عندما كنا في الصالحية، في أواسط الأربعينات، كان من جيراننا الشهيد جعفر الأوقاتي وعائلته وأشقائه. وعندما خرجت من السجن في أواخر تموز 1958 كانوا لا يزالون في نفس الدار المواجهة لنا وبين العائلتين تزاور وعلاقة وثيقة. وعندما خرجت من معتقل قصر النهاية في صيف 1969، كانت زوجة الشهيد وأبنائه لا يزالون في دارهم، ولكن تبين أن جيراننا في الدار التي كانت تقابلهم كان يسكنها الأديب والصحفي الفقيد جعفر الخليلي وزوجته وبناته.
لم يكن لي من قبل سابق معرفة شخصية بالمرحوم، وإن كنت قد قرأت له منذ الأربعينات مقالاته وتعرفت على الصحف التي كان يصدرها.
عرفت منذ الأيام الأولى أن العلاقة بين العائلتين قوية للغاية والتزاور كان يوميا. وبعد ظهر يوم من الأيام قالت لي المرحومة والدتي: ” هيا بنا لدار الخليلي فهو مريض ويجب أن تزوره معي.”
دخلنا الدار، وبعد السلام على حرمه وبناته، صعدنا إلى غرفته العلوية التي كان طريح الفراش فيها. سلمت عليه ففرح، وما كدنا نتبادل كلمات أولى حتى غمرني شعور وكأنني أعرف هذه الشخصية منذ زمن بعيد، وشعرت إزاءه بإلفة ومودة، خصوصا وكان حديثه ظريفا طليا، وهو نفس أسلوبه في الكتابة.
ولما سافرت للخارج وبقيت، ظللت أراسله ويراسلني، وأزوره عند وجودي في بغداد كلما سنحت الفرصة. ولدي بعض رسائله الظريفة، وملؤها روح المودة وبأسلوب ظريف، حيث لا تكاد رسالة منها تخلو من الحديث عن قطط دارنا وكانت بالعشرات، فيكتب عنها بمبالغة متعمدة متفكها، [ الملحق].
كان الفقيد شخصية ثقافية وصحفية واجتماعية معروفة، تتميز بالسماحة وسعة الأفق والاطلاع الواسع وحب النكتة، حيث كان من بين ألمع الظرفاء العراقيين. وقد ولد من عائلة دينية معروفة في النجف، وكان شقيقه عباس الخليلي أحد قادة حركة النجف عام 1919 وبعد سحقها هرب للخارج.
ترك جعفر الخليلي العراق بإرادته احتجاجا على حملات النظام البعثي الصدامي الفاشي ضد حوالي ثلاثة أرباع مليون من العرب الشيعة والأقلية الكردية الفيلية الشيعية، وكان تهجيرهم بأشد الأساليب قسوة وهمجية، وسحبت من العائلات كل أوراقها العراقية الرسمية ليوضعوا على الحدود الإيرانية وهي مليئة بالألغام. وقد تناولت تلك الحملات التي تمت بحجة “التبعية ” لإيران، عددا من أفراد عائلة الخليلي مع أن الأسرة عراقية أبا عن جد، ومن البيوتات الدينية الشهيرة. وقد توفي الخليلي في دولة الإمارات العربية، بعد اللجوء أولا للأردن.
إن الذي يقرأ مؤلفات الخليلي ومجلدات صحيفته ” الهاتف” يستطيع أن يشكل صورة دقيقة عامة عن أوضاع العراق عامة والنجف خاصة في النصف الأول من القرن المنصرم. ويقدم الخليلي لنا في العديد من كتاباته صورا عن الصراع بين القديم والجديد في النجف عهد ذاك، كما يصور لنا بريشته النابضة صور عشرات من الشخصيات العراقية والعربية التي كان قد تعرف عليها، وبينها ساسة ورجال دين شيعيون، لو قارنا بهم من يدّعون اليوم تمثيل شيعة العراق، لصحنا فزعا: ” أين الثرى من الثريا!” فأين هؤلاء من أمثال محمد رضا الشبيبي وجعفر أبو التمن وسعد صالح والسيد أبو الحسن ومحمد الحسين آل كاشف الغطاء وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد الصدر، وأمثالهم عهدئذ؟!
يحدثنا الخليلي، مثلا، عن المعركة الفقهية الكبرى في أواخر العشرينات وبداية الثلاثيات بين المصلح الديني اللبناني محسن الأمين وآية الله السيد أبي الحسن من جهة، وبين علماء دين آخرين وبعض خطباء الحسينيات من الجهة الأخرى. وكان الأمين وأبو الحسن يدعوان لإعادة النظر في بعض المراسيم والطقوس المذهبية في محرم، كالتطبير وضرب السلاسل على الصدور والظهور، ويفتون بتحريمها، ولكن الآخرين، وهم القوى المحافظة والمتزمتة، وقفوا ضدهما بدعم هائل من العوام. وكان الخليلي من دعاة الإصلاح ويدعم موقف العلاّمتين المذكورين، وكاد المناوئون يفتكون به بسبب موقفه.
يقول الخليلي، وهو يتحدث عن هياج الرجعية الدينية ومن معهم من العوام ضد الشاعر أحمد الصافي النجفي، إن المحافظين الجامدين كانوا يكفرون النابهين والخارجين على التقاليد البالية “حتى وإن بلغ هؤلاء النابهون والمفكرون درجة [الاجتهاد]، فهم كفار في نظر هؤلاء الجامدين، وطالما سقط علماء فحول في الفقه والأصول من أعلى القمم إلى الحضيض بكلمة واحدة من أولئك الجامدين المتحجري الأدمغة، ومن التابعين لهم من العوام. ولقد لقيت أنا نفسي من العبث والأذى ومحاولة الاغتيال، وحرق كتبي، وحرق بيتي، يوم كنت أصدر [الفجر الصادق] و[الراعي] و [الهاتف] في النجف، تلك الصحف التي حاربت فيها- وأنا يومئذ شاب كثير الحماس ، جريء إلى حد ما- التقاليد البالية التي كان من بعض نتائجها أن سقطتُ مضرجا بالدماء أمام بيتي ذات ليلة وأنا أحاول دخول الدار، فلم أعِ إلا وأنا غارق في بحر من الدم، وظللت ملازما للسرير أياما بسبب الجروح” [ عن كتاب “هكذا عرفتهم” في الفصل عن الصافي النجفي].
ويستشهد الخليلي بقول الصافي عمن كانوا يهاجمونه:
صفعتهمُ حتى برى صفعهمْ يدي ودستهمُ حتى غدا النعل باليا
ركلتهمُ دهرا فأصبحت أعرجا وألقمتهم نعلي فأصبحت حافيا
ترى ماذا كان سيكتب الخليلي ويقول الصافي النجفي لو كانا في عراق اليوم، وفي هذه الأيام العبثية بالذات، عراق تطيير الاتهامات والإشاعات وتهييج العوام، وإصرار بعض أطراف الشيعة من السياسيين على البقاء في السلطة ولو على أشلاء الآخرين، وبضياع العراق! وكيف يمكن مقارنة رجال دين من أمثال السيدين القبانجي وجلال الدين الصغير بالمرحومين كاشف الغطاء وأبي الحسن وهبة الدين الشهرستاني؟!
كما ينقل لنا جعفر الخليلي حملة رجال الدين الرجعيين في أواسط الخمسينات على المفكر والباحث العظيم الدكتور علي الوردي واتهامه بمعاداة الدين وتحريض السلطة ضده، ودفاع الخليلي عنه بكل جرأة.
ويحدثنا أيضا عن شجاعة السيد هبة الدين الحسيني [أو الشهرستاني] في الدفاع عن فتوحات العلوم الطبيعية الحديثة وتفنيد التفسيرات الخرافية للظواهر الطبيعية، التفسيرات التي كانت تستند لقصص ولآيات يساء تفسيرها، كظاهرة مثل كروية الأرض.
يقول الخليلي:
“وكان لأولئك المعارضين لانتشار العلوم الطبيعية والمحرمين لقراءتها أداة من الأخبار والروايات يزعمون أنها تمثل روح الإسلام وأهدافه”، فتصدى لهم هبة الدين وأصدر مجلة [العلوم]، مضحيا بمكانته في سلم الاجتهاد الديني.
يظهر أن الخليلي باع بيته بجوارنا عام 1974، حسب رسالة منه لي في العام نفسه، ولكن العلاقات العائلية ظلت قوية ومستمرة حتى بعد هجرته من العراق. وقد كنت أتتبع أخباره، وعلمت رفضه العودة رغم مساعي النظام السابق لاسترضائه. وكان نظام البعث، في مناورات لتحسين صورته، يسعى لاسترضاء بعض الأدباء ممن كانوا خارج العراق، فاحتفوا بالجواهري في بغداد، في السبعينات، وخصصوا راتبا تقاعديا للشاعر الصافي النجفي وهو مريض في لبنان، ثم نقلوه لبغداد للعلاج بعد إصابته بالجروح خلال الحرب الأهلية اللبنانية. أما الخليلي، فقد كان ممزق القلب لتشريد أفراد عائلته وأسرته، فلم يقبل وساطات الوسطاء. وحدثتني السيدة فريدة الخليلي في رسالة بعثتها لي عن تشتت آل الخليلي في أرجاء العالم فتقول:
” وهكذا، يا سيدي، تشتتنا، ولا تتصور عدد الجنسيات المختلفة التي حصلت عليها مجموعة كبيرة من أسرتنا، وهي الكندية [حيث في كندا أكثر من 45 نفرا من آل الخليلي] والإيرلندية والأميركية والإنجليزية والألمانية والنمساوية والفرنسية والسويدية، [في السويد أكثر من 22 نفرا] والسورية والأردنية.” وتتحدث السيدة العزيزة عن تأثر المرحوم بجيرتنا القططية وتذكر أنه كان يكتب لصحيفة خليجية بانتظام، وفي مرة أرسل مقالا ورد فيه، فيما ورد، ذكر لقط كان يسرق من الجيران ولكنه يبدع في الإنكار. ويظهر أن صاحب الصحيفة أساء تفسير ما كتبه الخليلي فامتنعوا عن نشر أية مقالات له. ويذكّرني هذا بقصيدة هزلية لي كتبتها في منتصف التسعينات لصحيفة باريسية كان صديقي المرحوم الكاتب السوري مصباح الغفري يحرر صفحتها الهزلية. كتبت القصيدة على نياتي، أي بلا استهداف أحد، وكان مطلعها:
عطس الهر ففر الأسدُ واتاني باكيا يستنجدُ
قال: “يا مولاي [ريمي] قاتلي وأنا مستضعف مستوحدُ”
قلت “لا تبك، فقطي عاقل فيلسوف وبه نسترشدُ ألخ.
صاح الغفري بجد، وقال: “ماذا!! هل تريد منع الصحيفة في سوريا؟!” لم أفهم قصده، فشرح أن الرقابة السورية سوف تفسر كلمة [الأسد] وكأنها تعني [حافظ الأسد] وأن القصيدة سخرية بالقيادة السورية. ضحكت كثيرا، فضحك معي، وبالطبع سحبت القصيدة.
ومن مواقف الخليلي رفضه لاشتغال رجال الدين بالسياسة وشؤون الدولة، ويذكر لنا في كتابه “هكذا عرفتهم” مثال الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، وكان من كبار المجتهدين. فقد انخرط في خضم الخلافات السياسية في منتصف الثلاثينات، فانضم لجبهة ياسين الهاشمي ضد جبهة الأيوبي، وكانت عشائر الفرات الأوسط قد انقسمت بين الجبهتين، ولجأ المتخاصمون إليه، وصار هدفا للجميع. فترك العمل السياسي بعد فشل محاولاته لإصلاح ذات البين. يقول الخليلي إنه قال الشيخ:
” ليس لدي اعتراض أن تمضي في تأييد من تريد من الساسة لو كنت سياسيا، أما وإنك زعيم روحاني، فلا يسوغ لك، بأي وجه من الوجوه، أن تميل إلى جهة دون أخرى وأنت في هذا المركز من الزعامة الروحية” [“هكذا عرفتهم” جزء -1 – ص 236]. فأين نحن اليوم من تجربة الشيخ؟!
لقد فقد العراق برحيل الخليلي في منتصف الثمانينات – وهو بدولة الإمارات – شخصية فريدة حقا، فكرا وثقافة، وخسره كاتبا متميزا ومؤلفا وشخصية اجتماعية جذابة، كما فقدتُ شخصيا، مع غيري، وهم كثيرون، صديقا عزيزا، آسف لأنني لم أتعرف عليه في عز الشباب، ولا نزال، شقيقاتي وأنا، نتذكره ونستعيد أيام زمان، ومن حسن الحظ أن علاقاتنا ببناته الوفيات لم تنقطع يوما. فألف تحية لذكراه، وما أجدره بأن يكتب اسمه على شارعين، أحدهما في النجف الشريف والثاني في بغداد. ولكنها أمنية غير عملية في عراق اليوم حيث كاد يندرس ذكر الساسة والمثقفين العلمانيين من تلك الأجيال، وحيث جرى، ويجري، تهميش الأفكار العلمانية والعلمية، وإذ برز مئات من الإمّعات من سراق الشهادات، وأبطال الفساد.
14 شباط 2010
ملحق: هذا نموذج من رسائله الودية الظريفة لي وهي بتاريخ 6 نوفمبر 1973 :
“بغداد – كرادة مريم.
“اعتدت في كل عيد أن أمر – أول ما أمر عند خروجي من البيت – بوالدتك، متفقدا إياها ومباركا عيدها. وفي هذا البيت كنت أستعيد ذكريات والدك وأخويك المرحومين، [عبد الأمير ولطيف]، وعلى قدر الإمكان كنت أدخل السرور على نفسها. وفي هذا العيد لم أخرج من البيت لذلك نسيت هذا الواجب. وقد سألتني ابنتي ابتسام أمس عما إذا كنت قد مررت بأم عزيز جريا على العادة، فأسفت كل الأسف وبادرت حالا فلبست ألبستي وقصدتها. وكالعادة، استقبلني ألف بزون وبزون على الباب الخارجي، ومثلها على الباب الداخلي، والله العالم كم بزون وبزونة كان في الداخل، ولا أدري من هذا الذي خدع الآنسة شقيقتك فقال لها إن هذه القطة سيامية أصيلة تنفرد بين جميع القطط بمزايا لم يحظ بها بزون من أول ما عمرت الدنيا حتى اليوم فراحت تعنى بها عناية تفوق والله عنايتها بنفسها. وعلى ذكر البزازين أخبرك وأنا خارج من البيت قبل أيام وإذا بقط عجيب يدفع باب بيتنا ويهم بالدخول، فقلت له: ” أعتقد أن رأسك قد دار- على حد تعبيرنا- فالبيت الذي تريد هو البيت المجاور لنا”. وكما لو كان هذا القط يفهم اللغة فأدار رأسه وأنا أراقبه وسار إلى بيتك. لست أدري كيف جرني القلم إلى هذه التوافه وأنا أريد أن أقول لك بأني زرت بيتكم وهناك ناولتني الآنسة شقيقتك بطاقة معايدتك وأكثر ما سرني فيها أنها كانت تعرب عن صحتك..”
هذا نموذج من رسائله، التي تمزج الجد بالفكاهة المطلية بالمبالغة المرحة، والتي كانت تدل على ما كان عند الرجل من وفاء لجيرانه وأصدقائه ولمن تعرف عليهم، وهو الوفاء النادر الذي تعكسه كل صفحة من صفحات كتابه الرائد “هكذا عرفتهم”.]