لا طلاق ولا زواج في علاقة القصيدة بالمحُرّم
في الساعة التي قررت فيها أن أحاور الشباب ، كنت على دراية ان مشروعي هذا سينقل أشارات مهمة لمستقبل الحياة عامة الثقافية والفنية والسياسية ، حوار اليوم مع الشاعر العراقي الشاب عمر الجفال يؤطر بوضوح بروز شخصية أدبية مهمة سيشار لها بالبنان شاعراً ومثقفاً من نوع خاص ، حاولت خلال الأسئلة المقتضبة التي وجهتها للشاعر أن اكتشف بعضا من مكامن نظرته الشعرية والاجتماعية ، ولم اغفل عن سؤاله حول العلاقة الجدلية بين الشعر والفن والشعر والإنسانية بوصفها حاضنة الشعر وملهمة انتشاره وأساس وجوده ، عاطفة عمر الجفال لا يمكن أن تنفصل عن إبداعه الشعري ومغامراته قصيدة ممتدة لا تزول ، إنني أقدم شاعراً يبحث عن اكتماله في القصيدة ولكم في هذا الحوار السريع شيئاً عنه .
** عمر الجفّال في البداية هل ترى انك في تجربة مريرة؟
*أنا من الجيل الذي منذ أن تفتح وعيه عرف أن حرباً ضارية كانت تحصد الأرواح وتلتهم الأخضر واليابس، فدهمته الفجيعة وهو في مقتبل العمر. منذ تلك اللحظة ومروراً بتجربة الحصار ومن ثم تجربة المنفى التي خاضها أغلب أبناء جيلي مضطراً -ولكن بمدد متفاوتة-، وليس انتهاءً باحتلال العراق، كل هذا من شأنه أن يجعل التجربة مريرة، ومن شأنه أيضاً أن يثير أسئلة كثيرة على المستوى الإنساني والتاريخي لبلد خاض حروباً اخترقت غرف نومنا واندست تحت أغطيتنا. كل تلك الأسئلة ومراجعة التاريخ تنبجس من سؤال آخر وهو سؤال الانتماء، فبين تجربة المنفى واجترار هموم الوطن يكون السؤال الأهم إلى أية بقعة جغرافية ينتمي جيلنا؟ وهل هناك أصلاً انتماء حقيقي يشدك من حبلك السري إلى الأرض؟ أم أن السؤال الإنساني الأكبر وحده يحجب تلك الأسئلة؟.
أحزان وهموم
** ما العلاقة الحقيقية التي تجمع الشعر مع الإنسانية؟
*الشعرُ إنساني بالفطرة، بمعنى أن الشاعر يبتكر من شعره كوناً وجمادات مؤنسنة فتنبض الصورة بالحياة داخل القصيدة. القصيدة فضاء مفتوح على أفكار ومشاعر وأحلام وشطحات تضطرم فيها أحزان وهموم تؤنسن الكلمات والصور، وتؤكد شرعيتها الإنسانية كعنصر له تاريخ.
** هل يمارس الشاعر العاطفة كما يريد في القصيدة أم أن للعاطفة حساً دكتاتورياً “إذا صح التعبير” على الشاعر؟
*قد تكون العاطفة جزءاً مهماً من بنيان القصيدة، والنسغ الذي يجري في كيانها، لكنها، أي العاطفة، إذا فاضت من إنائها، وتعدت حدودها الطبيعية قد تقترب من البكائية والرومانسية الساذجة والمجانية. العلاقة بين العاطفة والمعرفة هي علاقة تواطؤ، علاقة جدلية ، لكن على ألا تجتاح واحدة حيز القصيدة بهيمنة متطرفة فتحتلها. في ظل المعرفة والتطور التكنولوجي أصبحت العاطفة أخف وطأة مما كانت عليه في القرن الماضي، الشعر يقترب حالياً من المعرفة. البكاء لم يعد أمراً وارداً في القصيدة الحديثة، أنا لا أقصد (طبعاً) أن العاطفة هي البكاء، لكنها إذا اجتازت حدودها تُصبح كذلك. دكتاتورية العاطفة تكون خاضعة أحياناً لضعف الفرد وعدم امتلاكه ناصية المعرفة داخل النص.
** شعر اليوم هل هو أقرب إلى الاستهلاك أم أنه يقف عند عتبة المجد؟
*إذا تكلمنا عن كلمات كثيرة مرصوفة يسميها بعضهم شعراً، فهذا بالطبع نمط يمعن في الاستهلاكية، إلا أن هناك تجارب شبابية كثيرة تُعَدّ محاولات جريئة لتحقيق مجد شعري، ومغايرة جمالية تقوم على أساس حداثي استمد مشروعيته من تغير العالم أجمع. هناك محاولات لمهلوسين سميت (شعراً) وأكد تلك التسمية الكثير من مدّعي النقد الذين يتعاطون تعليقات وآراء لا تخضع لأي معيار نقدي.
** هل تعتقد أن على الشاعر أن يكون مغامراً وفوضوياً وعابثاً كي يصل إلى إنتاج لوحة الشعر العارمة؟
*القصيدة بحدّ ذاتها مغامرة جميلة، وعلى جيلنا أن يغامر لنمسك بقصيدتنا المشتهاة التي تتجاوز الإرث الشعري الذي خلّفته لنا الأجيال السابقة، تجاوزاً واعياً دون أن نكفر بذلك الإرث كلياً، وأن نستند إلى بعض أسسه، اللغوية والبلاغية والبيانية، دون تكرار لمضامين ناشزة في عصر التغيرات التي تقتحم علينا أضيق زوايا خلوتنا الخاصة، وتدهم أرواحنا، وتزحم باستفزازاتها حتى أحلامنا، بالطبع على جيلنا أن يغامر، مغامرة محسوبة الخطوات والتفاصيل دون الوقوع في شَرِك الفوضوية والهلوسة والثقة العمياء التي تؤدي أحياناً إلى تنظيرات ساذجة ومجترة لا تضيف إلى واقعنا شيئاً ولا تحلق بأحلامنا أعلى من الأرض لأنها معطوبة الأجنحة.
** ما الذي يجعل قصيدتك معصومة من الهدوء؟
*القلق والتأمل، هذان العنصران ينغلقان على بعضهما، إذ أن تأمل الحياة بقلق يجعل القصيدة غير هادئة ويخضعها لجو متوتر من أول جملة فيها نزولاً إلى ختامها، ويأخذ هذا التوتر المنبث في حنايا القصيدة طابعاً تصاعدياً، حيث أن التأمل بإمكانه أن يخلق ملحمة، والقلق يعطيها الإمساك بجميع العناصر المخفية وغير المرئية والحلمية والمتمناة على السواء. وجميع هذه العناصر من شأنها أن تُذيب جبل الثلج والبرود وتزيحه عن القصيدة. إن عدم الاطمئنان والأمواج المتلاطمة داخل القصيدة تُذيب المتلقي في حلقة الدوران والبحث وتجعله أيضاً جسماً مكمِّلاً في تلك الغرفة المغلقة (القصيدة غير الهادئة).
** ما التابوهات التي يحاول عمر الجفّال كسرها؟
*هناك تابوهات كثيرة نحاول، أنا والكثير من شعراء الجيل الجديد، على هدمها، ليس من خلال القصيدة فحسب وإنما من خلال مقالات ننشرها هنا وهناك. ينتصب الفعل الديني الذي يتنفس حتى في غرف نومنا كالجدار المكمل للتابوهات الأخرى. إذ أن الديمقراطية في ميدان الحراك السياسي، التي يدعي البعض وجودها والتنظير لها، غالباً ما تأخذ الدين مرجعية لها لتحارب به ما يعترض توجهاتها المخالفة للديمقراطية الحقيقية، وبهذا ينتصب جدارا الدين والسياسة، وبإضافة التابو الثالث الجنس إليهما يصبح الإنسان المعاصر محاصراً بتابوهات تسدّ الأفق في وجوه الطامحين إلى التغيير وبناء مجتمعات تتمتع بحرية مفتوحة على مساحات من الضوء والهواء النقيّ وألوان الطيف الإنساني. وهذه التابوهات التي أصبحت جزءاً من مفردات السياسي والديني اليومية، تتجسد وبفوقية على منطق العقل المنفتح ومتعالية على الواقع والمشاعر. في الكتابات الجديدة الملتزمة تجد انهماكاً فعلياً واضحاً لخلخلة هذه الأسس الخاطئة وتدميرها، منبجسة أحياناً –أعني الكتابات- من لا وعي الشاعر، وأحايين أُخرى تكون مدروسة ومعرفية ومخطط لها.
الشاعر الناضج
** متى تشعر بأنك في علاقة ناضجة مع الشعر؟
*الجريان وراء الشعر هو ما يعنيني، لا يهمني أن أكون على علاقة ناضجة معه، أكتفي بجنونه وابتعاده والبحث عنه، مرات هو من يجيء فجأة، ومرات أُخرى يغيب. أعتقد أن علاقة الفرار هذه تغنيني عن النضج، فعلاقة النضج قد تؤدي إلى الثقة الكاملة واجترار الأنا إلى دائرة الشاعر/النضج، ما يؤدي إلى الطلاق البائن إذا جاز التعبير.. تعجبني العلاقة (المحرّمة) مع الشعر بدل الزواج الذي قد يقود إلى طلاق ارثذوكسي.
** كيف ترى جدل الأشكال الشعرية المتواجد في الساحة الثقافية؟
*أعتقد أن الجدل مهم للثقافة، لكن المتواجد الآن ليست ثقافة جدلية، وإنما الغائية وإقصائية. هي محاولات تعصب لجنسٍ كتابي ما على حساب الجنس الآخر، وهذا مثله مثل صراع الطوائف. المهم أن يكون النص بكامل جماله.. لا يعنيني ما شكل كتابته ما دام يلامس الحداثة في طرحه ويحملُ كمّاً معرفياً وشحنات عاطفية ليعيش. السلفية الثقافية وعدم تقبل الآخر هي بذاتها تنافي الحداثة وتنافي الثقافة.
** برأيك ما هو دور المثقف الشاب وهل هناك مسؤوليات حتمية تواجهه خلال هذه الفترة؟
*على أي مثقف أن يكون مسؤولاً وليس المثقف الشاب فقط. بلد مثل العراق مرَّ بانعطافات خطيرة، والانعطاف الأخير لا نعرف أين سيؤدي بنا، الشعارات تتناسل، والأحزاب فاقت الشعارات، والاحتراب الطائفي ما يزال في الوعي الجمعي حتى وصل إلى عقول بعض (المثقفين). كل هذا يخلق في الوعي الثقافي حراكاً من شأنه أن يكون لصالح الثقافة، فالمراجعة والتمحيص في هذه الدوامة التي وُضِعنا فيها قسراً أحياناً وأحياناً عن صمت يجب أن تتبدل أوضاعها، علينا أن نشدّ هذه الدوامة إلى الطمأنينة عبر طرق واعية. جيلنا واعٍ ومثقف، صحيح أن ملامحه لم تتبين بشكلٍ كامل، لكن الرهان عليه لن يكون خاسراً. نحن ندرك حجم الكارثة، ونقترب منها لنلامس قباحتها، ونربت على كتفِ نفسنا لنخفف من هولها، لكن الاعتراف والالتفات إلى هذا الجيل ما يزال ساكناً. لقد وضعتْ حركة الأجيال في العراق لافتات سوداء تنعي المستقبل. الشعراء الشباب الآن يلجؤون إلى التاريخ ويفككونه، ويفككون السياسة وصولاً إلى الأدب والشعر بشكلٍ خاص، نحن بحاجة إلى مراجعة كلّ شيء.
القصيدة اليومية
** ما العلاقة التي تجدها واضحة وصريحة بين الفن والشعر؟
*لقد نحت القصيدة الحديثة إلى تشكيل فن متكامل داخل صرحها الشاهق. وهي –أي القصيدة- تفعل ما بوسعها لتكون جامعة لكل الفنون وتغترف من كل الفنون.
هناك استفادة واضحة من السينما في القصيدة اليومية المتواجدة بشدة في بلاد الشام على الأخص. واستفادة النص الرمزي من اللوحة التجريدية، وهناك أيضاً محاولات في تفريغ الفنون ببعضها وخلقها من جديد داخل وحدة متناغمة. لكن حركة النقد لم تتعرض ولم تبحث عن هذه الجماليات والاشتغالات إلى الآن، ما تزال قصيدة ناصر مؤنس المرسومة طي الكتمان ولم ينبشها أحد إلى الآن رغم كتابتها في ثمانينات القرن الماضي. التجارب بحاجة إلى نقد وتنظير يسندها. هذا الهدم بين جدران الفن متواجد، لكن كسل النقد لم ينظر إليه إلى الآن، ليس مهنة الشاعر التنظير، الشعراء الذين نظّروا لأجيالهم فقدوا الشعر أحياناً لصالح التنظير والنقد.
** كيف ترى الذائقة الشعرية لدى عامة المجتمع العربي، هل هي ذائقة ايجابية أم إنها ذائقة سلبية لا تعطي للإبداع مجالاً للعيش؟
*لقد تخلى المجتمع عن الثقافة بشكل كامل وليس الشعر فحسب بسبب ترويج الجهاز الدعائي للدولة على أن الشعر حاجة ثانوية، وحتى المناهج الدراسية، تنحو بموادها التدريسية إلى التعبوية والحماسة الزائفة. إن مجتمعاتنا أُلهيت عن الثقافة لصالح العيش، العيش هو ما يهم في الوقت الراهن. لَمْ يُنظَر حتى الآن إلى الثقافة على أنها شيء فعال وقادر على خلق وعي مغاير. نحن في أزمة (السياسة) التي تتعالى على الثقافة ولا تمتلك حبلاً لإيقاف غولها الذي يُخرِّب كل ملامح الحياة، لقد أخذ غول السياسة يلطم كل الوجوه الجميلة. ولا تقع المشكلة على السياسي وحده، بل إن البعض من (المثقفين) لم يكفّ أن يكون تابعاً للسياسي ولخططه التعبوية، ولم يكف إلى الآن بعض الشعراء على أن يكونوا أبواقاً لطائفة أو حزب ما. كل هذه الموجودات الحياتية تُضعِف الإنسان وتحوله رويدا رويداً إلى كائن ظل يود العيش فقط، بعيداً عن التفكير، وعن التماس حدود الجمال
في الساعة التي قررت فيها أن أحاور الشباب ، كنت على دراية ان مشروعي هذا سينقل أشارات مهمة لمستقبل الحياة عامة الثقافية والفنية والسياسية ، حوار اليوم مع الشاعر العراقي الشاب عمر الجفال يؤطر بوضوح بروز شخصية أدبية مهمة سيشار لها بالبنان شاعراً ومثقفاً من نوع خاص ، حاولت خلال الأسئلة المقتضبة التي وجهتها للشاعر أن اكتشف بعضا من مكامن نظرته الشعرية والاجتماعية ، ولم اغفل عن سؤاله حول العلاقة الجدلية بين الشعر والفن والشعر والإنسانية بوصفها حاضنة الشعر وملهمة انتشاره وأساس وجوده ، عاطفة عمر الجفال لا يمكن أن تنفصل عن إبداعه الشعري ومغامراته قصيدة ممتدة لا تزول ، إنني أقدم شاعراً يبحث عن اكتماله في القصيدة ولكم في هذا الحوار السريع شيئاً عنه .
** عمر الجفّال في البداية هل ترى انك في تجربة مريرة؟
*أنا من الجيل الذي منذ أن تفتح وعيه عرف أن حرباً ضارية كانت تحصد الأرواح وتلتهم الأخضر واليابس، فدهمته الفجيعة وهو في مقتبل العمر. منذ تلك اللحظة ومروراً بتجربة الحصار ومن ثم تجربة المنفى التي خاضها أغلب أبناء جيلي مضطراً -ولكن بمدد متفاوتة-، وليس انتهاءً باحتلال العراق، كل هذا من شأنه أن يجعل التجربة مريرة، ومن شأنه أيضاً أن يثير أسئلة كثيرة على المستوى الإنساني والتاريخي لبلد خاض حروباً اخترقت غرف نومنا واندست تحت أغطيتنا. كل تلك الأسئلة ومراجعة التاريخ تنبجس من سؤال آخر وهو سؤال الانتماء، فبين تجربة المنفى واجترار هموم الوطن يكون السؤال الأهم إلى أية بقعة جغرافية ينتمي جيلنا؟ وهل هناك أصلاً انتماء حقيقي يشدك من حبلك السري إلى الأرض؟ أم أن السؤال الإنساني الأكبر وحده يحجب تلك الأسئلة؟.
أحزان وهموم
** ما العلاقة الحقيقية التي تجمع الشعر مع الإنسانية؟
*الشعرُ إنساني بالفطرة، بمعنى أن الشاعر يبتكر من شعره كوناً وجمادات مؤنسنة فتنبض الصورة بالحياة داخل القصيدة. القصيدة فضاء مفتوح على أفكار ومشاعر وأحلام وشطحات تضطرم فيها أحزان وهموم تؤنسن الكلمات والصور، وتؤكد شرعيتها الإنسانية كعنصر له تاريخ.
** هل يمارس الشاعر العاطفة كما يريد في القصيدة أم أن للعاطفة حساً دكتاتورياً “إذا صح التعبير” على الشاعر؟
*قد تكون العاطفة جزءاً مهماً من بنيان القصيدة، والنسغ الذي يجري في كيانها، لكنها، أي العاطفة، إذا فاضت من إنائها، وتعدت حدودها الطبيعية قد تقترب من البكائية والرومانسية الساذجة والمجانية. العلاقة بين العاطفة والمعرفة هي علاقة تواطؤ، علاقة جدلية ، لكن على ألا تجتاح واحدة حيز القصيدة بهيمنة متطرفة فتحتلها. في ظل المعرفة والتطور التكنولوجي أصبحت العاطفة أخف وطأة مما كانت عليه في القرن الماضي، الشعر يقترب حالياً من المعرفة. البكاء لم يعد أمراً وارداً في القصيدة الحديثة، أنا لا أقصد (طبعاً) أن العاطفة هي البكاء، لكنها إذا اجتازت حدودها تُصبح كذلك. دكتاتورية العاطفة تكون خاضعة أحياناً لضعف الفرد وعدم امتلاكه ناصية المعرفة داخل النص.
** شعر اليوم هل هو أقرب إلى الاستهلاك أم أنه يقف عند عتبة المجد؟
*إذا تكلمنا عن كلمات كثيرة مرصوفة يسميها بعضهم شعراً، فهذا بالطبع نمط يمعن في الاستهلاكية، إلا أن هناك تجارب شبابية كثيرة تُعَدّ محاولات جريئة لتحقيق مجد شعري، ومغايرة جمالية تقوم على أساس حداثي استمد مشروعيته من تغير العالم أجمع. هناك محاولات لمهلوسين سميت (شعراً) وأكد تلك التسمية الكثير من مدّعي النقد الذين يتعاطون تعليقات وآراء لا تخضع لأي معيار نقدي.
** هل تعتقد أن على الشاعر أن يكون مغامراً وفوضوياً وعابثاً كي يصل إلى إنتاج لوحة الشعر العارمة؟
*القصيدة بحدّ ذاتها مغامرة جميلة، وعلى جيلنا أن يغامر لنمسك بقصيدتنا المشتهاة التي تتجاوز الإرث الشعري الذي خلّفته لنا الأجيال السابقة، تجاوزاً واعياً دون أن نكفر بذلك الإرث كلياً، وأن نستند إلى بعض أسسه، اللغوية والبلاغية والبيانية، دون تكرار لمضامين ناشزة في عصر التغيرات التي تقتحم علينا أضيق زوايا خلوتنا الخاصة، وتدهم أرواحنا، وتزحم باستفزازاتها حتى أحلامنا، بالطبع على جيلنا أن يغامر، مغامرة محسوبة الخطوات والتفاصيل دون الوقوع في شَرِك الفوضوية والهلوسة والثقة العمياء التي تؤدي أحياناً إلى تنظيرات ساذجة ومجترة لا تضيف إلى واقعنا شيئاً ولا تحلق بأحلامنا أعلى من الأرض لأنها معطوبة الأجنحة.
** ما الذي يجعل قصيدتك معصومة من الهدوء؟
*القلق والتأمل، هذان العنصران ينغلقان على بعضهما، إذ أن تأمل الحياة بقلق يجعل القصيدة غير هادئة ويخضعها لجو متوتر من أول جملة فيها نزولاً إلى ختامها، ويأخذ هذا التوتر المنبث في حنايا القصيدة طابعاً تصاعدياً، حيث أن التأمل بإمكانه أن يخلق ملحمة، والقلق يعطيها الإمساك بجميع العناصر المخفية وغير المرئية والحلمية والمتمناة على السواء. وجميع هذه العناصر من شأنها أن تُذيب جبل الثلج والبرود وتزيحه عن القصيدة. إن عدم الاطمئنان والأمواج المتلاطمة داخل القصيدة تُذيب المتلقي في حلقة الدوران والبحث وتجعله أيضاً جسماً مكمِّلاً في تلك الغرفة المغلقة (القصيدة غير الهادئة).
** ما التابوهات التي يحاول عمر الجفّال كسرها؟
*هناك تابوهات كثيرة نحاول، أنا والكثير من شعراء الجيل الجديد، على هدمها، ليس من خلال القصيدة فحسب وإنما من خلال مقالات ننشرها هنا وهناك. ينتصب الفعل الديني الذي يتنفس حتى في غرف نومنا كالجدار المكمل للتابوهات الأخرى. إذ أن الديمقراطية في ميدان الحراك السياسي، التي يدعي البعض وجودها والتنظير لها، غالباً ما تأخذ الدين مرجعية لها لتحارب به ما يعترض توجهاتها المخالفة للديمقراطية الحقيقية، وبهذا ينتصب جدارا الدين والسياسة، وبإضافة التابو الثالث الجنس إليهما يصبح الإنسان المعاصر محاصراً بتابوهات تسدّ الأفق في وجوه الطامحين إلى التغيير وبناء مجتمعات تتمتع بحرية مفتوحة على مساحات من الضوء والهواء النقيّ وألوان الطيف الإنساني. وهذه التابوهات التي أصبحت جزءاً من مفردات السياسي والديني اليومية، تتجسد وبفوقية على منطق العقل المنفتح ومتعالية على الواقع والمشاعر. في الكتابات الجديدة الملتزمة تجد انهماكاً فعلياً واضحاً لخلخلة هذه الأسس الخاطئة وتدميرها، منبجسة أحياناً –أعني الكتابات- من لا وعي الشاعر، وأحايين أُخرى تكون مدروسة ومعرفية ومخطط لها.
الشاعر الناضج
** متى تشعر بأنك في علاقة ناضجة مع الشعر؟
*الجريان وراء الشعر هو ما يعنيني، لا يهمني أن أكون على علاقة ناضجة معه، أكتفي بجنونه وابتعاده والبحث عنه، مرات هو من يجيء فجأة، ومرات أُخرى يغيب. أعتقد أن علاقة الفرار هذه تغنيني عن النضج، فعلاقة النضج قد تؤدي إلى الثقة الكاملة واجترار الأنا إلى دائرة الشاعر/النضج، ما يؤدي إلى الطلاق البائن إذا جاز التعبير.. تعجبني العلاقة (المحرّمة) مع الشعر بدل الزواج الذي قد يقود إلى طلاق ارثذوكسي.
** كيف ترى جدل الأشكال الشعرية المتواجد في الساحة الثقافية؟
*أعتقد أن الجدل مهم للثقافة، لكن المتواجد الآن ليست ثقافة جدلية، وإنما الغائية وإقصائية. هي محاولات تعصب لجنسٍ كتابي ما على حساب الجنس الآخر، وهذا مثله مثل صراع الطوائف. المهم أن يكون النص بكامل جماله.. لا يعنيني ما شكل كتابته ما دام يلامس الحداثة في طرحه ويحملُ كمّاً معرفياً وشحنات عاطفية ليعيش. السلفية الثقافية وعدم تقبل الآخر هي بذاتها تنافي الحداثة وتنافي الثقافة.
** برأيك ما هو دور المثقف الشاب وهل هناك مسؤوليات حتمية تواجهه خلال هذه الفترة؟
*على أي مثقف أن يكون مسؤولاً وليس المثقف الشاب فقط. بلد مثل العراق مرَّ بانعطافات خطيرة، والانعطاف الأخير لا نعرف أين سيؤدي بنا، الشعارات تتناسل، والأحزاب فاقت الشعارات، والاحتراب الطائفي ما يزال في الوعي الجمعي حتى وصل إلى عقول بعض (المثقفين). كل هذا يخلق في الوعي الثقافي حراكاً من شأنه أن يكون لصالح الثقافة، فالمراجعة والتمحيص في هذه الدوامة التي وُضِعنا فيها قسراً أحياناً وأحياناً عن صمت يجب أن تتبدل أوضاعها، علينا أن نشدّ هذه الدوامة إلى الطمأنينة عبر طرق واعية. جيلنا واعٍ ومثقف، صحيح أن ملامحه لم تتبين بشكلٍ كامل، لكن الرهان عليه لن يكون خاسراً. نحن ندرك حجم الكارثة، ونقترب منها لنلامس قباحتها، ونربت على كتفِ نفسنا لنخفف من هولها، لكن الاعتراف والالتفات إلى هذا الجيل ما يزال ساكناً. لقد وضعتْ حركة الأجيال في العراق لافتات سوداء تنعي المستقبل. الشعراء الشباب الآن يلجؤون إلى التاريخ ويفككونه، ويفككون السياسة وصولاً إلى الأدب والشعر بشكلٍ خاص، نحن بحاجة إلى مراجعة كلّ شيء.
القصيدة اليومية
** ما العلاقة التي تجدها واضحة وصريحة بين الفن والشعر؟
*لقد نحت القصيدة الحديثة إلى تشكيل فن متكامل داخل صرحها الشاهق. وهي –أي القصيدة- تفعل ما بوسعها لتكون جامعة لكل الفنون وتغترف من كل الفنون.
هناك استفادة واضحة من السينما في القصيدة اليومية المتواجدة بشدة في بلاد الشام على الأخص. واستفادة النص الرمزي من اللوحة التجريدية، وهناك أيضاً محاولات في تفريغ الفنون ببعضها وخلقها من جديد داخل وحدة متناغمة. لكن حركة النقد لم تتعرض ولم تبحث عن هذه الجماليات والاشتغالات إلى الآن، ما تزال قصيدة ناصر مؤنس المرسومة طي الكتمان ولم ينبشها أحد إلى الآن رغم كتابتها في ثمانينات القرن الماضي. التجارب بحاجة إلى نقد وتنظير يسندها. هذا الهدم بين جدران الفن متواجد، لكن كسل النقد لم ينظر إليه إلى الآن، ليس مهنة الشاعر التنظير، الشعراء الذين نظّروا لأجيالهم فقدوا الشعر أحياناً لصالح التنظير والنقد.
** كيف ترى الذائقة الشعرية لدى عامة المجتمع العربي، هل هي ذائقة ايجابية أم إنها ذائقة سلبية لا تعطي للإبداع مجالاً للعيش؟
*لقد تخلى المجتمع عن الثقافة بشكل كامل وليس الشعر فحسب بسبب ترويج الجهاز الدعائي للدولة على أن الشعر حاجة ثانوية، وحتى المناهج الدراسية، تنحو بموادها التدريسية إلى التعبوية والحماسة الزائفة. إن مجتمعاتنا أُلهيت عن الثقافة لصالح العيش، العيش هو ما يهم في الوقت الراهن. لَمْ يُنظَر حتى الآن إلى الثقافة على أنها شيء فعال وقادر على خلق وعي مغاير. نحن في أزمة (السياسة) التي تتعالى على الثقافة ولا تمتلك حبلاً لإيقاف غولها الذي يُخرِّب كل ملامح الحياة، لقد أخذ غول السياسة يلطم كل الوجوه الجميلة. ولا تقع المشكلة على السياسي وحده، بل إن البعض من (المثقفين) لم يكفّ أن يكون تابعاً للسياسي ولخططه التعبوية، ولم يكف إلى الآن بعض الشعراء على أن يكونوا أبواقاً لطائفة أو حزب ما. كل هذه الموجودات الحياتية تُضعِف الإنسان وتحوله رويدا رويداً إلى كائن ظل يود العيش فقط، بعيداً عن التفكير، وعن التماس حدود الجمال