ارتبطت بعلاقة صداقة حميمية مع الشاعر الرقيق حدّ ان لا يرى : رشدي العامل، فقد كنت اذهب احيانا – منتصف السبعينيات- الى مطبعة جريدة (طريق الشعب) في بارك السعدون، الذي أصبح – فيما بعد- مقرا للأمن العامة، فأجده على هيئته التي سأعرفه بها دائما، اميرا بسيطا محاطا بالرفيقات والرفاق من عمال المطبعة، كنت يومها هاويا للشعر أبحث عن نجومه للإفادة من ملاحظاتهم، حتى اذا تدرّج الزمن بتجربتي وصار لي اكثر من اصدار، واكثر من مسؤولية مهنية في المنتديات والروابط الادبية، ازددت التصاقا بـ( ابو علي) العذب الذي لا يُملُّ ولا يَمِلّ من الضحك وتدبير المقالب، المقالب البريئة لأصدقائه .
.
كنت عسكريا مجنّدا يوم سمعت خبر رحيله، وكان الوقع عليّ اشدّ من وقع الهاونات.
في اجازتي الدورية بعد أكثر من شهر، اتصل بي الصديق والقاص الكبير(فهد الاسدي) وأخبرني أن تأبينهم لرشدي في اربعينيته قد رُفض من (قيادة) اتحاد الادباء – وقتذاك- وعليه فانهم سيقيمون الفعالية في جمعية الفنانين التشكيليين، واضاف بحزن – :
للأسف، أغلب الأدباء الذين كانوا قد سجلوا أسماءهم للحديث عن رشدي قد تنصلوا من الالتزام، بعد ان تناهى اليهم موقف الإتحاد؛ ولم يبق سوى متحدثين على عدد الاصابع، وأريدك ان تشارك اذا كانت اجازتك لم تنته بعد؟
– “اكيد” قلت لأبي ليث بصوت عال
صرخ كل ما في داخلي؛ رشدي .. صديقك.. الأمير بعكازته المذهبة التي كان يهش بها المتطفلين على مائدته.
.
كان أمامي وقت ضيق ولم استطع كتابة اي شيء منذ أن وعدت الأسدي بالمشاركة، والموعد يزحف نحو “الأربعينية” ؛ ومرّات يكون الاشخاص أو تكون الاحداث أكبر من أصابعك..أكبر من كلماتك وتاريخك القرائي والكتابي، فلا غرابة ان يكون الإرتباك سيد الموقف..
.
مرّ يوم، وآخر، وعربة الاحرف لم تتحرك قيد انملة؛ وأهداني حرجي الى حلّ قد يكون مخرجا عن الكتابة ويشفع لي بالمشاركة؛ وهو: ان الشاعر “سعدي يوسف” كان قد كتب الى رشدي قصيدة منشورة في مجموعته الشعرية الكاملة بجزئها الاول؛ لذلك قلت مع نفسي سأصعد المنصة واقول : “انّ ابن البصرة الاخضر بن يوسف قد كلّف ابن بصرته الحطّاب أن يقرأ نيابة عنه قصيدته المهداة الى رشدي!!”
وبالتالي لن اخذل فهد الاسدي في تحدّيه لمن منع اقامة الحفل التأبيني لرشدي، وأكون سندا في هذا التحدّي.
لكن طيف رشدي لم يقبل بهذا الحلّ، وطالبني بقصيدة تخصّه وحده ومن كتابتي انا، وليس من أيّ شاعر آخر!.
.
في الليلة التي تسبق الامسية، ولد عنوان القصيدة : ( ورقة من تقرير شرطة المقابر.. ليلة دفن الشاعر؛ رشدي العامل)!!
ثم انهمر مقطعها الأول :
(.. ما أن غادر المعزّون المقبرة /
حتى نهض” المدعو” رشدي العامل /
وتفقّد بيته الجديد /
كان بلا أثاث ؛ ولا موائد للكتابة ؛
فانتظر مجيء الليل /
ليحصي :
كم قتيلا يمتدّ بين الكلاشنكوف والشعر).
.
وبما يشبه الحمّى جاء المقطع الثاني بنفس التدفق؛ وكأنّ جرحا من مكان خفيّ قد انفتح في داخلي. لأنّ كتبة التقارير الذين تابعوا رشدي الى المقبرة؛ حاصروني أنا هذه المرّة :
.
(.. واذ انتبه “المدعو” رشدي العامل /
لعيون تتقفّى آثار خطاه؛
حتى قرفص؛
وكأنّه يَهمّ بقضاء قصيدة /
ثم تسلّل الى اقرب قبر؛
ليؤسّس : تنظيما سرّيا لفقراء الموتى) !!
.
* اتعبني هذان المقطعان بشكل لا يوصف؛ فقررت ان آخذ استراحة وجه الفجر؛ واكملها عند استيقاظي .
.
في الصباح صحوت على هاتف (كانت الهواتف أرضية) من فهد الاسدي؛ فبعد سويعات ستكون الاحتفالية التأبينية؛ ووسط التخاذل الذي شهده أراد ان يطمئن بشكل نهائي على الاسماء المشاركة لترتيب كلماتها.
قلت له : ليلة أمس بدأت بقصيدة وسأكملها قبل الموعد بالتأكيد؛ طلب مني ان يسمع شيئا منها؛ فقرأت له ما كتبت..
واذا بـ(ابو ليث) يقول لي بالحرف الواحد يا جواد (انت معفي من المشاركة)!.
.
“معقول؟”!!
ندّت صرختي عبر الاسلاك، فأجابني :”نعم، لقد خسرنا الكثير يا ابو الجود – هكذا كان يسمّيني– ولا نريد ان نخسرك؛ فما قرأته لي مرعب !!.
.
جدال طويل دار بيني وبين سيد الوفاء لأصدقائه فهد الاسدي؛ انتهى بأن يسمع قراري المؤكّد وهو “يجب ان اقرأ”، واذا لم يُسمح فسأنهض وسط القاعة وأقرأ القصيدة !!
.
في الوقت المتبقي لي من الذهاب، جاء مقطع القصيدة الأخير، يسابقني الى امسية الفنانين التشكيليين
:
(..الله يا رشدي /
يا صديقي الذي قلّدته الحكومات أرفع معتقلاتها /
في الآخرة لا تكن اشتراكيا /
لا عليك، وحقوق من يشتغلون في الجنة او في النار /
فلقد اصبحت شيخا ؛
ولن تعينك “عكازتاك” على “نشّ” ذباب الشرطة عن وجهك .
غورباتشوف تنازل عن لينين /
والثورة الاممية؛ تباع بياناتها للذكرى /
لسنا سوى ” حروف مصحح “
اما العناوين الكبيرة :
فـ للعاهرات وابناء رؤساء الدول!!!.
.
للمرة الاولى – لعلّه – يحدث تصفيق في مجلس تأبين ما؛ فقد امتلأت قاعة الفنانين التشكيليين بالتصفيق وطلب الاعادة..
لأختم:
(..كم عمرا يحتاج الكون.. ليولد شاعر /
كم نبعا تحتاج الارض.. لتخلق نهرا /
كم وطنا .. نحتاج –
لنستوعب طفلا مثلك : رشدي).
***
القصيدة نشرت فيما بعد في ديوان ( شتاء عاطل – عمان 1997) و للتاريخ فان من تمرّد على اعتراض قادة اتحاد الادباء ( ويومها كانوا قوّة سياسية وأمنية ضاغطة لا يستهان بها)، هو الناقد الكبير ياسين النصير الذي تولّى ترتيب القراءات، مثلما قرأ نصّا رثائيا راقيا، وكذلك القاص والروائي عبد الستار ناصر؛ واسماء اخرى لا تحضرني الآن، لكن من المؤكد ان ذاكرة “النصير” الشبابية تحتفظ بها..
.
استذكر رشدي، وأستذكر “الأسدي” وكيف كان عرّاب واحدة من اصعب الفعاليات الثقافية واكثرها دفئا وحميمية.. ومغامرة .
.
ما لا يعرفه الجميع، وها انا الان اقوله هنا للمرة الاولى؛ بعد الامسية تقدم باتجاهي احد الاشخاص وقال لي بالحرف الواحد (انا ضابط الامن الذي كلفته الدائرة بحضور الفعالية وكتابة تقرير عنها، وقد اعجبتني قصيدتك.. واريدها)!.
مثل هذه الحوادث لا تنسى؛ قلت له: بالتأكيد ان اكثر من واحد من جماعتكم قد سجّل الامسية كلها وعليه سأعطيك القصيدة وبتوقيعي بشرط ان لا تكتب في تقريرك ما يضرّ بأحد المشاركين، اما بالنسبة لي فهي قصيدتي وباسمي ولا يمكن نكرانها ؛ فوعدني الضابط بذلك، ثم غادر القاعة وسط قلق ظل يراودني لأيام.
.
..وللأمانة اذكر : ان لا أحد منا قد استدعي الى الأمن او المخابرات بسبب المشاركة في هذه الأمسية، على الرغم من ان ما قيل فيها كان كلاما ربما لم تسمعه الدولة من أدباء الداخل.. لم تسمعه علنا من قبل..
وهو ما عزّز يقيني بان الرَجُلَ، أيّ رجل هو “كلمة” سواء كان ضابط أمن او رجلا بسيطا.
…………….
..
إيضاح بشأن الرسالة المرفقة، والتي تنشر لأول مرّة ..
.
كان رشدي يزورني أحيانا في ” منتدى الأدباء الشباب ” بمنطقة الطالبية الواقعة على “قناة الجيش” حيث كان مقر ” مجلة اسفار ” فيه..
مرّة زارني وترك احدى قصائده ، لكنّ تأخّر العدد حال دون نشرها بما وعدته به من نشر قريب. فمرّ علي بعد فترة وترك هذه الرسالة – بخطّ يده، وبطريقته المازحة المشهور بها
:
( السيد مدير تحرير أسفار
وفّقه الله ..
كنت قد بعثت لسيادتكم قصيدة متواضعة
منذ أواخر القرن التاسع عشر
وهي قصيدة ترجمت – وقتها – الى اللغة السنسكريتية
كما غُنيت بلغة الآي آي ..
فأرجو ان تترجم الى اللغة العربية العظمى
وان تنشر في مجلة سيادتكم
وفي حالة التعذّر، بسبب أيّة صعوبة
يرجى اعادتها لي
كيف استطيع تدبير لقاء معكم
وأعرف ان وقتكم ثمين جدا
ايها السيد المدير