عزيز الشعباني :
بمجرد أن تسلمت عملي الجديد ، أرحت ظهري على مسند المقعد ، محاولة مني لطرد الهواء المحجوز في رئتي وإلتقاط هواءاً نقياً ، أحسست بصلابة المسند تتحالف مع برودة المعدن وتضايقني أكثرمما لوكانت منفردة ، طليقة ، نهضت ، ذرعت ارض المكتب كعادتي ، في الرواح يقابلني الدولاب المزجج ، والحقن المرصوصة في داخله ، كأنها جيشاً من دمى ، يعبث بها الأطفال ويهملوها بعد قليل ، أصباغ ، يود ، قطن ، شاش
عدت إلى المقعد الذي هربت منه ، وجدته ينتظرني بالبرودة والصلادة نفسها.
تأملت المكتب ، الدولاب ، الستارة ، وكلما تأملتها تباغتني رغبة التقيؤ
دنوت من النافذة ، تأملت ذبابة تصارع زجاج النافذة لتخرج ، ترى أمامها الأفق فسيحاً برؤيا مركبة ، وترى الطريق ممتداً إلى اللانهاية ، ومع ذلك لاتستطيع التقدم ، كادت أن تجن وهي تسرف في الطنين
قلت : لأفتح زجاج النافذة وأطلق حريتها ، وأنقذها من عذاب الحيرة ، فبرز أمامي سؤال :
من أغرى هذه الذبابة بدخول الأماكن الوهمية
الاماكن التي تئن تحت ثقل الجدارات
إنها تولد في الطين
لماذا لاتموت فيه؟
عدت إلى مقعدي مبتسماً
كمن قدم إحساناً وشعوراً بالرضا
إسترخيت وأنا أستمع لطنينها
كأنه صخب موسيقى ، أو دوي شعب يطالب بحريته
راقني صراع الذبابة مع خدعة اللوح الزجاجي
ضحكت بصوت عال ، كقهقهات مجنون
رسمت دوائر على الغبار الذي يعلو سطح المكتب وهززت ساقيّ في حركات عشوائية ، غير متناسقة
لااعرف ، هل هذا عناداً بالذبابة
أم أنها مجرد حركات لبعث الدفء في قدميّ المزرقتين من صقيع المقعد المعدني ؟