، مخاطباً القارئ بكلمات هي أقرب ما تكون إلى مقطع من قصيدة نثر:
“في الظلام يأتي المختلس الزاني
في الظلام يأتي الميت المصاب في القلب بشظية
في الظلام يأتي الحلم الدموي.
(من يود الاحتجاج؟ من يود السخرية؟ من يود الانتظار حتى المساء التالي، لسماع حكاية أخرى أمام الموقد؟)(15).
إن اقتحام الراوي لمرويه بمثل هذه الغنائية والخطابية، في هذه القصة وغيرها من قصص الكاتب هو ما جعل بعض النقاد العرب عاجزين عن فهم إبداع القاص وتقنياته الجديدة(16).
وواضح أن مثل هذا التبعيد من شأنه أن يفتتح النص القصصي الموضوعي على الغنائي، هذا فضلاً عن أشكال التغريب الأخرى لدى محمد خضير، والتي من أبسط أشكالها استخدام مفردات وألفاظ غير عربية تلفت انتباه القارئ وتغريه لما فيها من غرائبية كما هو الأمر مع مفردة “بصرياثا” التي استخدمها القاص لأكثر من مرة، سيما في نصه الكبير المفتوح” “بصرياثا” و”طيبوثة” في تاج لطيبوثة، وهما مفردتان آراميتان من شأنهما أن تدفعا القارئ إلى التفكير وتبعده عن الإيهام.
وثمة وسيلة للتبعيد استخدمها القاص العراقي وارد بدر السالم، في قصته (انفجار دمعة) التي يروي فيها القاص مذكراته في أيام الحرب، وبالرغم من الطابع التسجيلي والبيوغرافي للقصة، فإن القاص يعمد إلى تقطيع سرد الأحداث باستخدام أبيات من الشعر لشعراء عالميين معروفين، أو عبارات نثرية لكتاب عالميين معروفين للقراء. ومن شأن هذه اللافتات الأدبية أن توقف اندماج القارئ بالشخصية والأحداث، وتستحثه على التفكير في هذه اللافتات، سيما حين تكون اللافتة سؤالاً ملغزاً(17) يحتاج إلى الكثير من إعمال الفكر والعقل.
إذا كانت الحداثة تحاول -عبثاً- إلغاء الماضي وأساليبه الأدبية وابتكار أساليب أدبية مما لا يتقيد بأنماط سائدة ولا معايير مطردة”(18)، فإن ما بعد الحداثة تعود إلى كل حقب التاريخ بروح متهكمة وساخرة، وإلى الأساليب التي عرفها الأدب في الماضي وفي القرن التاسع عشر، إلى شتيرن، ورابيله، وبورج، بل وإلى هوميروس في الماضي السحيق، بحيث يصرح “امبرتو إيكو” بخشيته من أن يسمع بأن هوميروس ينتمي إلى ما بعد الحداثة(19). وبفعل هذه العودة أصبح تأمل النص لذاته أسلوباً شائعاً في الرواية، وقد ظفر الأدب العربي بعدد من الروايات والقصص التي تتأمل ذاتها سأقتصر هنا على ذكر روايتين وقصة طويلة قصيرة واحدة.
كتابة “رواية ما ليست في الواقع إلا ضرباً من حب الذات؟ يحب الروائي أن يتجلى في مرآة الوجود، فيبدأ في خلق شخصياته”(20) هكذا يتأمل الراوي وهو -كاتب الرواية- نفسه في “سابع أيام الخلق” لعبد الخالق الركابي، معيداً على أسماعنا أسطورة نرسيس الذي لا يخلو فنان خالق منه: نحن نكتب لكي لا نكون هامشيين ثانويين في هذا الوجود، الذي نريد تأكيد وجودنا فيه. ولا يقتصر هذا التأمل على الراوي نفسه. بل يمتد إلى عمله وعالمه الذي يتشكل من كلمات وحسب “لقد أسدلت الستائر دول مدينة الأسلاف. مدينة الاسمنت والحجر، لافتح بمداد قلمي آلاف الستائر والنوافذ على مدينة الأسلاف الأخرى، مدينة الحروف والكلمات، التي أعاد تشييدها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة. هؤلاء الرواة الستة”(21) وهكذا فالكتابة لاحقة بالقص الشفاهي، والراوي لا يخبر القارئ بأن عمله خيالي، ومدينته خيالية، وهي غير مدينة الواقع، بل يعد بأنه سيفصح عما يقوم به في الصفحات التالية. ولا يقتصر التغريب على ما يقدمه الراوي من معلومات عن عمله وإعلانه بأنه ليس حقيقياً بل من حروف وكلمات، بل أن هيكلة وبناء الرواية يسهم وإلى حد كبير في فصل القارئ عن الحدث وعن التماهي مع شخصياته الخيالية، شاحذاً قدراته العقلية، ومثقفاً لها في الوقت نفسه، لفك رموز هذا النص الذي بني على أساس علوم العرفان لا سيما فلسفة محيي الدين بن عربي المتصوف والفنان، العالم مكتوب في رق الوجود لدى ابن عربي، والقرآن صورة عن هذا العالم، وكما أن للوجود ظاهراً وباطناً كذلك للقرآن ظاهر وباطن، وهكذا عمد الكاتب إلى أن يقيم مدينته، مدينة الحروف والكلمات على أعمدة من الحروف نفسها، فتوزعت أجزاء الرواية على سبعة حروف تكوّن بمجموعها كلمة (الرحمن)، والأجزاء السبعة هذه مساوية لأيام الخلق السبعة، كما وردت في الديانات السماوية أو في أساطير الخلق والتكوين السابقة عليها.
ويسهم في التبعيد أيضاً أن الراوي يترك اليوم الأخير، حرف النون صفحة بيضاء، وتحت عبارة (كتاب الكتب- سفر النون) في وسط الصفحة، عبارة “تمت الرواية” إشارة إلى أن هذا الكون الصغير، الكون الروائي قد اكتمل نهائياً في اليوم السابع من أيام الخلق -وقد أنهى الكاتب الرواية كما ينهي بحثاً علمياً أو معرفياً حين ذيلها بأسماء المصادر والمراجع التي أفاد منها، وبينها بعض مؤلفات ابن عربي، وعبد الكريم الجيلي، وكتاب ألف ليلة وليلة.
إن هذه النهاية للرواية تعيد إلى الأذهان محاولات القاص العراقي محيي الدين زنكنة لكتابه رواية جديدة تتجاوز المنجز والمتحقق في الرواية العربية، وهذه المحاولات حافلة الحبيبة”(24)، وفضلاً عن الابتهال فإن قص ما بعد الحداثة يستعيد بعض التقنيات من القص الكلاسيكي. والتي كانت إلى وقت قريب تعد من عيوب القص الكلاسيكي وأعني بها مخاطبة الراوي للقارئ خارج العمل الفني، وهو غير المروي له داخل الحكاية، كما هو الأمر في قصص طاهر عبد مسلم، التي يتميز بعضها بأشكال من التغريب، كالإشارة مثلاً إلى أن مرجعيات أحداث قصصه، ليس الواقع وإنما الأعمال الفنية، سيما السرود السينمائية والتلفزيونية(25).
لقد أشرنا قبل قليل إلى وسيلة، من وسائل التغريب، باتت شائعة في القص العربي الجديد، وهي قطع الإيهام عن طريق الهوامش، ولقد رأينا ضرباً من ذلك في التوثيق التاريخي في قصة القاص المصري محمد مستجاب، على أن الهامش في بعض القصص يؤدي إلى قطع الإيهام ومن ثم التبعيد، دون أن يشير بالضرورة إلى مرجعيات تاريخية أو معرفية كما هو الأمر في قصة القاص أحمد خلف (بئر الآبار)(25) التي تنازع السرد فيها ثلاثة هوامش تستغرق مساحة فضائية وزمانية ليست بالقليلة إذا ما قيست بالمتن وبالرغم من أن الراوي يشير إلى دراسات علمية وأبحاث، إلا أنها دراسات وهمية يختلقها الراوي
لقد أشرنا في مقدمة هذا البحث أن ثمة تفاعلاً واضحاً بين التغريب أو التبعيد وانفتاح النص القصصي، وأن أحدهما قد يؤدي إلى الآخر، إلا أننا واجدون بعض القصص التي تنفتح على مادة قصصية أصلاً، دون أن يقصد مؤلفوها إلى تغريب ماداتهم أو موضوعاتهم القصصية، أود أن أشير هنا إلى قصته “خطط مسائية لحرب غير منتهية “(27) للقاص لؤي حمزة التي تنفتح على الملصق وتروي القصة حكاية الضجة التي تقيمها إدارة مستشفى والتحقيقات الغريبة التي يجريها شخوص يرتدون أزياء عسكرية، لمجرد أن إدارة المستشفى تكتشف نشرة دوائية يساعد الدواء المذكور فيها على معالجة العقم وتنشيط الباه وقد ألصقها أحد المرضى على جدران المرحاض. وقد صورت هذه النشرة الدوائية (الحقيقة) ووضعت داخل النص القصصي!.
يمكن أن نلخص كل ما سبق إلى نتيجة مفادها، أن نص ما بعد الحداثة القصصي يلغي ويقصي ما عرفه القص الكلاسيكي من إيهام ويباعد ما بينه وبين المتلقي ويغرب موضوعاته وشكله إلى حد بعيد. وقد يصل أحياناً، إلى حد اجتثاث الشعور ويبقى على مخاطبة العقل لدى القارئ مستبدلاً اللذة والمتعة الذهنية بالمتعة النفسية التي عرفها القص الكلاسيكي، وهو بسبب ذلك ونتيجة له أيضاً نص مفتوح، مفتوح على كل الأجناس الأدبية، وعلى الفنون التشكيلية والسينما والموسيقى(28)، وهو مفتوح على الماضي والتاريخ بأحداثه وشخصياته التي غالباً ما يتخذ منها موضوعات من خلال الوثائق التاريخية وتفسيرها(28)، فضلاً عن أنه مفتوح على الأساليب الأدبية لهذا الماضي، وهو مفتوح على المعرفة الإنسانية بكل حقولها وتقنياتها، وعلى التوثيق العلمي وعلى الهامش وهو بعد كل ذلك مفتوح على التيارات والأساليب الأدبية العالمية، سيما أساليب ما بعد الحداثة، فماذا يعني ذلك على صعيد القراءة.
إن نص ما بعد الحداثة القصصي، لا يستنسخ أو يعيد إنتاج نصوص تقليدية قديمة بالرغم من أنه يعود إلى الماضي لاستلهام الأساليب في هذه النصوص، بل هو يستفيد منها لخلق نص جديد يتجاوز البنية النصية القائمة وهو بانفتاحه على المعرفة الإنسانية وبخروجه على الوعي القار الجاهز، يتطلب قراءة منفتحة هي الأخرى، قراءة منتجة للنص ولدلالاته من خلال إعادة تركيب النص واكتشاف آلياته وعناصره(29) وكيفية عملها ومن شأن كل ذلك أن يسهم في تطوير القراءة والقارئ وتغير وعيه، إن المسافة التي يضعها النص الجديد بينه وبين القارئ، من شأنها أن تجعل من هذا القارئ ناقداً يتجه نقده، لا إلى النص والبنى النصية، بل يتجاوزها إلى البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي أنتجت البنية النصية التقليدية.
المصادر والمراجع
1-انظر: فجر القصة المصرية، يحيى حقي، الهيأة العربية العامة للكتاب ص77
2-انظر: ملامح مشتركة في الإنتاج القصصي المصري، فتحي إبراهيم، مجلة جاليري، اكتوبر 1969- ص83.
3-انظر: الحداثة وما بعد الحداثة، تحرير بيتربروكر، ترجمة عبد الوهاب علوب، مراجعة د. جابر عصفور، المجمع الثقافي، أبو ظبي ص68.
4-قضايا الشعرية، رومان ياكبسون، ترجمة محمد الولي، ومبارك حنون، دار توبقال للنشر ص20.
5-مقدمة في النظرية الأدبية، يترى ايغلتن، ترجمة إبراهيم جاسم العلي، مراجعة عاصم إسماعيل الياس، دار الشؤون الثقافية العامة -بغداد 1992 ص148.
6-انظر: بناء القصة القصيرة والرواية، شكلوفسكي، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية ص122.
7-انظر: قضايا الرواية الحديثة، جان ريكاردو، ترجمة صياح الجهيم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1977/ ص263.
8-الدف والصندوق: يحيى الطاهر عبد الله، وزارة الثقافة والإعلام- بغداد، المقدمة.
10-انظر قصة يوسف إدريس في مجموعته: بيت من لحم وانظر على سبيل المثال قصة: البحث عن شجرة الحكمة للقاصة العراقية لطفية الدليمي في مجموعتها القصصية (موسيقى صوفية).
11-انظر: نظرية المنهج الشكلي: ص196.
12-وردة للوقت المغربي، المعهد الديني، دار النشر المغربية- الدار البيضاء ص18.
13-انظر البحث عن وليد مسعود، رواية جبرا إبراهيم جبرا، مكتبة الشرق الأوسط المقدمة.
14-المملكة السوداء، قصص محمد خضير، وزارة الثقافة والإعلام بغداد 1973 ص113.
15-نفسه ص129
16-انظر على سبيل المثال مقال غالب هلسا “الانتظار بدون جدوى” مجلة، الأقلام العدد 10 1977.
17-انظر: انفجار دمعة، قصص وارد بدر السالم، دار الشؤون الثقافية- بغداد 1994 ص43.
18-انظر: النقد والحداثة، عبد السلام المسدى، دار الطليعة- بيروت ص13.
19-انظر مقال أمبر توايكو في الحداثة وما بعد الحداثة، م. س ص354
20-سابع أيام الخلق، رواية عبد الخالق الركابي- دار الشؤون الثقافية ص8.
21-نفسه ص8
22-نجمة أغسطس، رواية صنع الله إبراهيم، منشورات دار الكتاب العرب- دمشق 1974 ص27
23-ديروط الشريف ونعمان عبد الحافظ، محمد مستجاب، مكتبة مدبولي- القاهرة ص43.
24-رؤيا خريف -محمد خضير، مؤسسة عبد الحميد شومان، شركة الشرق الأوسط للطباعة 1995-ص29.
25-انظر صعود القمر، قصص طاهر عبد مسلم، دار الشؤون الثقافية- بغداد 1993- ص51
26-انظر: خريف البلدة، أحمد خلف، دار الشؤون الثقافية، 1995- ص ص17-22
27-انظر: على دراجة في الليل، قصص لؤي حمزة عباس- دار زمنه عمان الأردن 1997- ص45
28-انظر على سبيل المثال قصة “الصرخة” لمحمد خضر في مجموعة (في درجة 45 مئوي) وقصة موسيقى صوفية للقاصة لطفية الدليمي في المجموعة المسماة باسمها.
29-انظر: الحداثة وما بعد الحداثة ص376.