لا اعتقد نحن البشر لم نلجأ خلال حياتنا إلى الكبت! ولا اعتقد أن البعض منا كبت مشاعره أو رغباته أو كراهيته نحو شخص يمثل له نموذجا مهما في حياته، إلا أن موقفا جعله لأن يستخدم هذا الميكانزم- الآلية- الحيلة الدفاعية كوسيلة باستبعاد الدافع النفسي كلية أو باستبعاد الذكريات أو الأفكار أو المشاعر من منطقة الشعور بالنفس البشرية إلى منطقة اللاشعور.
الكبت إذن حيلة تلجأ إليها النفس البشرية، ويقوم بها الأنا في الشخصية، وتتم بشكل لاشعوري، إذ لا يحس الفرد أنه يقوم بعملية الكبت ولا يعي بها، هذا ما عرفته موسوعة علم النفس والتحليل النفسي. لذا يلجأ الفرد للتخفف مما يعانيه أو مما يشعر به، ويطرده إلى اللاشعور ولكن تظل تأثيراته قوية وفعالة في سلوك الشخص، وربما يكون نوع الكبت عنيف، يستنفذ جزءًا كبيرًا من طاقة الفرد ومن ثم لا يتبقى لديه إلا أقل القليل لمواجهة أعباء الحياة وشدائدها وأزماتها وضغوطها. الكبت له دور كبير ورئيس في نسياننا لأفكارنا وذكرياتنا ومعلوماتنا ورغباتنا ومشاعرنا وبالآخص المؤلمة فلا نعود نحس بها أو نتذكرها حتى لا تسبب لنا ضيقًا أو قلقًا أو ضررًا.
الكبت عملية سوية نلجأ لها جميعًا شأنها شأن بقية الحيل الدفاعية الاخرى مثل: التبرير، الاسقاط، الاستدماج، “التوحد..التقمص..التعيين والتعيين الذاتي”، التكوين العكسي،الانكار، الاعلاء”التسامي”، النقل وهي في الحقيقة عندما نستخدمها هي محاولة إيجاد توفيق وتلازم بين عوامل الفرد الذاتية وبعضها، وبينها وبين الأوضاع البيئية المحيطة، فهي أيضا إخراج صاحبها بحيلة عقلية( آلية عقلية) من المأزق أو الورطة أو المشكلة التي أوقع نفسه الفرد بها، والأصح قولا إنها عملية تحايل على الوضع، تجنب صاحبها الحصر “القلق” أو أستبعاده على الأقل من نطاق وعيه وشعوره. لذا قولنا ما من إنسان إلا ويستخدم بعض هذه الحيل الدفاعية تلقائيًا في حياته اليومية، وبدون أن يسرف في استخدامها فتؤدي إلى اتزانه وتبعده عن الاضطراب الانفعالي أو النفسي. وهناك من الكبت يسمى بالكبت الناجح الذي يؤدي بصاحبه إلى أعادة الاتزان.
أما الكبت الذي لا يجعل صاحبه أن يرجع لاتزانه، مع فشل في التوافق فهو الذي يقود صاحبه إلى الاضطرابات بأنواعها، العصابية”النفسية” والذهانية”العقلية”، لأن كل ميكانزم أو حيلة دفاعية مسؤولة عن نوع الاضطراب وقول العلامة الدكتور صلاح مخيمر: ينبغي أن نؤكد أن جميع الأعصبة تكشف من الناحية العملية عن تساوق ميكانزمات مختلفة من ميكانزمات تكون الاعراض، ومن هنا فالأدق هو تشخيص الميكانزمات لا تشخيص الاعصبة، فميكانزمات الدفاع تمثل عناصر نمطية تشكل ائتلافاتها اللانمطية غالبية الأعصبة الواقعية عند الأفراد، كما يقول فينخل. وترى “أنا فرويد” نقلا عن سيجموند فرويد من أن الغيرة والبرانويا والجنسية المثلية تستخدم ميكانزمات: الاستدماج أو التوحد”التقمص” والإسقاط، وتستخدم الآليات الدفاعية التسعه في الحالات المرضية وهي: النكوص، الكبت، التكوين العكسي، الإلغاء، الإسقاط، الاستدماج، القلب للضد، النقل، أما الآلية الوحيدة التي تكون سوية بأكثر مما تنتمي إلى العصاب ألا وهو الإعلاء” التسامي” أي نقل الأهداف إلى شيء مقبول اجتماعيا.
ترى الدراسات النفسية المعمقة أن الكبت Repression هي العملية التي بمقتضاها ترد الانفعالات والدوافع والرغبات إلى الجزء اللاشعوري من العقل لانها مؤلمة جدا أو لانها مناهضة للمجتمع.
هناك فرق بين الكبت Repression والقمع Suppression فالقمع عملية ضبط واعية يمكن أن تؤدي إلى الاعلاء والتسامي، ويظل الدافع المكبوت كما كان مسجونًا ولا يكون قادرًا على التغير، ولكنه يستطيع أن يعمل على تكوين نواة عقدة نفسية، ومن ثم فإنه يحدث اضطرابًا في مجال الشعور.
يكاد يكون الكبت لدى معظم البشر بنفس القوة ولكن يكون لدى الاطفال في مرحلة الطفولة أقوى شدة لانه يحدد مسار شخصية الفرد في المستقبل، فالطفل أو الطفلة التي تسيطر عليها الصراعات الطفلية وتسبب الكبت فإنها تقود صاحبها مستقبلا أما للأسلوب الهستيري في التعامل أو بالأسلوب القهري، وتقول “آنا فرويد” إن جانبًا من نشاط مثل هذا الطفل أو الطفلة يستنفذه إستمرار الاستثمارات المضادة، هذه التي يجري تصميمها فيما بعد لتأمين الكبت، وهذا الضياع للطاقة يتبدى في كف وإنكماش أنشطة حيوية آخرى. وتضيف”آنا فرويد” بقولها يكون إستخدام الكبت في استقلال عن أساليب الدفاع الاخرى، أقل شيوعًا من الائتلاف بين الاسلوبين في فرد واحد وبعينه. وهذا يعني أن الفرد يلجأ إلى أسلوب واحد بعينه دون غيره، وهو الذي يتناسب ونمط شخصيته.
أن الميكانيزمين الدفاعيين الكبت والاعلاء”التسامي” لا يمكن استخدامهما إلا في مرحلة متأخرة نسبيًا من عملية النمو، ولكن تبدو مظاهر العصاب التي نشاهدها في صغار الأطفال هي الاعراض الهستيرية، هذه التي صلتها بالكبت تعلو على كل شك.
تقول “آنا فرويد” الكبت يستبعد المشتقات الغريزية، فضلا عن كف الحفزات الغريزية وهو يناظر التقييدات التي تفرضها الأنا على نفسها تجنبًا للألم من مصادر خارجية، ومحاولة تطبيع الأفكار بالعقلانية للعمليات الغريزية كإجراء وقائي ضد الخطر من الداخل، يماثل التيقظ الشعوري المتصل من جانب الأنا للأخطار من الخارج. خلاصة القول أن الكبت هو أحد العمليات الرئيسة الأكثر شيوعًا بين العصابيين والذهانيين والتي قلما يخلو منها إنسان حتى أولئك المعدودين في مصاف الأصحاء نفسيًا، إلا أن الفارق بين أثر الكبت في العصابيين والذهانيين وبين أثره في البشر العاديين أو الأسوياء هو فارق بين الكبت الفاشل والكبت الناجح.
——
•استاذ جامعي وباحث نفسي
elemara_32@hotmail.com
—