عرفت الصديق الأستاذ عبد الكريم العامري كاتبا مسرحيا وروائيا وهذه المرة شاعرا، اذ اهداني مؤخرا مشكورا كتابه الشعري (كل جسدي مشاع) والصادر عن دار الروسم ضمن إصدارات اتحاد الادباء والكتاب في البصرة، وقد كتبت قصائد العامري ما بين البصرة وكردستان العراق حيث عاش فترة زمنية هناك، وضمن انبناء النصوص الشعرية نقف إزاء رؤية جديدة للعامري المتفرد في كتابة الاجناس المتنوعة، فهذه المرة مضمونيا اشعرني بالتنوع في مستويات النص بعد ان كان طاغيا عليه نبرة الألم واللوعة في نصياته المسرحية والروائية، هنا عبد الكريم العامري يقف مهموما بأوجاع هذا الأفق يقف إزاء تلون الذوات المتنوعة، يقف متسمرا لتلون أقنعة العالم ولكنه يشاكس هذا العالم عبر رؤية متفردة إنسان عاش خبايا العالم المحيط بكافة تشكلاته، عاش أدق تفاصيله فأمسك بزمام الأمور كرجل كهل امتدت به الحياة ليعتلي صهوة حكمتها بمسافات فاصلة فأتت مساحاتها الجغرافية في غالبها فأصبحت ذاكرة، انها ذاكرة العامري التي حملتها لنا نصوصه المنصهرة بالواقع، نصوصه التي تحمل من الطابع الوجداني الكثير رغم لوعة بنيتها العميقة، نصوص العامري الباحث عن لحظة زمكانية هاربة منه حاول الإمساك بها ولكنها انزلقت من بين أنامله، تلك الذاكرة التي احالها العامري لصورة شعرية في ديوانه الشعري (كل جسدي مشاع) وعتبة النص هذه ذات تأويل دلالي مدهش، فالمشاع (نظام) تقنين وحرية بذات الوقت، والجسد (نظام بيولوجي) وباحث عن حريته في ذات الوقت، ولكن من يعتلي صهوة هذا النظام ويمنحه للعالم هكذا دون جواز مرور، ألا ينطوي العنوان على مسحة مغايرة… ألا يمكن أن يفهم من العنوان بأن الجسد المشاع (مصاب) بأمراض أنوية الآخر بكافة توزيعاته الفكرية والاجتماعية، لما تمنح الذات جسدها لتصويبات الآخر.. ألا يمكن للجسد أن يصاب بالإنهاك جراء تصويبات الآخر ورصاصاته الفكرية؟
أن العامري في عتبته يختار عنوانا ذكيا لافتا مثيرا للتأويل، كما يحصل الأمر ذاته مع عناوين قصائده الشعرية، أضف لذلك قوة وجمالية الصورة لديه، إضافة الى المستويات الفنية الأخرى مثل الحذف والتناص والتقديم والتأخير والاستعارة وأمور أخرى حملها الديوان الشعري. فالعامري يقول في قصيدة (عوالم):
(تلك أفئدة الأمهات
الأمهات اللاتي يسّاقط حولهن الأسى
كلما هززن الأسرة
الأمهات اللاتي يلدن الحطب) ص8
ويحضر هذا التناص واضحا مع الآية الكريمة (هزّي بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) في سورة مريم من القرآن الكريم ولكن العامري وظفها بطريقة تتسق مع الوجع العراقي للأمهات اللواتي تحملن عناء سنوات الحرب والحطام. شتان ما بين الرطب الجني والأسى! وشتان ما بين التي تلد من يشافي المرضى وبين من تلد الحطب للحرب!! كما استعار عنوان قصيدته الشعرية (لن تستطع معي صبرا!) من سورة الكهف وقصة الخضر وموسى (عليهما السلام). كما تحضر الصورة الشعرية بجمالية في قصيدة (عام ثامن) والتي أهداها الشاعر الى أمه:
(لم نرك
لكننا أحسسنا بظلك الثقيل
من أية نافذة دخلت/ خرجت
وأنت تحمل بقايا ضحكتها شرها
ومعها كل أيامنا المقبلة) ص16-17
انها صورة مرعبة لملك الموت وهو يلج دارهم ويقبض روح والدة الشاعر العامري ويغادر دون ان يحسوا الا بظله الثقيل بفعل خطفه لأغلى انسانة لديهم في الوجود (الأم) التي لا تعوّض، الشاعر هنا يصور أن فقدان الأم يعني فقدان مستقبل الأبناء بدلالة (ومعها كل أيامنا المقبلة) وهي رؤية صاعقية وصعبة لفقدان الأم التي معها يفقد الأبناء وجودهم المستقبلي (الوجود على المستوى المعنوي المتعلق بالذات وانكساراتها). ومع كل هذه النصوص النابضة باليومي والذاكرة تتداخل سرديات ضمن انبناء الشعر وتسود نبرة الحزن والبحث عن يوتوبيا الذاكرة المنزلقة من ذاكرة الشاعر ولكن ربما تفاوت سنوات كتابة النصوص الشعرية وتغيير ظروف العامري العامة ألقت بظلالها على بعض النصوص التي حملت معها مباشرة في اختيار المفردة والصورة ومنها قصيدة (راو) وقصيدة (مرثية) كما يقدم الشاعر سيرته بإيجاز وتكثيف جمالي مؤثر جدا وهذا ما اتحدث عنه من خرق العادي واليومي السهل وتقديم ما هو جمالي من العادي البسيط، فيقول العامري في قصيدة (1958):
(|كل عام يأتيني هذا الطفل
يتلو عليّ ما تيسّر من أسفاري
كل عام يخرج من تحت ثيابي
عاريا..
لم يضحك أبداً
ولم يبك.
هذا العام رأيت لسانه يمتد.. يمتد.. يمتد
جلدني به
علمني البكاء والتأوّه..
الذين يعرفونني استاؤوا
والذين لا.. بكوا
ما زلت أحصي هزائمي
وألملم حشودي
ثلاثة وأربعون وجها يحاصرونني
ما فلتّ منها يوما
وما استجارني أحد.
وحدي قاومت: أشباحي
وحده الطفل: يعدّ انكساراتي) ص27-28
ذلك الطفل المحبوس قهرا داخل العامري (الرجل) ذلك الطفل/النقاء، الوجه الحقيقة الذي يتجاذب العامري ما بينه وبين ثلاثة وأربعين وجها مغايرا لسنوات العامري التي قضاها مقاوما لأوجاعه (كرجل) وحاصيا لانكساراته كطفل يختبئ داخل ذلك الرجل. هل تلك الانكسارات صيّرت العامري رقما (1958) في هذه الحياة المملوءة بالخسائر والانكسارات ام ان دلالته لتولده في الفاو وحسب!!! تلك الانكسارات التي كررها العامري كمفردة في أكثر من نص شعري في المجموعة كما في (سلّم الرعد) و(1958) وغيرها. والعامري في نص (تيه) يظهر صبيّا عاشقا يترجى الزمن ان يعود به لدهشة المتعة البكر الى الصبا و (لأول حلم/ لأول الذنوب وآخرها) ص34. وفي نص (قصيدتان) التي كتبها الشاعر في السليمانية حيث كان يعاني الغربة بعيدا عن بصرته قائلاً:
(من يدلّني على درب بلا أشواك
من يدلّني على مدينة لا تأكل أبناءها
ولا تستبيح نساءها
من يدلّني على صديق بلا أنياب ولا مخالب
من يدلّني على حاضر بلا متاب
من يدلّني على خناجر لا تغرز في الظهر
من يدلّني على ليال بلا كوابيس
من يدلّني على كل هذا
أعطيه ما بقي من عمري) ص38
العامري هنا يعري الواقع في مدينته البصرة التي عرف عنها مقولة تأكل أبناءها، وهو بهذا يصل بنا لخطاطة حياة مملوءة بالألم والخيانات والغدر والجفاء والتعسف اذ ان الدرب= الاشواك والبصرة= تأكل أبناءها وصديق= مخالب وانياب= غدر والحاضر= متاعب وخناجر= طعن في الظهر واللي= كوابيس. كما تكررت مفردات الحلم باشتقاقاته لدى العامري في نصياته الشعرية، وهو ما يدل سيكولوجيا على طموحات حالمة داخل ذات هذا الشاعر الذي يحلم بالجمال والبحث عن فردوس مفقود بهذه الحياة وعن مدينة افلاطون التي ينشدها العامري في أفق ضيق المدار تترامى فيه اطراف الخيانات والألم والتضييق. اذ تلعب مفردة النهار هي الأخرى لدى العامري دورا دلاليا عند الشاعر بوصفها أفق جديد ومرحلة عابرة للألم وبوصفها المثالية التي يرنو لها الشاعر في فلسفته الشعرية والحياتية. كما حضرت مفردات الجسد ضمن/ بنية فضاء نصوصه الشعرية (الرأس/ الأصابع/ الوجوه/ الشفة/ اليد…) حضورا مهيمنا في جزء كبير من القصائد الشعرية وكأن حضورها يرسم أفق الصور التي يرمز لها ويشير لها الشاعر دلاليا في تشكيل قصائده الشعرية. ولم تكن توصيفات اشارية اعتباطية او تكميلية وانما كانت تحمل دلالات ذات معنى يتسق مع معاني القصيدة وأيضا من المستويات البلاغية في قصائد عبد الكريم العامري هو الحذف الذي اعتمده في العديد من النصوص كما في قصيدة (ما كنت راغبا في هذا)
(يا سنواتي البيض والسود والرمادية
يا……!
عفوك ما كنت راغبا في هذا) ص68
ان الحذف هنا هو ايحاء اشاري للمسكوت عنه والمسكوت عنه هنا مثار استغراب ودهشة بدلالة علامة التعجب في نهاية المحذوف من قصيدة العامري. وتكرر الأمر في قصيدة (لما يزل الرأس طريّا):
(هل تموت الشمس بموت الظهيرة..؟
هل……..؟!) ص64
كما تتكرر مفردة مرايا لدى العامري على امتداد القصائد في المجموعة الشعرية بوصفها رمز النقاء البلوري وهو ما تابعناه في توظيفات العامري لهذه المفردة في بعض نصوص المجموعة الشعرية. أو بوصفها اطلالة فاصلة ما بين ذاتين أو عالمين يحدق من خلالها الانسيان للآخر بكافة تفاصيله وأمكنته. ولأن العامري كاتبا مسرحيا فقد حضرت الدراما في بعض قصائده ومنها نص (في القدس) ورغم ان العامري بدأ المجموعة بصياغات ونصوص تدل على ذات متوازنة تنظر بموضوعية للأشياء الا ان نبرة الألم تعود بعد منتصف المجموعة لنصياته وهو يختزل العمر بالحروب فيقول في (أدنى قمامة):
(ما بين الطفولة والأربعين
حرب ضروس
هزائم لا تعد وقتلى
مسافة تفصلني والقبر
كلما انقضى عام تقلّصت
ليتني أستطيع مط سنواتي
لأشهد نهاية العالم
وهو يذوب كالحلوى
في مستنقع العدم) ص84
انه اختزال لما آلت اليه الأمور، ورؤية لهذا العالم الذي يندحر تحت فوضى العبث والعدم الذي تسلسل لأغلب مفاصله وهي رؤية خاصة بالكاتب بهذا العالم والتي يشعر بأنه ينهار نحو الضياع ويتمثل ذلك بهزائم الحروب التي انهكتنا والتي كان الشاعر شاهدا عليها.
انها نصوص صيغت بلوعة جسد انهكه الزمن فكتب الحياة شعرا انها دعوة للسياحة في سنوات العامري التي كتبت شعرا.
—–
حيدر الاسدي- ناقد واكاديمي عراقي
حيدر الاسدي (كتاب البصرة ايقونة الجمال السرمدي – مقالات دراسات نقدية – دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع ISBN: 978-9933-64-31-1 الطبعة الأولى 2022