يرتبط مستقبل الشعر بوصفه معيارا نقديا بقضية الخلود الشعري فالخلود الأدبي معناه قدرة الأثر الأدبي سواء أ كان قصيدة أم ديوانا أم قصة أم رواية أم أي جنس أدبي آخر على البقاء والديمومة بين أبناء جيله من المتلقين و الأجيال الآتية بعده، علما ان الظروف التي تحدد بقاء الشعر قد لا يكون لها أدنى علاقة بقيمة هذا الشعر في بعض الأحيان ، كما ان من الأعمال الشعرية ذات القيمة الكبرى ما يقضى عليه بالفناء غالبا لهذا السبب ذاته.
حاول الناقد العراقي الراحل الدكتور عناد غزوان في كتاباته النقدية تجسيد الواقع الجمالي للشعر العربي بما يحيط بهذا الواقع من قضايا وأسئلة تتعلق بمستقبله أو جمهوره و مشكلة توصيله أو بمكانته في الثقافة العربية المعاصرة أو في طبيعة معياره النقدي الذي يقوم هذا الجمال أو في شكليه اللغوي _ المجازي _ من خلال صوره وأسلوبه وبالإمكان تقديم أهم الخلاصات لرؤيته النقدية إزاء الشعر المعاصر فيما يأتي.
فالقصيدة حركة متطورة تنشأ مع الإنسان وتبقى مصاحبة لكيانه فتغدو في بعض الأحيان ضربا من الحلول الوجداني لأي شاعر يحترم فنه الشعري ويعي مسؤوليته الأدبية . لذا صار المعيار الفني من المعايير النقدية الجديدة والمنهجية في تحليل النص الأدبي، نظرا لما يتضمنه من قدرة فائقة لاستيعاب ” تجربة النص” استيعابا فنيا منطلقا من ذات النص، أي من داخله وأحشائه فضلا عن قدرته المميزة ذات الحساسية الفنية العميقة أو الموازنة بين نص وآخر.
إذا كانت القصيدة تعبيرا عن الخيال بمعناه الفني ، فهي خلاصة تجربة الشاعر أو غاية عمله وثمرة دراسته. لذلك فان نقد القصيدة هو نقد لمهارة الشاعر الخاصة في خلق تلك القدرة. فالقصيدة _ الشعر _ والشاعرية _ المهارة الفنية _ عنصران متداخلان في تركيب فني واحد له أهميته الفضائية المشروعة في المناهج النقدية ومنها التأثرية الصافية أيضا.
قد يعبر الشعر عن العاطفة بطريقة أخرى( تختلف عن الشعر الدرامي) وقد يكون مضمون القصيدة حول موقف أو موضوع يرتبط اجتماعيا ، أو يتصل اتصالا وثيقا _ سواء أ كان طبيعيا أو تقليديا _ بالعاطفة . وقد يكون هذا المعنى المشروع والواضح(غير الغامض) هو الدلالة التي يمكن ان نفهم بها مصطلح (المعادل الموضوعي) . وفي مثل هذه الحالة فان المصطلح كله يعني ان الشعر يشير دلاليا الى العواطف ليس بوساطة الإشارة اللفظية المباشرة ولكن من خلال القصيدة كلها . فالقصيدة تقدم نفسها و كأنها مركب أو بناء رمزي.
تعتز كل أمة من الأمم بتجربتها الشعرية الأولى التي يكسبها التاريخ والزمن ، وهي تنتقل من مرحلة حضارية _ فكرية الى أخرى ، نكهة الخلود الأدبي وديمومة البقاء بوصفها التجربة الأصيلة فنيا في حياة تلك الأمة ، والوجه الواقعي لفكره الأدبي ورصيدها الحضاري في حقية مهمة من حقب وجودها الشعري ، حيث تصير مثل تلك التجربة ، مع احتفاظها بخصوصيتها وسماتها ومزاياها اللغوية والفنية ، روح التراث القومي فكرا وموقفا يجسده الاعتزاز والإعجاب بها مظهرا حضاريا يغني تجارب الشعوب الأخرى بما له من أصالة وجودة و بعد قومي _ إنساني يتجلى في مضمون التجربة الشعرية وفي واقعيتها وصدق مشاعرها .
تبقى حركة الصراع والتجديد ، أو الأصالة و المحاكاة قائمة في الفكر الأدبي، تبقى حية متطورة لا تعرف الجمود ، تمثل العلاقة الجدلية بين الفن الشعري و روح العصر من جهة، وتصور الصراع بين الخروج على قواعد الفن و الفن نفسه من جهة أخرى. ومل صاحب الحركة من نظرة جديدة الى (القدم) ونظرة قديمة الى (الحداثة أو الجديد) في الفن الشعري عامة.فالخروج على قواعد أي فن من الفنون لا يعني الخروج على الفن ذاته بقدر مل يعني استحداث قواعد جديدة لذلك الفن سرعان ما تصير تراثا فنيا ، يتمتع بكل مقومات التراث الفني حضاريا وفكريا وقوميا وإنسانيا.
الشعر فن والفن ضرب من المعرفة الإنسانية في مستوياتها المختلفة وأبعادها الثقافية المتباينة . فللفن الشعري واقعه الخاص وغاياته الخاصة ، فلدية ضرورة علاقة بالساسة والدين والأخلاق والحياة الاجتماعية بقيمها الثابتة والمتغيرة واتجاهاتها الفكرية أو العقائدية فضلا عن الرابطة الوجدانية العميقة في جذورها النفسية بالشعور والإحساس الذاتيين وسائر الطرائق الأخرى المتعلقة به والتي تتفاعل مع قدر البشر حين يدخل الفن الشعري عوالم الحضارة بعدا فنيا وتعبيرا جماليا عن نشاطات أساسية : حول الجود والكون والإنسان والطبيعة.
القصيدة الخالدة هي التي تمتلك مبدأ شعريا بمعنى إنها ذات بعد فني خاص يسمو بها فوق حدود الزمان و المكان الثابتين، الى آفاق الزمان والمكان المتحركين والشاملين المرتبطين بحركة الفكر الإنساني ، خارج نطاق النقد لشكلي . وهذا يتطلب ، بلا ريب ، قراءة واعية وذكية للقصيدة من خلال استيعاب مطلق لمتعتها الشعرية المتمثلة بمعناها وأصالتها ودقتها في التعبير حينا و جمال لغتها الشعرية حينا آخر، وروعة بنائها حينا ثالثا.
يرتبط الشعر بوصفه معيارا نقديا بقضية الخلود الشعري فالخلود الأدبي معناه قدرة الأثر الأدبي سواء أكان قصيدة أم ديوانا أم قصة أم رواية أم أي جنس أدبي آخر على البقاء والديمومة بين أبناء جيله من المتلقين والأجيال الآتية بعده . علما ان الظروف التي تحدد بقاء الشعر قد لا يكون له أدنى علاقة بقيمة هذا الشعر في بعض الأحيان ، كما ان من الأعمال الشعرية ذات القيمة الكبرى ما يقضي عليه بالفناء غالبا لهذا السبب ذاته.
ان شهرة القصيدة تعتمد على تحقيق الاستجابة والرضا عند جهور الشاعر: ذلك الجمهور الذي يرى فيه الشاعر انه قارئ ذكي ومثقف. أي ان الجمهور في مثل هذه الحالة قد يكون المعيار الثقافي لشهرة هذه القصيدة أو تلك فقد يكون المعيار الموضوعي لاندثار هذا الشاعر أو ذاك. لأي ان القصيدة في مثل هذا الموقف مصدر مهم من مصادر الثقافة الاجتماعية ، ناهيك عن أهميتها الفنية حسب معايير الفن الشعري . فألفاظ القصيدة التي تؤلف صورها و مصدر روعتها من خلال قدرة الشاعر على تحقيق وخلق مثل هذه الصور وتفاعلها مع غيرها في أسلوب شعري ناضج، هي التي تمنح الشعر ومعناه .
ان القصيدة العربية المعاصرة أرادت مخلصة ان تصطنع لنفسها (كونا) مستقلا يمثل سماتها ويظهر وجهها الفني للعالم، ولكنها في بعض نماذجها قد بالغت في رسم صورها فشحنتها بالغموض والتجديد والرمزية لدرجة ضاعت فيها الحقيقة العفوية التي تعد من ضرورات التعبير الفني ، حتى لقد صارت تلك الظواهر من خصائص هذا الكون الفني الجديد . وهنا يتجلى لنا موقف النقاد مدحا أو قدحا في أصالتها .
ان الحرية في التعبير ، واستخدام الحوار الداخلي، والاقتباس ، والرمز والأسطورة المأخوذة من الحياة اليومية وملامح التاريخ العربي والإنساني أصبحت من الخصائص الفنية التي تميز القصيدة الجديدة من غيرها من النماذج الشعرية الأخرى في أدبنا المعاصر ، وقد تبلورت تلك الخصائص في ميزة كبرى هي انها لا تقسر التجربة الشعرية على الانصباب في قالب مفروض سلفا بل تسمح للتجربة بأن تصوغ لنفسها القالب الذي يلائمها حسب طبيعة الذوق الشعري العربي ومتطلبات روح العصر المتطورة والمتجددة .
ان القصيدة العربية المعاصرة تعاني من أزمة التعبير متأتية من سوء فهم عام للحرية اللغوية وجهل مغلف ببلاغة مدعاة يكمن في مصطلح تعبيري شائع هو (الغموض الفني) فالغموض الفني في العملية الشعرية ليس معناه فناء الوضوح والإبانة في التعبير عن التجربة الأدبية _الحسية والمعنوية _ وان ما معناه تكثيف الصور الفنية في التعبير هن تلك التجربة دونما استبداد من الفردية مستغرقة بالرمز والطلاسم بحيث يتعذر على القارئ فهم تلك التجربة وأخيرا الفشل في خلق الاستجابة الفنية والذوقية في نفسه ، الاستجابة التي يخلقها تيار الوعي القائم على إدراك ماهية الرمز وبعده الفني من خلال انسجام موضوعي بين الشاعر _ في تجربته_ والقارئ في مدى فهمه واستيعابه للنص دون ا يفقد ذلك الغموض شخصية صاحبه ويبدد أبعاد تجربته في متاهات من العبثية .
ان المضمون الاجتماعي في القصيدة هو لون من ألوان المضمون الدرامي وعلى حد تعبير بعض النقاد الأوربيين ، وهذا يعني بطبيعة الحال البحث عن الروابط التي تؤلف وحدة القصيدة الفنية حيث تؤدي الرمزية، في إيحائها بديلا عن الإفصاح وفي تلميحها بديلا عن العرض ، أو الغموض الفني دور معامل الارتباط بين خبرات الشاعر وتجاربه المختلفة حين تنسجم وتتألف في تعبير فني منسق ذي (قيمة) تحتم على النقد البحث في أصالتها الفنية من خلال إدراك أبعادها وأعماق رمزها ورصيدها الإنساني .
ينبغي على النقد الفني ألا يفصل بين شكل القصيدة كبناء فني سواء أكان عضويا أم تجريديا ، ومضمونها الذي قد ينثر وتفتت ،عندئذ ،وحدة القصيدة . لأن موقف القصيدة الفكري والعاطفي يجب ان يفهم في ضوء هذه النظرة الكلية المتكاملة للعمل الفني . فالحقيقة التعبيرية وان كانت صادرة عن المضمون تبقى متعلقة بالشكل تعلقا غنيا حين تخلق القصيدة في ذات قارئها استجابة انفعالية أو عضوية تقود بالضرورة الى عميلة الإدراك للتقويم الفني.
القصيدة التي يكتب لها البقاء ليست نتاج سكب للعواطف الذاتية : فالطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة انما تكون بالعثور على معادل موضوعي و بعبارة أخرى العثور على مجموعة أشياء ، على موقف، على سلسلة من الأحداث تكون هي الصيغة التي توضع فيها تلك العاطفة ، حتى إذا أعطيت الوقائع الخارجية التي لا بد لها ان تنتهي خلال التجربة الحسية ، استثيرت العاطفة على التو .فالمعدل الموضوعي الذي صار معيارا معتمدا في النقد، يرى في لغت التعبير الشعري أو الأدبي علاقة جديدة ترتفع بالكلمة الى عالم الارتباط الكلي القائم على الإدراك الحسي و المعنوي للمضمون المستخلص من الحس والفكر والواقع وليس مجرد كلمات شعرية بل هي الأسلوب .
التجربة الشعرية ينبغي أن ألا تنفصل عن التفكير الكلي الشامل . انها وان لم ترتبط فيها المفردات المكانية و الزمانية ارتباطا منطقيا فان هذا الارتباط ما يزال _ و لابد ان يكون _ خاضعا لمنطق الشعور.
فالصورة الفنية ، اذن ، هي تركيب هندسي ، قائم على دلالة الكلمة حين تكون “مشحونة بالمعنى” عل حد تعبير إزرا باوند Ezra Pound ضمن إطار القصيدة الواحدة وحين لا تنفصل الكلمة الدالة عن جرسها الذي يصيرها ” حدثا حسيا ” يخلق في القصيدة جويا حركيا .
ان قراءة الشعر أو القصيدة على سبيل المثال فن من الفنون الجميلة وان إغناء الفكرة لا يتأتى إلا عن طريق أساليب وسمات معينة هي روح الفن الشعري . فالقراءة والتقويم مترادفان، أي اننا إذا فشلنا في فهم قصيدة ما، فالسبب لابد ان يكون ثمة اختلاف بين تجربة شاعر أو فكرته وتجربتنا أو خبراتنا ، وبسبب هذا الاختلاف بين التجربتين قد نشتط بعيدا في فهم القصيدة وتقويمها نقديا ، وبذلك نبتعد عن الجو والمعنى اللذين سكبهما وصهرهما الشاعر في قصيدته .
إذ كان : الحس الصادق” _ كما قيل _ “هو جسم العبقرية الشعرية ، والاستدعاء (هو ) كساؤها ، والعاطفة حياتها ، والخيال هو الروح السارية في كل مكان وتشكل في كيان واحد أنيق مدرك .” فان مهمة نقد التجربة الشعرية تكون ، بلا ريب ، مهمة عسيرة تتخطى مجرد إصدار الأحكام العامة العابرة، بل تحاول اقتحام التجربة الشعرية ذاتها ، بحسها الصادق وعلاقتها وجزئياتها وعاطفتها وخيالها ، اقتحاما تحليليا ينظر إليها كلا فنيا في الاهتداء الى تقدير نقدي فيها يمكن الاطمئنان إليه حين يكون مثل هذا التقدير في حد ذاته مضمونا نقديا يتحتم وجوده في الأدب انقدي الذي يسعى اليه مصطلح النقد في تعامله مع التجربة الشعرية .
ان نقد الشعر لابد ان ينصب حالا على التعابير و الأساليب التي استعملت لنقل الحياة ، ثم العلاقة بين المضمون والشكل . ” فالناقد الأدبي يستطع عن طريق الجمالية في بحثه عن طريقة الأدب وأهدافه أو عن طريق ” التشريعية” أو “التقنينية” وضع بعض القواعد والأصول التي يتبعها الآخرون في دراساتهم الأدبية والنقدية أو عن طريق”التحليل الوصفي” للأعمال الأدبية يستطيع الناقد ان يقدم مضمونا نقديا جديدا من خلال قراءاته هذه مهما كانت طرائقها مختلفة ولكنها في الحقيقة ليست مستقلة واحدة عن الأخرى وان بدت مستقلة لبعض الباحثين والدارسين .
العاطفة وحدها ليست شعرا ، بل هي عنصر من عناصر الخلق الشعري . وان التعبير العاطفي Emotional Expressionيصير شعرا فقط حين يتخذ لنفسه شكلا جميلا وهنا تكمن الصعوبة في تحديد المصطلحات الأدبية والنقدية خاصة وان الشاعر ينظر اليه ـ في قصيدته وأشعاره ـ وكأنه خلق لموسيقى الشعرية والصور التي تدل على إبداعه وابتكاره في نقل التعبير العاطفي الى مستوى البناء والخلق الجمالي القائم على اللغة التي يعمل من خلالها الشاعر في رسم صوره وخياله .
ان الصورة التي يسعى الشاعر الفنان الى خلقها لا تعني زخرفة لفظية فحسب بل هي إنشاء فني واندماج بين نسقين : الحسي الذي يتجلى ببراعة باستخدام اللفظة زخرفيا ومعماريا وبلاغيا والنسق الذهني أو المعنوي حين ترتفع الألفاظ الى مستوى التأمل المعنوي العميق والنظرة البعيدة المدى في فهم الصورة كلا متكاملا وبهذا الخصوص يقول لويس ماكنيس Louis MacNeice ” أنه لخطأ ان ننظر الى صورة الشاعر على انها زخرفة و حسب . . لكن الصورة في الأغلب توجد (في القصيدة )” لتوضح المعنى أو تثبته في نفس المتلقي بقوة . ثم انه في قصائد كثيرة تنسج الصورة والمعنى (أو يلمحان) بشكل يستحيل فصلهما (و جعل الرمزيون هذا مبدأ من مبادئهم) .
الاعتمادات
ـ التحليل النقدي والجمالي للأدب / د. عناد غزوان آفاق عربية ـ بغداد ـ 1985