ولي كبِدٌ مقروحة ٌ من يُعيرني بها كبِدَا ً ليست بذاتِ قروح ِ
وتمَّ تشيعه في اليوم التالي(الثلاثاء)في قريته (رملة الأنجب) التي ولد فيها العام 1935م،وقضى سنوات حياته الأخيرة فيها يفلح ويزرع.
ومحمّد عفيفي مطر قامة ٌشعريّة من جيل الستينيّات في مصر والوطن العربي،وآثاره العديدة تكشف عن ثراء شعريّ وأدبي⁽¹⁾ يضعانه مع الشعراء السامقين الذين أسهموا في تكوين الوجدان الثقافي المناضل الرافض للخذلان. وقد طوردَ ،واعتقل ،وعُذّب دون أن يتخلّى عن قناعاته الفكريّة والوجدانيّة.
وتوثيقاً لاهتمام المثقفين العرب ،وإشادتهم به شاعرا ً وإنسانا ً أسوقُ موقفينِ كنتُ شاهد تاريخ فيهما:
الأوّل: حين وصلتْ بغدادَ أخبارٌ من القاهرة عن اعتقال عفيفي سنة 1991م،وتعرّضه للتعذيب في أقبية المخابرات في ( لاظوغلي) بالقاهرة،شكّلت صدمة ً لأصدقاء الشاعر،لكنّها هزّت وجدان صديقنا المشترك الشاعر الدكتور محسن أطيمش بعنف لاسيّما بعد سماعه أنّ جلاوزة لاظوغلي قد تركوا في جسده آثارا ً واضحة من كثرة التعذيب،لأنّ عفيفي كان الصديق الأثير لأطيمش،ويعرفُ ذلك القاصي والداني ،فاعتكف (أطيمش) أشهرا ً،أعلن بعدها في 10 تموز(يوليو) 1991م عن اكتمال مجموعة شعريّة نيّفت على المئة والخمسين من الصفحات أسماها بـ” محمّد عفيفي مطر-الأناشيد ” فتولّت دار الشؤون الثقافيّة في بغداد طبعها،وأنجزتها في الأول من شباط(فبراير) سنة 1992م،وحمل غلافها الأول تخطيطين لوجه عفيفي حرص صديقه الوفي(أطيمش )على تثبيتهما بالاتفاق مع المصمّم رياض عبد الكريم.وممّا قاله في هذه المجموعة عن عفيفي في النشيد الثاني:
وتراءى لـ” محمّد ” أنّ الشيطان ْ
أزليّا ً كان ْ،وما عادَ وحيدا ً
بل يتناسلُ فهو الآن ْ
يملكُ أجنحة ً وعبيدا ً يصطادونكَ أينَ تكون !
أفي ماء البحرِ السابعِ أو في أروقة ِ الفقراء ْ.
في مسجد “سيدنا ” أو في باحةِ سيّدةِ الرحمةِ
أ ُمِّ الأحزان ْ.
في القنديلِ يراكَ ولا يخشاك ْ
بل يتمنّى أن يتجدّدَ ضوؤكَ،أنْ تتوهّجَ أكثرَ
فالقنديلُ سيرميكَ إلى الشجرِ الناحلِ يوماً
وهناكَ يكونُ لضوئِكَ معنىً آخرُ
إذ للورقِ المتوهّجِ مغزىً، فهو الأنقى والأكثرُ سمكا ً
ولهُ اللونُ الأغمق.⁽²⁾
أمّا الثاني: فإنّ رمز اليمن الثقافي وشاعرها الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح كان قد دعا عفيفي لحضور الفعاليّات الثقافيّة المقامة على هامش معرض صنعاء الدولي للكتاب في دورة سنة 1997م،احتفاءً بمنجزهِ الإبداعي المتميّز طوال أربعةِ عقود،وتكريما ً لمواقفه النضاليّة، وقد خُصّصت له ندوة على هامش المعرض بتأريخ 27/12/1997م،شاركه فيها المقالح وكاتب هذه السطور، إذ قرأ عفيفي فيها قصيدته ” الموت والدرويش ” بعد أن قدّمه الدكتور عبد العزيز المقالح بوصفهِ ضيف اليمن وضيف معرض صنعاء للكتاب،ثمَ تحدّث المقالح عنه قائلاً:
” هي زيارته الثانية إلى وطنه الثاني الجمهوريّة اليمنيّة،وهو واحد من بين قلّة قليلة أخلصت للشعر ولم تُشرك به شيئا ًآخر لا وظيفة ولا حزبا ً إلّا أن تكون الفلاحة التي ارتبط بها منذ طفولته وما يزال يمارسها حبّا ًفي الأرض ،وانسجاماً مع حبّهِ للطبيعة ومتابعة فصولها المختلفة التي تتجلّى في قصائده بطريقة لا شعوريّة حيث تأخذ مفرداتها حيزاً واسعاً في كل دواوينه دون استثناء.
والاقتراب من شعر محمّد عفيفي مطر ابتداءً من أعماله الأولى يؤكّد أنّنا تجاه شاعر متميّز لا يشبه غيره من الشعراء،وكثير من الشعراء العرب المعاصرين – حتى الكبار منهم – يبدؤون محاولاتهم على طريق الشعر متعثرين إلى أن يمتلكوا أصواتهم وتكون لهم لغتهم الخاصة إلّا هذا الشاعر الكبير محمّد عفيفي مطر،فقد ولدَ مكتملاً ناضجاً في لغته وفي رؤيته الفنيّة وفي مواقفه أيضاً،صحيح أنّ تطوّراً كبيراً ومهماً قد أدرك قصائده،ولكن جوهر الرؤية الشعريّة وطريقة التعامل مع اللغة ومع القصيدة ذاتها لم تتغير كثيراً،وهذه الغلالة الشفيفة من الغموض بدأت معه منذ قصائده الأولى واستمرّت كذلك،وكما هو في مواقفه كذلك هو في شعره،لا يسعى إلى تغيير جلده أو البحث عن القاعدة العريضة لشعره الذي لا شك أنّ قاعدته تتّسع بمرور الأيام وبزيادة الوعي الأدبي وإدراك جوهر الشعر وكونه شيئاً غير النثر وغير المنشورات السياسيّة والاجتماعيّة…وحياة الشاعر الكبير محمّد عفيفي مطر كشعره بحاجة إلى عدد من الدارسين المتفرغين الذين سيجدون فيهما – الحياة والشعر – تجربة عميقة ومتميّزة،وصورة الريف في حياة هذا الشاعر وفي شعره تكفي لمدِّ الدارسين بمرجعيّة لا ينضب معينها،وبمنهج مخالف لكل القراءآت التي تناول بها الدارسون شعراء جيله،أو شعراء الجيل الذي سبقه أمثال السياب وأدونيس وصلاح عبد الصبور والبياتي وغيرهم من روّاد القصيدة الحديثة.ودراسته للفلسفة في جامعة القاهرة سوف تستدعي وقفات طويلة ،فقد تركت بصماتها على قصيدته دون أن تلحق بها الضرر،كما حدث لبعض الشعراء المتفلسفين الذين غلبت على قصائدهم النزعة الفكريّة،وهي تختلف عن النزعة التأمّليّة،أمّا هو فقد أعطته الفلسفة،أو بالأصح أعطت لشعره أبعاداً عميقة جعلته بصدق فنيّاً رائعاً يرفع الحجب عن عوالم لا حدودَ لها من معاناة الوجود الإنساني وتراجيديّته.
وفي ما يلي قراءة أولى في قصيدة ” الموت والدرويش ” وهي من أحدث قصائد الشاعر،والقراءة للأستاذ الدكتور عبد الرضا عليّ “⁽³⁾
ثمّ بدأ كاتب هذه السطور بتقديم مداخلته النقدية عن عفيفي الشاعر الستيني،ونصّه الموسوم بـ ( الموت والدرويش) قائلاً :
-1-
” يُعدُّ الجيل الستيني – وعفيفي منه – أكثر جرأة ًمن الروّاد على الاقتراب من الثوابت الهندسيّة الشعريّة،ومحاولة زعزعتها بالمشاكسة حيناً،والرفض حيناً آخر،وصولاً إلى إحداث الانقلاب في بيتِ الشعر،وأعمدته العتيقة.
وإذا كان الروّاد –وأعني بهم: السيّاب،ونازك،والبيّاتي،وبلند،وصلاح عبد الصبور،وأدونيس
وغيرهم – قد أسّسوا للقصيدةِ الجديدة طريقا ً،فإنَّ تضامنهم تزعزعَ أو كاد،في وقتٍ كانوا أحوج ما يكونون فيه إلى وحدة ِ جبهتهم،لا إلى تفتيتها بمعاركهم الداخليّة.
لهذا كان شعراء الستينيّات أكثر ابتعاداً عمّا يفكّك تلك الجبهة ويضعفها،لأنّهم وجدوا في وحدتهم وتماسكها قوة في الاندفاع نحو التخوم الثابتة لتحريكها،إيماناً منهم أنَّ الهجوم خير وسيلة للدفاع.
ولعلّ أيّة مراجعة منصفة لحركتهم تلك تشير إلى نتائج عديدة،سواء أكان ذلك على مستوى الحركة على نحو عام،أم كان على المستوى الفردي على نحو خاص.
ولمّا كنّا بصدد الحديث عن محمّد عفيفي مطر(حصراً) بوصفه ستينيّا ً،وعن نصّه ” الموت والدرويش ” تحديداً،بوصفه تجربة حيويّة،فإنَّ هذه المقاربة النقديّة ستحاول أن تقدم صورة تقريبيّة واحدة لهما معاً،بوصفهما رئتين لجسدٍ واحد.
– 2 –
ليس سهلاً أن تقرأ محمّد عفيفي مطر،لأنّ نصّه لا يعطيكَ نفسَهُ بسهولة،وقد تظنّ ُ أنَّ ذلك يشترك فيه جميع أبناء جيله،والواقع ليس كذلك،لكونه يشكّل خصوصيّة ثابتة في المتن،ونسيجه،تحدّدها آليّاته،وأدواته في البنية،والفلسفة،والإيقاع،وقد عانى من ذلك قراؤه، ومستمعوه،ونقّاد شعره،ودارسوه.
إنك إذا ً إزاء شاعر متعِب،ليس غموض نصّه غموضاً شفّافاً في جميع الحالات،كما أنّه ليس مستغلقاً تماماً،إنّما هو غموض يتشكّل مع الحالة التي يفرضها الموقف على النص إبداعاً، والشاعر إنساناً،فكان لزاماً على قارئه أن يستقري النص داخليّاً قبل أن يلتفت إلى خارجه،وأن يكدَّ الذهنَ والفكرّ مرّات ومرّات، حتّى يصل إلى شأو النصِّ وفلسفته.
وهو إذ يفعل ذلك يفعله عامداً مصرّا ً،حتّى غدا نصّه شبيهاً بموقفه الفكري الذي بات لا يتزحزح على الرغم من كلّ ما تعرّض له من ضير،وما سيلاقيه من عنت قادم،وتلك سُنّة ُ النضال.
ويبدو أنَّ أسلوبه هذا هو الذي حال بين نصّه ودارسيه الأكاديميين،فاتهامه بالاستغلاق، أو بالغموض غير الشفاف،واستخدامه للرموز على ضوء ما يمتلكه من معرفة فلسفيّة بأبعادها،ودلالاتها،جعله بعيداً عن الأكاديميين،قريباً من المبدعين،وهو رضا اقتنع به كما نظنّ .
ومع أنَّ متلقي الشعر مقتنعون بأنّ القصيدة التي تعطي نفسها لقارئها بسهولة من غير كد وتعب،هي قصيدة تنتمي إلى مرحلة سابقة من عمر الإبداع الشعري،إلّا أنّ ذلك لا يقنع المهيمنين على أقسام اللغة العربيّة في بعض الجامعات،فكان أن تغافلوا عنه منهجيّاً،في حين كانت أقسام أخرى تتعامل مع نصوصه على نحو من الموضوعيّة والأمانة،في ما لها وما عليها إلّا أنّ تلك الأقسام ظلّت مرهونة بالمهيمن من البشر.
ينحو شعر عفيفي منحىً تحديثيّاً،غير أنّ فلسفة نصّه،وما يطرحه من مضمون فكري هو الذي يهيمن على النص قبل غيره،لأنَّ عفيفي يُسخِر كلَّ شيء له،فأخيلتُهُ ترتبط بفكرة النصّ،وعواطفه تنبثق من وجدان الموضوع الذي يقدمه بطل قصيدته،وحالته النفسيّة،لذلك ينبغي لقارئه أنْ يلتفتَ إلى جماليّات نصّه بعد وقوفه على فلسفته،لأنَّ الشاعر وإن بدا مهتمّاً بفكرتِهِ وموضوعه،فهو حريص على ما يقدّمه نصّه من إنجازات فنيّة على المستوى الدلالي، أو الصوتي.
إنَّ أيّ نصٍّ من نصوص عفيفي لا يخلو من تقنية السرد، أو من الانشغال بقضيّة الصراع، وأعني بها الدراما. فهو يُعنى بالمونولوج الدرامي عناية شديدة،لكونه يمثل صوت الشاعر، أو الراوية،أو بطل القصيدة وهو يعرض تجلّياته وعَوالِمَهُ الخاصة،ويبدو أنه التفتَ إلى أهميّة تلك المناجاة النفسيّة في إثارة مستقبل الإبداع عموماً،لذلك كانت مناجاته النفسيّة،أو مناجاة أبطاله
لا تخلو من تداخل والتحام. وهو إذ يعمدُ إلى المونولوج الدرامي لا ينسى أن يُفيد من عوالم السرد في تكوين الحبكة،وتوترها،لاسيما وهو يُعنى بالتدوير،وتقديم اللوحة على نحو من التركيز،والعناية بالدقائق إلى حدّ ِ الإطناب أحياناً.
إنَّ عفيفي متصوّفٌ،أو ذو نزعة ٍ صوفيّة في أكثر نصوصه،ولعلَّ ذلك ناتجٌ عن اهتمامه الدائم بالفلسفة،وما تركته في الشعراء من تأثير،وهو إذ يفعلُ ذلك يفعله بلا وعيه أحياناً،وبوعيه أخرى،لذلك يصدق عليه القول إنّه الشاعر الذي يفلسف نصّه،ولا مناص للقارئ من الالتفات إلى ذلك السلاح الذي تزوّد النص به فكان عصيّاً على الفتح.
– 3 –
” الموت والدرويش ” نصّ ٌ دراميّ ٌ يشدّهُ التوترُ شدّا ً،فيوزّع حبكته على حدثين فاجعينِ متوازيين في الحركة،ومؤتلفينِ في الدلالة،الأول: نار العدوان الهمجي الأمريكي على شيوخ العراق ونسائه وأطفاله من المحتمينَ بملجأ العامريّة،وما أحدثته تلك النار من فاجعة وهي تعلن انتصارها على الآمنين الأبرياء. والثاني: نارُ الكهرباء على معاصم الشاعر وهو يتعرّض للتعذيب في أقبية معتقل لاظوغلي في الوقت نفسه.
والشاعرُ حريص على أن يجعل دلالة الحدثينِ واحدة ً في المحصّلة النهائيّة،لكن المفارقة في ساعة الصفر التي اتخذها المتوحّشون،والتعويذة التي ردّدوها وهم يضغطون على أزرار البداءة إيذانا ً بالعدوان،فقد كانت التعويذة “Ave Mary ” وهي كلمة لها دلالتها في الصراع،لاسيّما الاسم الذي اتّخذوه فيها،فمريم العذراء التي أ ُمرتْ بهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب جنيّا ًلن تكونَ مريم أخرى يصبّ ُ باسمها الفولاذ على الأجساد الطاهرة:
” ومرمرٌ يعلو
فتعلو من رخام الموتِ شاهدة ٌ ومئذنة ٌ يؤذنُ
فوقها الجزّار : Ave Mary
ومريمٌ كانتِ اتّكأت تهزّ ُ النخلَ…
لا رطبٌ، ولا نجمٌ سوى الفولاذِ
منصهرا ً يئزّ ُ يهطلُ،
والدخانُ معارجُ الموتى وقافلة ُ الحجيج….”
والشاعر حريص في ساعات إفاقته القليلة على مشاركة إخوانه معاناتهم،وما يتعرّضونَ له من عدوانٍ همجيّ وحشيّ ،لكنّه لا يملكُ ما يشاركُ به العراق غير روحه، لذلك فهو راغب أن يحقّقَ لسرايا لاظوغلي ما يرغبون به،وهو الموت الذي يُريحهم منه، وعندَ ذاك ستعانِقُ روحُهُ أرواحَ شهداء ملجأ العامريّة، ويرتفعونَ معاً إلى عليينَ، فيناديهم متوسلاً أن ينتظروه، فهو أولى بصحبتهم، لكونه شاهداً على الجزّار والذبيحة :
” ناديتُ ــ بينَ تخلّع الرسغينِ والجمر المورّثِ في الأصابع ِ
:أيّها الموتى…
بحقِّ قرابةِ الأشباح ِ درويشٌ
من الأمواتِ يركضُ في سهوب ِ الموتِ
فانتظروا…
الطبولُ بعيدة،
تخبو المشاعلُ،
والظلامُ الحيّ ُ تنعسُ في عباءتهِ السهول… “
وواضح أنَّ صوتَ المنادي،وهو بطل القصيدة،أو الراوية هو صوت الشاعر نفسه،من هنا يمكن أنْ نُسمّيَ مثلَ هذه القصائد بـ (القصيدة الوثيقة) على ما في هذه التسمية من تقاطع مع الشعر بوصفه حلماً ونبوءة.
وإذا كان عفيفي حريصاً على فلسفة نصّه،ودلالاته،وتقنياته،فإنّه أيضاً حريص على إيقاعهِ، فهو لا يكتفي بضبطِ النصِّ عروضيّاً،إنّما يضبطُ إيقاع الكلام عندَ الإنشاد ضبطاً يُشدّدُ فيه على الانسجام بين الحركات والسكنات صوتيّاً،وهو إذ يفعلُ ذلكَ فإنّما يفعله إيماناً بأثرِ الإيقاع في إثارة ِالمتلقّي،فهو يرى ــ كما رأى فيتاغورس قبله ــ ” أنَّ الكونَ مبنيّ ٌ بناءً موسيقيّاً ” لهذا كانت قصيدته ” الموت والدرويش ” قد أفادت من تفعيلة الكامل تدويراً،لذلكَ ينبغي الاحتراس عند قراءةِ النصّ وإن أغرى بالسرعة،لئلّا يحصل اللبس في الإيقاع فيقودُ إلى الخلل السمعي الذي يتحاشاه عفيفي بانضباطٍ مدروس :
” تحتَ العصابة ِ كانَ وقت ٌ من دم ٍ،
والأفقُ مشتعلٌ بوهجِ حريقهِ الممتدّ ِ
أنتَ تهزّ ُ رأسكَ..تستفيقُ من المخدّر ِ وانتهاكِ الذاكرة
شيئاً فشيئاً ..
تخرجُ النهرَ المخبّأ تحتَ جلدِكَ،
والسماء َ الأرجوانَ وخضرة َ القمرِ الذي
ينسلّ ُ تحتَ عصابةِ العينينِ
أيّ سكينة ٍ هذي التي ابتلّت بروحِ الماء!!
جلجلت المآذنُ،قلتُ:
مسرجة ٌ وحبة ُ ظلمة ٍ في خيطِ مسبحة ٍ الدهور!!
وغيمة ٌ ترغو أم الإبريق صلصلة من
الظمأ المفضّضِ في العراء.؟! “
ومفردة الكامل (مُتَفاعِلن ) السليمة،والمضمرة (متْفاعلن ) بسكون التاء تبيح للشاعر إذا ما تعاقبتا حريّة في النظم،تنغّمُ الأسطر تنغيمات سريعة تقضي على رتابة الوزن، وهذا ما أحسسناهُ في هذه القصيدة،مع أنّ الحريّة اتّسعت فكانت تفعيلة الضرب النهائيّة مذيّلة: (متفاعلان ) وهو أمرٌ ليس مقصوراً على الكامل،إنّما في كلّ الأوزانِ الصافية الأخرى التي تستخدم في الشعر الجديد⁽⁴⁾.
رحم الله صديقي الشاعر محمّد عفيفي مطر، فقد كان شاعر النصوص العصيّة بحق.
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من مجاميعه الشعريّة: (من دفتر الصمت- دمشق1968) و(ملامح من الوجه الامباذوقليسي- بيروت1969) و (الجوع والقمر-دمشق1972) و (كتاب الأرض والدم- بغداد1972) و(شهادة البكاء في زمن الضحك- بيروت1973) و(يتحدّث الطمي) و(فاصلة إيقاعات النمل) و(رباعيّة الفرح) و( أنتَ واحدُها وهي أعضاؤكَ انتثرت) و( النهرُ يلبس الأقنعة- بغداد1975) و (احتفاليّات المومياء المتوحّشة- 1992)) …وله كتاب للأطفال عنوانه (مسامرة الأطفال كي لا يناموا) ، كما كتبَ بعضاً من سيرته الحيويةّ والإبداعيّة في كتاب عنوانه (أوائل زيارات الدهشة) .
(2) محسن أطيمش: محمّد عفيفي مطر – الأناشيد،64-65،دار الشؤون الثقافيّة العامّة،بغداد،1992م.
(3) نشرت كلمة الدكتور عبد العزيز المقالح في جريدة(26 سبتمبر) اليمنيّة، في عددها المرقم 786،في ا يناير 1998م،وكانت بعنوان (الشاعر الكبير محمّد عفيفي مطر في صنعاء..).
(4) نشرت دراسة الدكتور عبد الرضا عليّ في الجريدة نفسها،وبالتاريخ ذاته،وكانت بعنوان ” النص الوثيقة ” وأعيد نشرها في العدد الثامن من مجلة ” أصوات” الصنعانيّة شتاء 1999م.
أ.د. عبد الرضا عليّ