عندما تثار إشكالية أصل حقوق الإنسان و مدى مشروعيتها، فإن ميادين معرفية عدة تتسارع لتقدم وجهة نظرها بالإحالة على وقائع طبيعية ذات أساس اختباري، أو ميتافيزيقي؛ سواء اتخذت من العقل مرجعا لها وفق مبادئه المنطقية المعيارية، أو آمنت بمرجعية دينية تنهل من آياتها المحكمة و تؤول ما تشابه منها، وتجتهد و تجمع على ما لم يرد فيها. و بسبب تعدد وجهات النظر هاته لم تسلم حقوق الإنسان المعترف بها عالميا من الحصر و التسفيه و الانتهاك. و تحت ذرائع واهية تنم عن قصور عقلي و تشبث أعمى بالثوابت، و محدودية فهم الهدف الإنساني للوجود، تصادر الحقوق و هي بالأصل إنسانية طبيعية. فما الذي آلت إليه حقوق الإنسان وبالدرجة الأولى الحق في الحياة و الصحة و الحرية و المساواة؟ من يعبث بحقوق الإنسان في عصر موسوم بعصر حقوق الإنسان؟ ما الذرائع والعواقب؟ كيف نفهم بوضوح الأصل الطبيعي لحقوق الإنسان؟
الحياة والصحة والحرية والمساواة كلها أصول، ومن حق الإنسان التمتع بها كاملة، و إلا اضطرب الوجود الإنساني. ومهما تنوعت المجتمعات، وتمايزت بثقافتها وعاداتها وأعرافها و قوانينها، فإن استمرارها الحضاري يفرض عليها ضمان الحياة لكل أفرادها، و ضمنها صحتهم؛ التي ينتج عن التقصير في الاعتناء بها تفشي الأمراض النفسية و البدنية، و حريتهم التي تعد أساس الاختيار و المبادرة و الاقتراح و المشاركة في الشأن العام؛ و تتجلى أعلى مراحل الحرية في حق تقرير المصير، و على الدولة التي يهمها أمر مواطنيها أن تربيهم على تمجيد حقوق الإنسان وفق مبدأ المساواة. ففي إطار المجتمع كما يقول جون راولز تأتي المساواة لتبرز أن الناس جميعهم يتمتعون بنفس الملكات العقلية و الأخلاقية، و بالتالي تمتعهم بنفس الحقوق.
يمكنني القول أن من يقف على فساد النظام السياسي لدولة ما سيجد أن حقوق مواطنيها على المحك، مهددين في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم وأولادهم، وهي عين حقوق الإنسان وغايتها. و حينئذ لا حرية و لا مساواة و لا صحة و بالطبع لا حياة. وليظل النظام السياسي منسجما مع ذاته ومؤبدا لوجوده و متبجحا بقوته فإنه ينزع كل الحق من الشعب و يتذرع بكونه الضامن لاستمرار الدولة و عليه أن يستفرد بحق القوة. لنؤكد إذن أنه و على أرضية السياسة يحسم جزء كبير من مسألة حقوق الإنسان. و كلما انشغل الشعب عن السياسة نسي نفسه و قادها إلى الهلاك. فمن ذا الذي يدفع آنذاك بعجلة المطالبة بالحق و تطبيق القانون و فصل السلط ؟
غير أنه يجب أن لا نغفل ما حققته المجتمعات لحد الآن من شيوع حقوق الإنسان. و نظريا يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان علامة على تقدم الفهم الإنساني ووقوفه على حقيقة الوجود من وجهة نظر كونية. و بالرغم من إيجابية التقدم التكنولوجي و دوره في تعميم الحقوق الأساسية، إلا أنه من الوجهة المقابلة يمس بالعديد من الحقوق الأخرى. و ما لم نفهم جوهر حقوق الإنسان، فإننا سنظل نراوح بين التأييد و التضييق، و بين الاحترام و الانتهاك. و ما لم نؤصل لحقوق الإنسان و نفهم جذورها الطبيعية، فلن نتمكن من إدراكها، و استيعاب آليات تكريسها و دعمها. فما النظرة الطبيعية لحقوق الإنسان من الوجهة الفلسفية؟
تنطلق النظرة الطبيعية لحقوق الإنسان من افتراض حالة طبيعية عاشها الإنسان قبل الانتقال إلى المجتمع. حالة نَعِم فيها الناس بالحياة السعيدة والصحة والمساواة و الحرية، إلا أن الظروف الطارئة أخرجتهم من حالة الفردوس هاته و دفعتهم للتفكير في أسلوب جديد لاستعادة حقوقهم الطبيعية، فكان العقد الاجتماعي مرحلة انتقالية عبرت بالناس إلى بر الأمان، و ضمنت لهم حقوقهم الطبيعية بلباس مدني. إنها القوة المدنية التي اكتسبها الناس بفعل القوانين الاجتماعية التي رسخت الحقوق الطبيعية، و ضمنت لهم أولا و قبل أي شيء حياتهم وحريتهم وقوتهم. و بالعودة إلى فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين يروجون لمجتمع ديمقراطي يتمتع فيه الناس بكافة حقوقهم الأساسية –جون لوك و جون جاك روسو- نفهم أن العودة إلى الطبيعة كان وراءها نية تخليص الحق الإنساني من تأثير الثقافة التي لا تتسع لحقوق الإنسان، والتي تروم احتكار الحق بالاستناد إلى القوة، و نموذجها فكرة التوتاليتاريا.
و كما هو معلوم، فالتقدم الأوروبي لم يُحسم إلا عندما تخلص الفكر من احتكار التيارات الميتافيزيقية و اللاهوتية. فتَحرر الفكر علامة على تحرر الإنسان و اتجاهه نحو مجتمع ينعم فيه الناس بكافة حقوقهم، وما لم يتم الوعي بالتكوين الأخلاقي و الحقوقي للإنسان فلن تذوق المجتمعات طعم الطمأنينة و السلام.
الحقوق الطبيعية للإنسان كأصول هي المعيار لكافة الحقوق الفرعية الأخرى، و أقصد بها الحقوق المستجدة بفعل تقدم التاريخ. فحقوق الإنسان لا يمكن حصرها، إنها تتميز بالانفتاح مادام الفكر الإنساني بطبيعته منفتح على المستقبل. كما أن انتهاكات حقوق الإنسان تتم بأساليب لا حصر لها، لكن علامتها واحدة، إنها تتعارض مع الأصول. إن من يؤمن بأن الناس يولدون أحرارا متساوين لن تطاوعه نفسه أن يعيش ضمن ثقافة تنتهك حقوق الإنسان بأي شكل من الأشكال، أو أن يعبث بمصير البشر لمجرد أنه امتلك أساليب العبث بحقوقهم . ومن اعتقد أن الانسجام مع الثقافة بعاداتها وتقاليدها و أعرافها يصنع الإنسان بكل الأحوال فهو على خطأ، لأن كل هذه المكونات صنيعة الإنسان ذاته، و نتاج عوامل متداخلة و ضاربة في القدم. وما لم نفهم الأصل الطبيعي لحقوقنا السامية، فإننا لن نبرح أرضية الجدل العقيم حول إمكانية أن نتعايش مع بعضنا البعض في ظل حقوق كونية رغم اختلاف وتنوع ثقافاتنا.
—