(جماعة الرب) رواية تناولت الوجه المقنع للحياة العربية، ولامست خفاياها بل إنها هيجتها لتظهر لنا كما هي في حقيقة الأمر، أو كما رآها الكاتب حياة ترفل بالخصاء الذي مارس حضوره فيها بأشكال مختلفة: الفردي والجمعي، والفيزيقي والافتراضي إلى الحد الذي فرض إنشاء وتأسيس لجان مختصة به كلجنة (الخصاء الجمعي).
وإذا كان الكاتب قد تناول الأنموذج المصري والسوري في روايته على وجه التحديد إلا انه انطلق منهما إلى فضاءات أوسع واشمل. واستنتج أن ثورات الربيع العربي في مجملها قد أدت إليه، فدفع المواطن أغلى ثمن حين فقد فحولته أو ما يميز تلك الفحولة. ولكي يبدو الأمر مهولاً جدا فقد كان وصفه للخصاء مهولا أيضاً ودافعا للشعور بالخوف والألم الرهيبين اللذين شيدا جبروتهما على مبدأ التطهير (الكثارسيس) فما أفظع حضور صورته حين تقوم العملية بواسطة الطرق على الخصيتين وسحقهما بمطرقة ثقيلة أو بترهما بسكين أمام مرأى الجميع.
لقد ربط الكاتب ربطا فنيا موفقا بين ماضي الخصاء وحاضره عن طريق سرده لتاريخ الاله مين (إله الخصب) وربط ذلك السرد بما يحدث في شارع الاله مين في حاضر الأيام، وبين القطط السائب منها والمنزلي وإسقاط جنوحها نحو لذة الجماع على نساء ذلك الشارع. لقد بدأ مع (السقاقوة) الذي أمر أنطون باشا بإقامة مأدبة كبرى كمآدب الطهور والأعراس تم خلالها إخصاء السُقّاءِ ورمي خصاهم للقطط التي لم تعد تجد ذكورا للجماع كما هو حال المرأة العربية التي فقد زوجها فحولته كسقّاء أو محارب، أو ثائر، أو متحرش بالنساء، أو جراء تناول عقار ثبط الغريرة الجنسية للأشخاص الذين صار من المستحيل اقترانهم بزوجات جراء الوضع الاقتصادي المتردي أو أسباب أخر. ومما يشار إليه أن الكاتب أحسن استخدام الخلفيات والمؤثرات التي تساهم في نقل الحدث وتعميقه كأصوات الضفادع المغتلمة نحو ذكورها. ومجموعة الحلاقين وهم يشحذون سكاكينهم البتارة التي ستنال من خصى السُقّاء.
لقد استعرض الكاتب بإطالة اغلب إن لم أقل كل جوانب الحياة وتفاصيلها الاجتماعية فأرهق النص بالتكرار والإصرار على ذكر التجارب المتشابهة أو المتقاربة من حيث المعنى والدلالة. وقد جرى هذا بدافع اهتمامه بالحياة الاجتماعية وهمومها ومصائبها التي تلاحقت ولم تتوقف عند زمن محدد والتي جعلت الحياة تأخذ بالتحلل والتفسخ يوما بعد يوم.
المرأة في هذه الرواية تتصدر الموقف الاجتماعي فهي من يروي الأحداث مبينة منذ السطر الأول على بعض الفوارق المهمة بينها (كشاهدة معاصرة للأحداث) وبين جدتها (كناقلة جايلت تلك الأحداث) بين
“الأنثى العذراء التي لا يجب أن تعرف مجاهل الجنس قبل الزواج” وبين المرأة التي خبرت تلك المجاهل واطلعت على تفاصيلها. الجدة (الماضي) تجهل التغير الاجتماعي والتطور الناجز في البنية الاجتماعية ولا تعرف أن بنات الصعيد صرن يعرفن كل شيء. وشتان بين امرأة رأت في ليل الدخلة عضو عريسها متدل بين ساقيه فارتعبت ورمت نفسها من الطابق الثالث لتسقط على ماكينة سحب المياه ويتحطم جسدها وأخرى أحرقت جسدها لتتخلص من أحلك ليلة في حياتها البريئة، وبين امرأة بترت بسكينها عضو زوجها وخصيتيه. وعلى ما يبدو فان الكاتب بدأ روايته من هذا الفعل الجنوني فبدأ من حادثة السقاقوة (الإخصاء الجماعي) في زمن سابق وصولا إلى كل أنواع الخصاء في حاضر الزمان. ومن خلال السرد وضح لنا الكم المعلوماتي الذي يتمتع به الكاتب في مجالات الحياة المختلفة فهو يتحدث عن الموسيقى والرقص الشرقي والإيحائي بدراية كبيرة مثلما يتحدث عن الصحافة والإعلام بدراية على سبيل المثال لا الحصر. وتظل المشكلة الكبرى في قدرة الرواية على استيعاب هذا الكم المعرفي دون أن يمسها الضرر. لقد تعامل الكاتب في سرده مع شخوص الرواية الأساسيين على أساس محنتهم وما تعرضوا له من إخصاء جعلهم شخوصا موتورين تفاقمت أزمتهم فجعلت منهم قنابل موقوتة يدمر فعل انفجارها فاعل الإخصاء الذي تسبب في حرف حياتهم إلى اقصى حدود استلاب الشخصية وضمورها وزوال محددات هويتها الجنسانية. وهنا يحدد لنا الكاتب جسامة الفعل حين يصف حال النساء والرجال حين يقول عنهن:
“تفور أجسادهن رغبة، وتظل أجساد السقاءين باردة تماماً كأنهم أطفال لا يرون من النساء عُرياً يستحق أن تسخن وتتوهج بسببه خصاهم”
وفي هذا تعميم جنساني للخصاء بمعناه الاجتماعي الشامل فهو لم يقتصر في أدائه المرضي على الرجال وخاصة الأزواج منهم بل تعدى تأثيره إلى الزوجات اللائي بقين كالقطط التي تبحث عن ذكر للمضاجعة ولم يجدن ضالتهن في شارع المخصيين.
ولعل من أبرز صور الخصاء في هذه الرواية هو الخصاء الطوعي وفيه يقوم السيد الأعلى (الاله مين) بطلب إخصاء اتباعه لأنفسهم بأنفسهم عن قناعة هي في جوهرها مؤسسة على التأليه التام لشخص الاله مين وعلى كم اليأس الذي وصل الذكور إليه. وضمن طقوس خاصة يقوم سبعة منهم بإخصاء بعضهم بعضا ليطمئن السيد الإله أن لا أحد يستطيع اللعب بذيله حتى ساعة أجله. انه حكم تعسفي ديماغوغي مبني على أساس تفريغ المواطن من محتواه، وتحويله إلى عبد مطيع، طائع، وتابع قنوع. يقول بعض المواطنين ناقلاً الخبر:
• “إله قديم يخصي سبعة من طائفته أثناء إقامتهم لشعائره”
• “إسعاف المستشفى الدولي تُنقذ الكُفار بتوع آمون من موت أكيد”
• “آمون يخصي عباده”
• “إله قديم يخصي سبعة من طائفته أثناء إقامتهم لشعائره”
لقد حوّل النظام الصحافي المواطنين إلى مراسلين أملاً في رفع نسبة الاستهلاك إلى أقصاها.
الرواية سردت الكثير من سير شخصياتها لكنها تابعت مشاوير مُنتهى وشاهيناز وماهيتاب وهانيا، ومعهن نسرين حتى أخر فصل في الرواية وفي تاريخ الذكرى العاشرة لثورة يناير لم يستطعن الصعود إلى عربة السيدات في المترو وبالكاد حشرن أنفسهن في عربة الرجال المكتظة. وهنا يصل بنا الكاتب إلى نهاية الطريق المسدود لنظريتهن في (صناعة ابن الحلال) التي سبق الكلام عنها في الفصول السابقة. وتنتهي الرواية دون أن تكون لها خاتمة محددة فما انتظرنه طويلاً لم تحققه الثورة، فقد باء كلُّ شيء بالفشل الذريع:
“كنا ننتظر من الثورة أن تُوفر لنا إيجابيات المجتمع، وتقضي على سلبياته، لكنها نفخت في روح حشراتها فتضخمت، وسدت كل السبل أمام الذين يحلمون بالحياة”
أما القادم من الأيام فانه لا يحمل إلينا غير:
خوف بعيد يقترب سريعاً تحمله أمواجٌ عاتية لا يستطيع أن يقف في وجهها أحد””
………………………………..
- روائي ومترجم مصري درس الأدب الإنجليزي بكلية الآداب ، له العديد من الإصدارات ما بين الرواية والقصة القصيرة ، كما قام بترجمة العديد من الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة لأشهر الكتاب العالميين ومن إصداراته “كوميديا الموتى” (قصص) هيئة قصور الثقافة، و”قادش الحرب والسلام ” (رواية) دار الهلال، و”الطواب الأكبر” (رواية) دار الهلال، و”عرش الديناري” (رواية) أبداع للنشر والتوزيع، و”الملائكة لا تأكل الكنتاكي” (قصص قصيرة جدا) فضاءات للنشر والتوزيع، و”مسافة قصيرة جدا للغرق” (قصص)