بوصلة أولى
(معطف الرمل )
السهوب المتعرجة ترسم خرائطها على المساحات اللاهبة ، تشكيلات غريبة خلفتها أنامل تلقائية لا تمت إلى العالم بصلة ، وجوه محدقة وأفاع وتنانين ، سيوف وتروس ونياشين ، قساوسة وكرادلة ومعميين يتكالبون على بعض فتات من مجد غابر / راحت السحالف التي تحلم بالارتواء تحث خطاها بلا جدوى / فهناك تنزوي تلك الربوة التي تتألق بوحدتها / قد يحسبها المربديون كما الفنار وهو يتسيد أكتاف خليج حزين / تلك هي يا صاحبي إشكالية متجددة لطالما أقلقتنا ، وذاك توق إلى حلم اخترق تلك الذوات الحالمة بالماء / الصحراء أمنا الكبرى وسر وجودنا ، حلمنا في التمرد والخلاص ، صدانا الأنيس الذي يعيد علينا كرة البعيد / هكذا نحن نوغل في أنفسنا ولا نجد سوى سراب مهاجر .
بأحلامه الهائمة المهاجرة كان يتحرى سيلا من أمنيات مؤجلة ، ولعلها كانت عصية تسهم في تمرد يتكرر ، يمر على بداوتنا ، وجوهنا النجدية السمراء ، وسحناتنا القطرانية النفطية قبل هبوط سيدنا النفط ، عذرا اقصد (لعنتنا النفط) من دهاليز العدم ، فبهبوط هذا السيد الأسود بدأ تأريخنا الأسود ، وبدأت بانوراما حروبنا الخاسرة ، ولا عجب فالنفط ممتن لكرم تفسخات اجسادنا الخنفسائية التي لم تبخل على الطبيعة بجسد او حياة ، يا لتلك الحاتمية / شريط الأيام يمر ، لا ينتظر المتقاعسين ، والعربة الجموح تجر بغلها العجوز ، قائدها الذي راح يحث الطواف وصولا إلى عالم شارد يهيم في مفازات ممتدة / انطوت تداعياته الغضة تحت أديم ملتهب ومعطف لا يعترف بالتوريات / المجد الذي حمله المربد معقود بتداعيات ابن العلاء وتجليات جرير وأحلام الفرزدق / كل ذلك شكل هاجسا من التحدي والاستجابة لعالم متطلع كان يحلم بالوجود على استحياء / غربتنا في معطف لف تداعياتنا شجعتنا على أن نسهم في التقصي ونشحذ التأمل ، عذرا فذاك سادتي منال صعوب يحتاج إلى رجاحة في الحس ووثوق في النفس التي لطالما تأثرت بأترابنا المسيحيين وهم يتغالون بأدبيات حلت عليهم تشاطرهم شيئا من حلم كاسد ، كنا نسمع عن سيمون دو بوفوار وشتاينبك واوسكار وايلد / كان سامي يجد أن ذلك هاجسا لطالما يحيله إلى نبي يكسر أصنام تلك المهيمنات وهو ينتفض لوجوده / كانت الكاتدرائيات التي تقرع أجراسها المتحشرجة تحيلنا إلى بداوتنا ، ونحن نستذكر غربة طرفة وطواف ابن الورد / نعم لنقتحم الصحراء ، – هكذا قال لي – فلطالما الف ذلك الهاجس الغريب لنا حلما لم ندرك شيء من معالمه / هيا افرشوا الرمل فوق المفازات فلربما خجل الرمل من الرمل تلك هي يا صاحبي لعنة الصيرورة تجدد تراتيلها بيننا / سأوزع أدواري عليكم فدونكم ذلك التابع الذي يسكن الجبال الثلاثة ، وذلك الأنين الذي كنا نسمعه من بئر مندثرة نائية / الطنطل وعبد الشط وحمارة الكايلة وام الليف لم يعد لها اثر بيننا ، حتى أننا نفضنا غبار الخوف عن كاهل ذلك الزمن الذي هد تداعياتنا / شكسبير ودورنمات وستندبرغ وناظم حكمت وسارتر تستقر عيونهم هناك / هيا يا عضيد حسين شمر جلبابك واقتحم ذلك البعيد ، لا يرهبنكم عبد الستار عبد ثابت بصوته الجهوري ونبرته القرارية الشامية ليتحرى قشعريرة الأخر ، ولا حسن زبون الذي كان يعشق الأسر قبل أسره ليصب معاناته في وعاء الغربة ، ولا ترهبكم نظرات جودي خميس وحاجبه العطيلي المعقوف ، ولا فلاح شاكر وهو يوغل في وحدته البعيدة ، ولا كريم او حبيب او سخريات كفاح محمود عبيد … فسنمثل في قطار الجوف بلا خوف ، وسنطلق الأصوات ، ونخترق سكك الزبير وأزقة المجصة ودرابين الدروازة ، ونطلقها : (هويا هويمله ، هويا هويمله ) هيا يا بائع الدبس الفقير ، هيا ياعبد الكريم عبود أطلقها دبس دبس دبس دبس ../ سنكسر أصنام آلهة الدراما ، البداوة ميمنة نجم عبد شهيب ، وميسرة يوليوس قيصر لطلال خشان ، ومقدمة الصمت لكريم عبود ، ومؤخرة الصدر لسعد محسن الثعالبي ، ولا تحمل الراية يا ناهي عبد السادة مهدي فانك كثير الضحك وأخاف أن تأخذك الكوميديا فتنكفئ على عقب الزمن فليعينك صباح كامل حسن ، وليرادف خطاك محمود شاكر كنوش … على بركة الله انصبوا أعواد إبداعكم فذاك عالم يحلم بالغدر .
بوصلة ثانية
(الصالون الأدبي)
انتصبت دكة الحلقة التومانية الثالثة قبل مقهى الرصيف الثقافي بربع قرن ، وبعد دكتي الحلقات الزبيرية والنجدية الثانية للرماح والصانع والبسام بنصف قرن والثالثة لمحمد بن لعبون وعبد الله بن عثمان الجامع ومحمد الغنيم بقرن او يزيد . كانت الخفافيش تحوم على دكان صغير لتصليح مسجلات السيارات أطلقنا عليه صالون دي ستال تيمنا بالأديبة الفرنسية الكبيرة مدام دي ستال صاحبة الصالون الباريسي الشهير ، وراح هذا المتكأ الصغير يسعنا جميعا على الرغم من خفافيش النهار الزيتونية التي كانت لا تطيق شعاع شمسنا التموزية ، كنا نعقد حلقاتنا بفطرية تتحين جماح الآخر ، ننتظر عودة عبد الستار عبد ثابت وهو يمطرنا بإعجابه المتجدد لشخصية ابي حيان التوحيدي كانت جبته ملأى بالامتاع والمؤانسة وكان يصب علينا جام إبداعه وهو ينقل إلينا تجربة مسرح بغداد ولقائه بكبار الفنانين من أمثال عوني كرومي وسامي عبد الحميد والرائد الكبير يوسف العاني . كانت دكة الشعر مبحوحة كما الأصوات ، لاسيما والعيون كما الفسائل الوهمية مغروسة في إسفلت شارع الزبير الرئيس / أماس واستذكارات ولقاءات وسجالات يحسمها وصول أقداح الشاي القادمة من قهوة ابي رياض ليكسر الضحك ذلك المارد المهيمن ، وعلى حين غرة يطرق الباب على استحياء ذلك القادم الغريب ليقول : (أخوان هويتاكم ) … يبقى الدكان المتكأ الصالون إلى ساعة متأخرة من الليل ، حتى أن صانع المقهى القريب من الدكان يملّ منا فيعود ليلعن نهار الأدب والفن وينزل الهة المسرح من عرشها الطوبائي ويكفر في كامو ودستويفسكي وصلاح عبد الصبور … كتب ممنوعة ومستنسخة تتوارى بين مجلات الف باء ومجلتي والمزمار ، الشيوعيون واليساريون والاسلاميون والفاطميون وإخوان المسلمين وحزب الدعوة والمستقلون … الجميع يلتحقون بركب لطالما كان الإبداع مفصله الأساس وديدنه الأول .. ينفض الجمع على غير عادته لنجد في الصباح أن مسبحتنا قد نقصت واحدة من كرات اليسر ، نعم فذاك خلل في تسبيحاتنا الشعرية ووردنا الذي يطال هامة الإبداع الذي كان يوما لعبة المتمردين .
ملاحظة :
1- في آخر الليل كان سامي يدفع ما جناه من مال إلى ذلك الرفيق من اجل أن يغض البصر عن كتاب ممنوع او هفوة كلام او سب للنظام او يرسل صباح دعاج مفاوضه الدبلوماسي .
2- قد يصبح الصالون مقفرا بعد أن يلتحق سامي إلى وحدته في H3 .
3- المرحوم تومان الفرج يقول لي : بويه بلكي تحجي ويا اخوك خاف ايذبنه بتهلكه .
بوصلة أخيرة
(ما بعد سقوط الأقنعة )
– ما الخطب يا سامي هل أخذت منك الجمعية كل وقتك لتنسى المسرح ؟
– كلا يا صديقي إنما أجد أن هما لطالما زاحمني ساعطفه في دائرتها .
– ولكنك تقيم الليل بالنهار ، وكلما اتصل بك عفوا (ارمش) لك أجدك محلقا في تداعياتك
– نعم نعم يا عادل قوائم كثيرة أتمنى أن تعينني عليها لليتامى والعوانس والمحوجين
– نعم ، ولكن هناك مناف وحسين فالح نجم ؟
– هؤلاء خونة (يقولها بضحك) فالأول اعد رسالة إلى الجامعة الهولندية ولم يتركني ، والآخر مشغول في تعدد أصوات الآخرين في القصيدة الواحدة ، ولم يتركني .
– حبوبي حسين فالح هاي سوالفه موكتلك الف مرة لا تثق لا بالأسير ولا بالشاعر فالشاعر والمجنون والفيلسوف من نسيج واحد وما خليت إلا شاعر نائب ..العتب عليك ابو مهند .
– بالمناسبة اتصل بيّ رئيس اتحاد الأدباء فاضل ثامر سيصل مقبرة الحسن البصري أربعة أدباء كرد واتحاد أدباء الزبير لا يملك قرشا واحدا ، ساستأجر سيارة خاصة لهم وادعوهم إلى مطعم أبي ماجد .
– ادلل حبوبي سأوفر لك المبلغ
– وسنعقد أماسينا الرمضانية وأنت تعرف الباقي ..
– اطمئن مبلغك مرصود من جيبي
– وسأقيم مهرجان خالد البارودي وأنت تعلم بالباقي
– اطمئن عادل هذه من جيبي ايضا
– وسأقيم مهرجانا لشاعرنا البريكان في قاعة المكتبة الأهلية وأنت…..
– لا تبتئس عزيزي ولا تفكر .
– أرسل لي الشيخ احمد السليطي مائة ألف دينار لتغطية فعالية السياب في مقبرة الزبير وهي لا تكفي .
– نعم ، نعم سأمر عليك لأشرب قهوتك التي (لها دبيب في المسخ يستبق ) وسأعطيك ما تريد .
ختام :
المكان : مستشفى ثامن ألائمة في قم المقدسة / الردهة الخامسة
يرن الهاتف الساعة التاسعة صباحا (سعد محسن الثعالبي) عادل ، ثالثا ، غادرنا البقاء بحياتك .
—