“لا يوجد أي فهم تأريخي عقلاني للإسلام في العالم العربي أو الإسلامي ككل، الموجود هو مخيال عاطفي جبّار يحرك الشارع بالملايين”، بمثل هذه الاقتباسات وغيرها أتمثل عالمنا الذي نحيا، وقد أبتدأ بين شك مرةً ويقينٍ دامغٍ مرة أخرى على ما يُقال أو يُنقل عن كبار الأدباء والعلماء وأساتذة الاجتماع ومن اهتم بقضايا الناس، ولطالما كان الشك متقدماً على كلّ كبيرٍ أُسند إلى ثقافات البشر عرباً وغيرهم؛ لكنما الأقربون أولى بالمعروف وهم غالباً ما يمثلون جوهر الإشكال وبيت القصيد، وقد يتجاوز الشكّ عندي كلّ المقدسات التي ورثناها عن الآباء والأجداد وتلك الوثنيات التي أغرقتنا بسيل جارف من الطبائع والعادات مما يشكل بذرة لعلائق نسجت مخيالها عبر قلوب الملايين ليزداد العدد بشكل مخيف عبر تقادم السنين، لقد تركت تلك الطلاسم والمعميات أثرها البالغ في بنية العقل العربي وقننت من تصوراته الفكرية والفلسفية نحو بؤرة التصلب في القرار والحكم على النصوص بمظهرها، وربما كان السبب سعي العقلية العربية نحو البساطة والخفة طبقا لبيئتها أو لأسباب أخرى تتعلق بحياة العرب الاجتماعية التي كانت من نتائج الانعزال البيئي بين البحار الثلاث، وأيّا كان السبب فإن العرب (بكليتهم) لم يستجيبوا لدعوات التحضّر وفلسفة النصوص طبقاً للواقع والمنطق وتماشياً مع تعاليم الدين الحنيف؛ لذا كان من ضروريات العصر أن يخضع الجميع لفلسفة الشك، فالقانون موت لا يستثني أحداً.
كتب التأريخ والتراجم والسير وغيرها من كتب العربية الكثير لم تكن فردوساً ولا يُراد لها ذاك، وليست هي جحيماً كما رماها الأعداء به، وقد قرأنا في آثارهم” كلٌ يؤخذ من قوله ويرد؛ إلا صاحب هذا القبر” وقد كان يعني محمداً عليه الصلاة والسلام، ومن هنا بدأ الإشكال وقبله نصوص من القرآن وهلمّ جراً إلى حياة الصحابة والتابعين وحيثيات الدولة الإسلامية على طول أيامها ومعتركات الزمن فيها، وقد ظل العقل العربي متقوقعاً بحكم سياسات أُمليت عليه إملاءاً وتصدى لها قادة الزمن مداً وجزراً لترسي بهم الحياة على شواطئ الانحلال الفكري وتراكماته عبر الزمن. لقد أغفلت، ولربما أهملت عمداً كثيرٌ من المجتمعات العربية فهم الأنساق الثقافية التي كانت تحملها تلك النصوص وليومنا الحاضر فإنها نصوص نفتخر بأصالتها، أصالة الشكل طبعاً..! أما بنياتها وأنساقها المختزلة فيها فهي من المحرمات التي تعزف أقلام الباحثين عن سبر أغوارها وتمثّل ماهياتها وتطبيقها على واقع دائم التغيير، وما كنا لنهتدي لذاك لولا أن الظلم لأنفسنا قد طغى وتجبر، وانحاز عن فطرة البشر.
لقد ابتعد العرب عن وعائهم الذي كان حاملاً لأفكارهم ومختصرا لخطابهم حتى أُثقل بالهموم ودست به السموم، ثمّ شكل الجهل بالعربية بذرةً لانقسامات مني العرب بها منذ القدم، وكان لطبيعة الشخصية العربية الثائرة أثراً واضحاً يتمثّل بوقود مفتئدٍ على خصمه، وسبّاق إلى الحجج التي يدحض بها خصمه ويلبسه حلة الخذلان، وإنما النصرة لمن بيده مقاليد السياسة أو وقفة العشير ،وهكذا يدول الزمن بينهم دولته مرةً ناصر لهذا وأخرى خاذل لذاك، وهم في هوامش الحياة يدور اختلافهم بعيداً عن جوهر المسألة وبيت القصيد؛ فكان الهامش لهم متنا يستعرضون عليه بطولاتهم اللغوية وخصوماتهم المذهبيّة.
لقد ساقت الأقدار العربية إلى مسلك خطير فويح أهلها؛ إذ جاس الجهل ديارهم وتسربل الآخرون قرارهم وقلما تجد غير ذي تخصص حاز من تأريخه شيئاً يرد به سائلاً يسأل، أو صبياً يدفعه الفضول لأن يعرف تأريخ أمته كيف قام وكيف هوت عزته نحو الزلل؛ فلهذا كله احتاجت العقلية العربية إلى تجسير الهوة بين اللغة في نصوصها وفلسفات الحياة بحداثتها وتكوينها الجديد، إذ الإسلام نص مفتوح على كل الثقافات والأزمان وإنما الخلل في فهم النصوص وهجر اللغة في خطاباتها وأنساقها وفلسفاتها المتداخلة مع ما أنتجه البشر من ثقافات على مر العصور.
—
مقالات ذات الصلة
14/10/2024