في السابع عشر من آذار 2018أقام اتحاد الأدباء في البصرة حفلا تأبينيا للشاعر الراحل مجيد الموسوي حضره جمع غفير من أدباء البصرة وبحضوره نجله الأكبر السيد فراس عبد المجيد الموسوي وكان حفل التأبين من تقديم : مقداد مسعود . بدأ الحفل بقراءة سورة الفاتحة وقوفا على روح الشاعر القدير مجيد الموسوي ، ثم تحدث رئيس اتحاد الأدباء في البصرة الدكتور الناقد سلمان كاصد عن علاقته الحميمة مع الموسوي وهما استاذان في معهد إعداد المعلمين في البصرة .وأشاد لدكتور بالسجايا الاخلاقية الراقية للشاعر الراحل مجيد الموسوي وانتباذه عن الخلافات والاحتدامات ونهجه الرصين مع الجميع وعلى المستوى الشعري رأى الدكتور الناقد سلمان كاصد ان الموهبة الشعرية لدى الشاعر الموسوي كانت ثرة ومتنوعة الاساليب فهو يكتب العمودي الشعري الرقيق كما تميز بقصائد التفعيلة وله تجارب جيدة في قصيدة النثر. وله مشاركات في الحراك الثقافي البصري والعراقي .
ثم تساءل مقدم الجلسة مقداد مسعود : الأدباء يجمعهم الإبداع لماذا تفرقهم المقابر ؟!
(*)
الموت في حلم بقلم: فوزي السعد
في رثاء مجيد الموسوي
(قبيل وفاته )
أيقظيني من النوم
قبل فوات الأوان
أنا في حلمٍ مثلما جبلٍ هرمٍ
يجثم الآن فوقي ،
ويكتم آخر ما تنشق السمكةْ .
من هواءٍ مذاب .
كان خبأه نهرها المتهالكُ
فوق جفاف السنين
أيقظيني من الموت في حلمٍ
علّني أستفيق
لألقى الذي عشته
حلماً كان في زمنٍ
قد تولّى بلا رجعةٍ
وأنا صائرٌ في زمان
كطيرٍ الخرافة فينق
أنهضُ منتفضاً من رمادي
وأخلقني من جديد .
———–
مجيد وأنا في محنة الثلاثينين بقلم: كاظم الحجاج
قبل عامٍ تقريباً ، وأنا أقدّم صديقي الشاعر مجيد الى جمهوره ، في رابطة مصطفى جمال الدين.. قلت : اننا مواليد الأربعينات قد عشنا طفولتنا وصبانا وشبابنا في أسعد ثلاثين عاماً من تاريخ البشرية , وهي الخمسينات والستينات والسبعينات .. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، واندحار الفاشية والنازية ، وبروز اوربا جديدة متحضّرة ومرفهة وصانعة للجمال في السينما والمسرح والأدب والرسم وكلّ شيء ..
ولقد أبدى مجيد اعجابه يوما بقصيدة لي ، بعدما تجاوزت الستين .. حين قلتُ : ” عمري ثلاثينان” ..
حيث عشنا مع العراقيين ثلاثين عاماً أخرى قاتمة السواد أعني ، ثمانينات الحرب العراقية الإيرانية وتسعينات غزو الكويت والحصار الكارثي .. ثم السنين العشر الأولى من الألفية الثالثة .. التي جاءتنا بالاحتلال الأمريكي ، الذي أفضى الى برلمان طائفي قومي ..جاءنا بأسو الشيعة واسوأ السنة واسوأ الأكراد ، الذين نهبوا العراق لثلاثين عاماً قادمة أو أكثر .. ومهدوا لداعش الذي استباح العراق مستغلاً صراع لصوصه مع بعضهم ..
وبين الثلاثين عاماُ الأزهى من عمرنا .. والثلاثين الأقبح – منذ الثمانينات – رحنا –مجيد وأنا – نرثي الثلاثين التي عشناها في كهولتنا وشيخوختنا . أعني ثلاثين الحروب والحصار واللصوص .. ورحنا نحنّ الى ثلاثيننا الأولى ، في الخمسينات والستينات والسبعينات . أنا قلت :
يا زمانَ الشناشيلِ دار الزمان ..
ومجيد الذي يكاد يكون توأمي راح يتوسل :
يا زمان الطفولةِ عدْ لي .
يا زمانً الصبا والصبابة عد لي .
يا زمان الرضا والهناءة عد لي .
يا زمانَ السطوح الكشيفة عد لي .
يا زمان الدموع البريئة عد لي .
يا زمان التراب الأليفِ
ورائحة الأمّ .. عد لي .
***
وأخيراً . أسجل لمجيد الموسوي عند أهل اللغة وأهل القواميس براءة اختراع أخيرة .. هي ( السطوح الكشيفة ) ،حيث لم يقلها أحد من قبل . وأن قالها شاعر آخر يوماً . فليترحم على مجيد الموسوي .
———-
أيها الشاعر المتدثر بالبياض … سلاماً بقلم: عبدالحسين العامر
ملاحظة : تعال أدعوك لتصفح دفاتر أيام كنا فيها معاً :
البداية قبل 53 سنة مرت عندما التقينا، كان ذلك عام 1965 عندما جئتنا مدرساَ للغة العربية في ثانوية مدينتنا الساحلية / الفاو . وأنت تسجل مباشرتك لأول مرة بمعية بعض المدرسين الساكنين في بيت خاص للعزّاب على شارع المدينة الرئيس المؤدي الى السوق الكبير قبالة أرصفة الميناء .. هل تتذكر ؟ .. لا أعتقد أنك تنسى .
سعدي يوسف ، بلند الحيدري ، مظفر النواب ، مجلة الآداب اللبنانية ، مجلة الكلمة لموسى كريدي ، سهرات أم كلثوم الإذاعية ، نادي المعلمين تلك هي المحطات التي كنا نلتقي ونحن نرتب اللقاء ، دائماً أما في بيتنا قرب بوابة الميناء أو في بيت المعلمين العزّاب.ومجسات السلطة آنذاك تراقب لقاءاتنا تلك ! بحضور القاص محمود الظاهر والقاص ريسان جاسم والقاص علي جاسم شبيب .
كل الأصدقاء يتذكرون : كم كنت معنياً بالجمال في حديثك وممارساتك اليومية ونظرتك للأشياء . وكم كنت هادئاً رقيقاً لحد عطر الورد ، وأنت تسمعنا قراءاتك الشعرية !
وكلنا نعرف تفسيرك المادي لحركة الأشياء والتحولات الاجتماعية من خلال الاستنتاج العلمي لحركة هذا الكون الأحدب . وكثيراً ما كانت تدور أحاديثنا في هذا الاتجاه في دكان صديقنا صالح حبيب ، بحضور الكثير من الأصدقاء الأدباء والمثقفين … هل تتذكر ؟
—————-
في رحيل الشاعر مجيد الموسوي بقلم: جاسم العايف
بحضور عدد كبير من الأصدقاء والمعارف الذين غلفهم الصمت والأسف،في الحسينية العامرية،بانتظار التابوت الذي استقر فيه (مجيد الموسوي) ،لأداء صلاة الجنازة، تداعت إلى ذهني تلك اللحظة ، التي كنت اجلس فيها في دكان الخياطة الذي يعود إلى (كاظم محمد علي) في سوق حنا الشيخ ،وكان الوقت قبل ظهر شتوي ، أخمّن ، بثقة تامة ، انه يقع بين 10 – 20 / 1 / 1969 ، إذ كنت اجلس للراحة فيه ، من عناء متابعة معاملات حصولي على وثائق شخصية لابد منها ، كي أتمكن من أن أؤثث حياتي لتعويض الزمن الذي تسرب مني مكرهاً منذ 18 – 2 – 1963. دخل مهدي كعادته إلى الدكان ، لكن هذه المرة برفقة شاب معه على درجة واضحة من الوسامة والأناقة والهدوء ،أمسك مهدي يدي ووضعها بيد ذلك الشاب قائلاً : (مجيد الموسوي)، مذ ذلك الظهر بدأت العلاقة بيننا ، أي بحدود نصف قرن وأيام كونه غادر هذا العالم فجر 26 / 1 / 2018 طوال هذه المدة لم تطرق أذني نهائياً ، منه ، كلمة واحدة تخدش الحياء ، أو نميمة ، أو ذم لأحدٍ ما نهائياً. في السبعينات تلازمنا كثيراً ، مجيد وبعض الأصدقاء ،ثم تبعثرنا بعد منتصف 1978 وتعددت مصائرنا لكن قطعاً لم تتعدد توجهات بعضنا. القلة منا اختفت عن الحياة لأسباب مختلفة ، وأخرى نأت مجبرة عن هذه الأرض بعيداً، وبعضنا ابتعد عن التواجد في مركز المدينة إلا للضرورات القصوى. بعد سقوط النظام تلازمنا كثيراً، وعندما يلمس احتدامي يهمس بأذني : ” هوّنْ عليكَ يا رجل..؟!”. .. ليس لدي الآن غير أن اردد قصيدته في رحيل “مهدي محمد علي”، صديق الشباب المتسرب ، كالماء بين الأصابع، الذي يخاطبه في قصيدته (موت المغني) بعد رحيله منفياً:
باردةٌ
وموحشةٌ
تلك الغرفةُ النائية
التي كانت عامرةً
بالدفءِ والطبول
أيتها المزاميرُ
كفّـي عن الغناء
فقد انتهى الحفل!.
*
وقد آن لي
أن أقول
وداعاً، إذن
يا أميري الجميل!.
……………….
أهذا، إذن ، آخرُ المنتأى ،
آخرُ الأرض،
آخرُ
هذا
الطواف
الطويلْ ؟.
أهذا ،إذن، آخر الحلم:
شاهدةٌ نصفُ مائلةٍ
وترابٌ نديٌ
تسفسفهُ
الريحُ
تـأتي وتمضي..
وتأتي وتمضي..
وكفّــاكَ مسبلتانِ
وعيناكَ مطبقتانَ
ليلٌ يطوّق قبركَ
ليلٌ ثقيل..؟
أهذا إذن آخر العمرِ ؟.
………………
يا للزمانِ البخيلْ!.
————-
في أربعينية الراحل مجيد الموسوي بقلم: محمد المادح
اربعون يوما مضت
كأوراق الخريف تساقطت
وروحك تزهر في ذاكرتنا
اربعون. كومضة برق مضت
انسربت قبل ان يرتد الينا بصرنا
بالأمس كنت معنا
روحا و ثقافة وشعرا
واليوم معنا بروحك وارثك الثقافي
المنحوت في ذاكرتنا مشغلا ابداعيا
دائم العطاء .
من منا لم يصغِ
وانت تقرأ شعرك الابهى
محلقا في اعالي الفضاء
انت ايقونة الشعر الماسية
انت الشاعر الشاعرالشاعر
انت الغائب الحاضر
يا مجيد.
الشاعر مجيد سيد سلمان السويج أو( مجودي ), كما كنا نناديه ايام الطفولةوالصبا والشباب, في محلتنا الفرسي , وبعد ان اصبح شاعرا مقتدرا بامتياز , لم يكن يسعى للشهرة او منافسة الاخرين من الشعراء و الكتاب , بل آثر العزلة . ليس لحد الانطواء طبعا . بل كان يتجنب الاختلاط حتى مع اقرب واحب الاصدقاء اليه. كما يؤكد في قصيدته (ترسيم شخصي)
اتجنب الجلوس في المقاهي
والثرثرات والتشدق
بامجاد فارغة
اتجنب الوقوع في مفارقات الصحبة
او تبادل المدائح الفارغة
اتجنب البريق الهش
والعزلة المتنطعة
اتجنب الشهرة والشهوة و الهوى
واكثر من ذلك
اتجنب الخيانه التي تقودني الى مقاصدي.
أي تواضع هذا ؟؟ نجده مقلا في الحضور والمشاركة بالمنتديات الأدبية خصوصا الشعرية منها , فهو حين يحضر للاستماع او المشاركة يأخذ مكانا قصيا , .. اقصد لا يتقدم الجالسين ولا يأمهم…يتجنب اللقاءات المتلفزه والمذاعة, ينسل بهدوء تاركا المكان , وغالبا لا يشعر احدا من الحاضرين وهو يترك المكان , هل في هذا نوع من التصوف ؟ . او حالة فيها شيء من التوحد؟ ام هو قمة التواضع ورقي الاخلاق ؟ انا ابصم بالعشرة على انها رفعة الاخلاق لديه.. اما عن وفائه لاصدقائه, فهو يقدم صورة تقطر حبا وصدقا ووفاء.
رثاؤه الراحل محمود عبد الوهاب صديق عمره وتوأم روحه, أنموذجأ لذلك ,يرثيه في قصيدة ( مرثية ادم) .
كل شيء يضيع
انت والشعر والحلم واللغة الحانية
وانا والمسافات والنجم
والغابة الدانية
كيف ادخلتني في المتاهة ثانية
ومضيت الى اخر الارض؟
كيف انتبذت مكانا قصيا ,
وخلفتني للدموع ؟
وفي (حلم يتكرر دائما) ..
يصف محمود عبد الوهاب قائلا :
كان يبدو حائرا قلقا بعيدا
صرت ادنو نحو منبذهِ
اقارب ظله الرقراق
المسه قليلا ً
بغتةً قد صار يناى ,
كيف
صرت اراه منبثاً خفيفاً فائضا
ناديت ” محمود انتبه ”
محمود لم يسمع ندائي
كان ينأى مسرعا
ينأى ويحجبه المدى الابدي عن عيني
ويتركني وحيدا .
كلنا نعرف ان مجيد هده المرض اللعين واشقاه سنوات طوال , وقبل ذلك فقدان اخويه (حسيني ورضاوي ) اثناء حرب الثماني سنوات الدامية , فبلا شك انعكس هذا في نتاجه الشعري المضمخ بالحزن .. كان يترقب ايامه ويعد العدة للرحيل .
في قصيدته ( رحيل اخير ) يقول :
هكذا ارحل ,
أو ترحل عن عيني بلادي
فأرى النخل الذي احببته ينأى
وينأى الاهل والنهر ونيران القرى
ويصير السهل صخراً ورماداً
ويصير الحد بين البيت و البيت خيوطا من رماد
انني ارحل في الارض وحيدا
مثقلا باليأس والهمّ ,
الذي يقطر كالقطران في القلب
اراني هائماً مستوحداً
تحملني الارض الى ما لست ادري
من ترى يفتح باب الجنة الاخرى
لهذا التائهِ الحائرِ
من يمنحه بعض الامان ؟؟
…………………………….
مللت الصمت , الاوراق , الكتب , الاحلام
سأفتح صدري للريح
واركض في الساحات
اصيح بأعلى الصوت
سلاما للارض
سلاما للناس
سلاما للنهر
سلاما للطير
سلاما للبستان
سلاما .
————-
تسمعُ الأرض تبكي بقلم: كاظم اللايذ
رأيتـُـــكَ في النومِ ..
كنتَ حزيناً ،
ومنخطفَ الوجهِ
تلبسُ ثوباً كثوب الحجيجِ
وطاقيةً مثلما يلبس الأولياءْ
ومن غير خفٍّ اليَ تجيء
بكفك تحملُ قبعةً
كنتُ أهديتُها لك ذات شتاءْ …
تقدّمتَ مني
دفعتَ إليّ بها
قلت : خذْها
هنا لا يحلّ من الثوبِ الاَ ّالبياضْ
*****
وأمضيت عمرك كالراهبِ المتبتّـل
في غسق الليلِ
من كوة الكهفِ
ترقب سير النجوم ْ.
وترصد نبضّ المجراتِ
تعرف سرّ منازلها
وتشتمّ قبل الأوانِ
رياحَ الفصولْ.
فهذا الشتاء يجيء ويمضي ..
الخريفُ يجيءُ …
الطيور على صفحة الأفقِ
عبر المواسمِ
تأتي وتمضي..
الغيومُ
الهلالُ يفقّس من بيضة في المحاقِ
يطلّ هلالاً
و ينداحُ بدراً
وشيئاً فشيئاً
يكتم انفاسه في الأفول .
وتأتي الجنائزُ
تركضُ مسرعةً
تعبر الجسر
كي تنطفي
مثلما ينطفي ألقٌ في العيونْ ..
ورهطُ الصحاب الذين الفت حناجرهم
وقرعت كؤوس محبتهم
واحداً واحداً .. يرحلون …….
وتسمع من باطن الارض
صوتاً يجيء !
أكان نحيباً ؟
نعم … انها الأرض تبكي!
وقد كنتَ وحدك
من يسمع الأرض تبكي .
****
وفي باب ( طيبةَ )
أوقفكَ الحرسُ الملكيّ
والقوا عليك سؤالاً
وقالوا : اذا ما أصبت الجواب
ستلبس تاجاً
وتغدو علينا مليكاً …
سُئلتَ :
فما كائنٌ في الصباحِ
يسيرُ على أربعٍ
وعند الظهيرةِ يمشي على قدمينِ
وحين يحلّ المساءُ
تكون له قدم ثالثة ؟ …
……….
وكنت الحصيفَ
الذي علمته النجوم
وأمعن في وحدة الخلقِ
ذاق المعاني التي في المعاني ..
حللتَ لهم لغزهم …
غير أنهم أخلفوا : ..
لم تعش ملكاً أو أميراً
بقيت كما كنتَ
في غسق الليلِ
ترقب من كوة الكهف
سير الكواكب
و تشتم قبل الأوانِ
رياح الفصول .
(*)
—————–
مضى الى الأفاق مرتجفاً ..بقلم: مقداد مسعود
أيها الموسوي الرخيم ،أيها السيد المكتسي بالمهابة, السلام عليك أيها الوديع المسالم. يانديم َ الليالي الرشيقة .يادليلي الى المنتأى، ياخليلي في خبز الخرّوب، لاأحد َ سواك، لاأحد َ يُشعل عشبة التتويج. وحدك ..وحدك .. من يُضيء المداخل َ بالشمعدانات. مَن يرسل القناديل َ الى الزوايا. السلام عليك وعلى فراشتك بنبرتها الخفيضة . السلام على اختياراتك الشفيفة في تناول العالم. السلالم على ضحى الجمعة وفنجان القهوة. ونحن نتلاسن حول الممكن والمستحيل
نقشّر معجزات الزن، ونخطف ختم الولاية من جبة ابن عربي، نتسكع في أسكندرية لورنس داريل، ونعانق محبوبنا شاعر بصرتنا عبد الصمد بن المعذل .تعال ياصاحبي ماتزال نصف ُ ليمونة ٍ تحاورنا في جوشن الليل .نصف ُ تفاحة ٍ طاهرة ٍ..وماتبقى من ثريا عنب البارحة : ذكرى مجففة ٌ نساقيها ماتأخر مِن يقظة ٍ فتناديني : يا أبا مهيار
،،المصاب ُ بلوثة ِ الشعر لا أمل في شفائه ،، فأجيبك َ : الصحراء تتذكر ؟ أم تفكرّنا ؟….. فجأة صارت الصحراء تتماوج في عينيك وصار شط العرب ترابا من قصدير، والحصى يتدحرج في روحينا فأقتسمنا زهرة الشوكران في مسلخ سقراط ….
أجالسك الآن في ليل مكتبتي أو بين شجرتيّ بمبر في ضحى الحديقة.هيأت ُ مائدة الكتابة، لتكتب َ لي عن شتوة ٍ غادرتنا منذ ثلث قرن : كان قميصك يتدفق عشبا والبنفسج يغني ليله في قميصي. أقتطفنا غيمة ً من طائر… فجأة جرحتنا صرخة ٌ غامقة ٌ: هذا الصيف يمضي تاركا خيطا ترابيا على القمصان ..ترابيا على الشرفات ..ترابيا على الاشجار والطرق العتيقة .الوجوه – الآرائك – التصاوير – الستائر – أغنيات الليل…لحظتها أفقت ُ أنا فغرت ُ فمي
رأيت ُعصفورا يبلله غبار البارحة .يرف ..يرف : أنت إذن أتيت إليّ ثانية ً تعال ..تعال …صحتُ ثانية ً وكدت ألمسهً
فأهداني ريشة ً ومضى الى الآفاق مرتجفا وغاب
—
غسق أبيض : محنة الفراشة مقداد مسعود: يحاور الشاعر مجيد الموسوي
كلما حدّقت ُ بوجعنا العراقي الدؤوب، تساءلت ُ : لماذا هذا الوجع لايتعرف إلى نفسه إلاّ فينا؟ ومتى تتوفر له إمكانية المكوث في اكتماله؟ لنتحرر منه .ومن باب السؤال وإطلاقه نحو الذات الميتافيزيقية، هل تصغي هذه الذات لسؤال الآخر؟ أم هي تكتفي بتمويله الذاتي للأسئلة ولا تصغي لغير سؤلاتها هي..؟! وهذه الأسئلة وشقيقاتها، لن أبحث لها عن أجوبة في أروقتها الفلسفية، فالسؤال الفلسفي يدور حول نفسه، مفسرا ومفككا تفسيره ..ونحن في مسيس العطش نحبث عن مياه تليق بتصحر أجسادنا الظمأى .من هنا لا مفاتيح خارج الشعر المسكون بالدهش أعني الشعر المصاب بلوثة الشعر..ولم أجد مرشحا للتحاور سوى الأستاذ والصديق الحميم مجيد الموسوي ..
(*)
آواخر القرن العشرين، صحيفة محلية تصدر في البصرة حاورتُ الشاعر الموسوي على مدى صفحة كاملة ومنذ 2015 وكلانا يبحث عن ذلك العدد الذي يبدو توارى في مكتبتينا .
(*)
في أوائل 2016 أتفقنا على صياغة أخرى ..أنا أسأله وهو ينتقي – وهذا مقترحي الذي لم يرفضه – أجوبة ً من قصائده ..وجعلنا السؤال والجواب على شكل جلسات أسبوعية، فهو يزورني في ضحى كل جمعة ونمضي وقتا من التاسعة حتى الواحدة والنصف في غرفة المكتبة..نتحدث فيما بيننا نتبادل الكتب ونقرأ نصوصنا ونخصص وقتاً لسؤال أو أكثر.. ثم نتركه فترة، لنخلّص المحاورة من مالانراه ضروريا..في اليوم الأول من رحيله، أنفردت ليلا مع مشروعنا البسيط وقررت إتمامه فتلك غدت مسؤوليتي أنا فقط للأسف ..
(*)
* أيها الوديع المسالم يا صاحبي ونديمى ودليلي إلى المنتأى أيها الموسوي الفراشة
أريدُ أنّ أدخل غرفتك من توصيفك لها ، وليس مِن خلال ماأراه أنا، فهل ذلك في حيز الإمكان..؟
– هنا يصمتُ مجيد الموسوي يتأملني باسماً، يلتقط كتابا من الرف الثالث من مكتبتي،يتصفحه، يجلس على القنفة، يلتقط أستكانة الشاي لومي بصرة، يرتشف منها يغمض عينيه، ويحلق هناك في صومعته يتأمل الأشياء وينقلها لي :
كتبٌ وقراطيس مصفوفة
وتصاوير:
صورة طفل يمدّ لد ميته يده
وعصافير صفراء،غابية تتخاطف في الدغل
وامرأة شبه عارية يتقاسمها الضوء والظل
نصفين
مشتعلين، وأشرعة تتجمد في أفق ٍ غائم ٍ
وخيول تحمحمم عارية ً
وهي ترعى بمنفسح
السهل…
………
ثمة مكتبة
بحذاء السرير الوحيد
ونافذة نصف مفتوحة ٍ
تتقطر فيها سحائب وهمية
وقصائد مبثوثة
في الهواء
………..
ثمة الشاعر المتوحد
يصغي لنبض خفي تسرّبه ُ الأرض
من جهة ما،ندى، وروح تهوّم في الصمت
تغشاه هادئة
كسراج مضاء!
*والآن من أين نبدأ خطوة أولى، فأنت خاطبت العشب ..أولا.. ثم وصلت إلى (يقظة متأخرة ) وبعد خطوات ثرة لملمت (دموع الأرض) وحين حثثت الخطى صحتُ بك إلى أين ..؟ لمن تركتني يانديمى.. نأيت َ قليلا ً لتقتربت مني وهمستني..(لتأخذني أقدامي حيث تشاء) .. وها أنا ياموسويّ الحميم أسألُك ثانية : إلى أين ؟!
– هاهو الموسوي يتوغل في بياض ٍ الوحشة وهو يرتل :
سأبدأ من الزمن الذي لا زمن له
وأعرف أني سأنتهي إلى منطقة مجهولة
سأدخل غابة الأسئلة المحيّرة
وليس في الفؤاد جواب !
هكذا يبحر ربان الشعر
مشرّعا قلبه وروحه لموج المجهول
واضطراب الأنواء
وتقلبات الفصول ..
أدخل وحدي..أحراش المعاني
وأجمات الكلام، مؤملا ً بزهرة
تبرق في العتمات، فتحدثني عن البداية
لهب الدهشة الأولى
وخفقة الخلق…
*يتعانق الشاعر المجيد الموسوى مع وردة البياض، تتقوس الوردة فوقه وهو يجثو ويتدفق صوته كشفق في ضحى بعيد :
– أبكي
بين يديك أيها المتعالي الجميل
فأنا عصفورتك المهيضة الجناح
أرفرف في فضاء قبتك الشاسعة
وأكتشف حريتي الوحيدة !
من النافذة : صباحا ً
وبروح الناسك النقية الأولى
أرقب الغيمة المرفرفة وهي تُمطر ُ
بغزارة كائناتها البيض :
بلشونات ٍ
ونوارس َ
ولقالق
لتحملها الريح العابرة
من مكان إلى آخر
ذاهبة ً آيبة ..
والبحر السماوي الأزرق
يطوّق العالم الشاسع كلّه..
………..
وأنا أتقلّب على جنبيّ
كما لو كنت ُ
أولد ُ
للتوّ !
*ياصاحبي من خلال المشترك المتجدد بيننا منذ (48) عاما من الود والكتب واليوتوبيا والتواصل الحميم بين عائلتينا .. أراك منشغلا بالذي لايراه سواك ..أعن ِ على تقريب صورة ما لايراه سواك…؟ ومتى تكون رؤياك إليه ؟
– يضع منديلا ورقيا، في الصفحة التي كان يقرأها من كتاب( وصايا لابن عربي)، أختطف الكتاب من بين أصابعه، وأفتح الصفحة المعلّمة بالمنديل الورقي واقرأ السطر التالي
(أحذر أن تنقطع عنه فتكون َ مخدوعا،لأن المخدوع َ مَن ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظرإلى عطاياه..تعلق َ الناس ُ بالأسباب، وتعلق الصدّيقون بولي الأسباب ../ 189)
نتبادل النظرات ثم نقتسم البسمة ..ثم ترفرف فراشة صوت الموسوي :
– في كل ليلة ٍ
من عالم مجهول ْ
يقترب ُ الوجه الطفوليّ
إلى نافذتي مغترباً وخائفاً..
يريد أن يقول شيئاً
ماالذي يريد
أن يقول ْ..؟
يدنو إليّ لاهثاً منكسرا ً
كأنما يريد أن يبوح شيئا غائما ً
لكنه يرتد ُّ كالمذعور
دامعاً ويختفي
في
عتمة
الحقول !
*أيها الموسوي يامستشاري في المعرفة والحياة، ماقرأته للتو يعيدني إلى قصيدة قصيرة لك عنوانها(قمر آب) هذا نصها البديع :
قمرٌ هادىٌ
يتدلى قليلا ً
قليلا ً
ويغمرني بشذاه
قمرٌ يتدحرج
في الغيم، أخضر
منكشفاً
ناعماً
كالمياه
…………
أتراه
قمر الروح
أم قمراً آخراً لا نراه !
* أعرف الكثير من سجاياك : التمعن في المهمل، الأشتغال على نبرة هادئة، زهدك فيما يتنافس عليه أذكياء الثقافة ، تماهيك في ذرة رمل ٍ.. صفوك حين تبترد من الهجير بذلك الظل ..
فهل نسجت من كل هذه الخيوط : خرقة ً للصوفي وماء ً للجرة..؟!
– يتأملني ثم يمسك بكلتا كفيه كفيّ، ويحدّق في اللامكان ويتهجد :
أكتفي بالقليل القليل
كوز ماءٍ
وكسرة خبز ٍ
وسجادة للتأمل
أفرشها آن َ يقترب الليل
والنجم يبرق مختلجا ً
في سكون المجرّة
وحدي
ترقرق عيني من الحزن والخوف
أدعو الهي
أجرني
أجرني
فمازلت أطمع ُ أن أتوسّد بين يديك
تراباً نقيا ً
وفيض بكاء ٍ
وقلبا ً ذليل ْ!
*أيها المجيد الموسوي..لقد ورطنا كافافيس بلوثة أيثاكا، وتحدثنا حول ذلك كثيرا : العابر الإستثنائي شيخنا محمود عبد الوهاب وأنت وأنا ..هنا في هذه الحديقة ..في هذا البيت في ضحى تلك الجمعة السعيدة من آواخر آذار 2007 وكأننا نستأنف ما تحدثنا عنه قبل سنوات في مكتبة معهد المعلمين حيث كنت َ تدرّس اللغة العربية…هل تخليت الآن عن تلك المدينة النائية، بعد أن أعلنت في قصيدة لك (بيت بأقصى المدينة) وطبعا تقصد بذلك بيتك في منطقة القبلة
– يعقف الشاعر أصابعه ويرقصّها كأنه يعزف على بيانو..يصمت ثم :
تركت البيت َ والكتب الثمينة والثياب
وعشب الحديقة
ومضيت ُ – وحدي – في متاهات الوحوش
بلا أنيس ٍ يدفع الضجر َ المميت َ
ولا دليل ٍ يكشف الليل الموارب َ
ليس لي إلا القميص الرث َ
أغسله ُ، وألبسه ُ
وأفرشه ُ
– عِشاء ً آن َ يرهقني الطريق ُ –
وبلغة ً من خبز أمي !
*والآن ..الآن ياعبد المجيد بن سلمان الموسوي ..الآن أين وصلت َ..؟
*كم مشيت ُ – هناك – !
أعواما ً وأعواما ً..
وأعواما ً سألت ُ، إلى أن بت ُّ شيخا ً
طاعنا ً
حرضا
ولمّا أبلغن ّ
مدينتي
الأخرى !
*حدّثتكُ مرارا أن للمراثي في شعرك حصة كبيرة، وتناولت ذلك في مقالة لي عن شعرك
هل ترثي نفسك من خلال التراسل المرآوي بينكما : أنت وهم..؟! أم حالة سيكلوجية تكابدها بعمق كسؤال وجودي تترصده ويباغتك بغسقه الأبيض الصلد ..؟ ووجودية هذا السؤال جماعية
وشاهدي في كلامي مجموعتك الشعرية الأولى(مخاطبات العشب) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في سنة 200وقصائد المخاطبات مكتوبة بين خريفيّ(1986-1996) فأنت عنوّنت الفصل الأول (موت موّقت ) و..الثاني (بياض أخير) و.. الثالث (وردة الشوكران )أعني ماهو سر إنشغالك بمهميمنة الموت التي سترافقك في كتبك الشعرية كلها ..؟ وأنت من خلال صداقتنا التي قاربت نصف قرن : إنسان ممراح، وديع مسالم، كما أصفك دائما. محب للجميع متصوف مع الأشياء بجمالية باذخة ..!!
– هنا يلقي نظرة على رفوف الشعر من مكتبتي، ويلتقط أحد دواوينه ويقرأ منه ُ :
أستيقظ أحيانا ً
منتصف الليل
لأبكي أيامي، مرتعبا ً
تسّاقط فوقي شهب ونيازك
من جهة ٍ مجهولة ْ
أستيقظ ُ
مأخوذا ً
بهواجس لا أعرف مصدرها
تأتيني منتصف الليل :
ترى كيف ألملم
روحي المرتعبة ْ ؟
ونداءات المجهول الوحشي
وكيف أهيء روحي
لنداءات الخطوات
المقتربة ْ…!
وبدوري أنهضُ وأسحبُ (مخاطبات العشب)، وأفتح الصفحة المعلّمة بمنديل ورقي أبيض مطوي على شكل مثلث، يتناول الموسوي الكتابَ ويقرأ قصيدة( سؤال قديم) :
حين نموت
هل سنغدو في التراب هادئين
ساكنين مثل ريح سكنت
وتسكن الاحلام
والافكار
والغناء؟
حين نموت
هل سنفنى في التراب
أم نقوم ُ في وريقة
أو برعم ٍ
أو نجمة ٍ
تخضرُ في حديقة السماء؟
*نقرة..نقرتان على باب غرفة: تعني مهيار يحمل صينية فيها فنجانين من القهوة الحلوة وقنينتين
من الماء المعدني وقطع من البسكت والجكليت ..يتبادلان التحية الثانية هو والموسوي الذي يحبه جدا ..أغمزه بعيني اليمنى فيجلس ليشاركنا الإصغاء..بعد القهوة يستأذن مهيار فقد حان وقت مسلسل (توم وجيري) وهو مسلسلي المفضل أيضا.. هنا أتوجه بالسؤال التالي للموسوي
: صداقتنا عميقة واضحة قاربت الخمسين عاما ..لكن عذراً : مَن أنت أيها الموسوي ؟ منذ سنوات ..أعتقد تجاوزت العشرين عاما سميتّك : الوديع المسالم ..لكنني أحتاج التوغل في ينابيع الأولى ..لذا أكرر: من أنت ياصاحبي ودليلي ..؟
*ينهض الموسوي يلتقط ديوانا آخر من دواوينه..يتصفحه .. يعود للجلوس على مسند القنفة ويقرأ:
سأرسم ُ صورتي بيدي
أنا رجل ٌ أحب الناس والدنيا
وأعشق خضرة الكلمات صافية ً
ورقرقة الظلال ِ
أنا رجل ٌ
أفكرُ لا يجوز لنا اغتيال الماءْ
ولا قتل البريء
ولا التوغل في الخيانة ….
…………..
إنني يا أيها الأحفاد ُ
أشهد ُ أنني رجل ٌ
أحب العالم َ
الأرضي ّ
والدنيا
ومخلوقات الإله
بلا أخطاء !
* يا أبا فراس ياصاحبي ونديمي في (مخاطبات العشب) كثيرا من الإهداءات لمن تحبهم .. وبشيء من النرجسية سأفتح صفحة 121، وأتمنى أن أسمعها بصوتك وهكذا يكون مسك حوارنا هذا..أتمنى أن أجعله، ضمن مخطوطة كتابي عنك ..
*يأخذ أبو فراس الأستاذ مجيد الموسوي الكتاب ويقرأ القصيدة واقفا، فأقف قبالته :
(إلى : مقداد مسعود)
(ممتلكات)
حين أغادر
الى العالم الآخر
سأحمل كلّ أشيائي معي
كل مقتنياتي الثمينة
وتلك التي لا تقدّر بثمن !
ابتداء ً بالطنافس
وانتهاء بربطة العنق السوداء
وأنا أعرف
مَن يتربص بي عند بوابة الابدية
لينتزعها مني
ويجردني
من كل شيء
حتى
من سراويلي .
*الحوار منشور في (طريق الشعب) 14/ 2/ 2018
—-