الشاعر مهدي طه ادرك ان قيمة الماضي هي في الدروس وتمتين الارادة, ما عدا ذلك تفاصيل زائلة، يهمني التخطي والتطلع للامام، ولهذا اعمد دائما الى تضبيب الذاكرة , ولم احتفظ بالاشياء , ولم ازر الاموات الا قبرين لشاعرين في مقبرة الحسن البصري: بدر شاكر السياب والبريكان، الضرورة قادتني لهناك فقد كان معسكري في الدريهمية وكنا نقصده انا وصديقي الشاعر كريم جخيور ونمر عبر المقبرة ..
بعد فترة وجيزة من لقائي بالشاعر حيدر الكعبي في المكتبة المركزية عام 1973تم الحكم عليه لمدة سنة في سجن البصرة فكان لزاما علي ان اقوي الاواصر مع صديقه الشاعر مهدي طه، كنا نزوره معا في السجن ونعقد هناك الندوات الادبية المختزلة وفي يوم ما استعار مهدي مني قلم حبروبعد فترة خط فيه شعره، و عاد ممسكا دفترا مخططا صغيرا قرات منه قصائد مختلفة، عميقة ومتنوعة: هذا الديوان قيل احرقه ابوه احتجاجا على غياب مهدي دون ان يدرك بأن نجله ذهب في رحلة الموت.. وكانت قصيدته المطولة (اغنية حب) من أبرز القصائد في الديوان :
(كيف أَشْـحَـذُ حُبَّـكِ؟ إنّي نسيتُ اللغات
بأيِّ اللغاتِ أُصَـعِّـدُ هذا اللهيبَ؟ بأيِّ اللغات؟
الفراغُ هو الحَلْقةُ الذهبيةُ بيني وبينكِ، مأذونُ عرسٍ يزاوجنا
الفراغُ يَدُقُّ، الفراغُ يجيشُ، الفراغُ يقول
الفراغُ هو البحرُ، هل تبصرين اشتعالي؟
الفراغُ هو النارُ، نفسيَ عنقاؤُهُ
ومبلولةً تخرجين
دون أن يوجد النهر مبلولةً تخرجين
أيَّ جِسْرٍ من الوَهْمِ أبني إليكِ؟ وأيَّ طَوَافٍ على الكلمات؟
ما أنا غَيْرَ صَمْتٍ يُفَتِّشُ عن كَلِمة
كذبةٍ تتغذّى على اللهبِ المتورِّدِ،
شيءٍ بلا أيِّ شيءٍ،
وجودٍ يطوِّفُ محترقاً،
لعبةٍ،
ضِعْتُ، ضُيِّعْتُ، عِشْتُ،
نُقِشْتُ على حائطٍ،
لم يكن لي زمانٌ
أنا هو تأريخُ موتْ . .
ورمادٌ صديءٌ على عُـلْبـةٍ فاخرة.). (فيما بعد تمكن الشاعر حيدر الكعبي من اقتنائها ونشرها في الحوار المتمدن)
وبحكم طبعي كنت اكثر اصدقائه تواصلا مع عائلته بعد رحيله واحمل عاطفة فياضة دفعتهما ودفعوا للشك بصدقي واقنعهم احد اقربائه من رجال الامن ان يشهدا علي في محكمة الثورة … فقضيت عاما في سجن ابي غريب سنة 1976بتهمة (قذف السلطة).
كيف نستطيع ان نقنع الاخرين بان مهدي طه كان طاقة شعرية خلاقة، اجهز عليه غرقا بنهر الرباط في ظروف غامضة حيث اكد تقرير الطب الشرعي الذي قرأته بان اثار كدمات على جسده , وان تفسخ الجثمان كان في بدايته قبل ان يطفو .
استقرت في البصرة ظاهرتان: موت الطاقات الادبية في ظروف مريبة وفقدان نتاجاتهم وعزوفهم عن نشر اعمالهم .
لقد تنبأ مهدي بموته كطبيعة الشعراء البصريين فقال مخاطبا حيدر الكعبي:
(اذا ابتكر الموت ثانية لعبة للغرق
ساضمخ كفي بدمّي
واصرخ من غرقي ابتعد).
يهمني كتابة النص ولهذا يتناول كتابي (البريكان )المجال النقدي واراؤه ومواقفه محاذرا الكتابة عن سيرتة الا تلميحا رغم اني زاملته لاكثر من خمسة عشر عاما، وعشت في داره لسنوات، ولا ازعم ان الكتابة عن الاخرين او الذات معيبة لكن مزاجي هكذا، اصهرني في النص واطور مرشحات الماضي، ولهذا لم استطع ان افضح عن الشاعر مهدي طه سوى قصيدة شاء القدر ان تنجو من القدر, ان يعفو عنها وتقع بين يديّ.. وبالامكان الخص مهدي بـ (كان سلوكا شعريا متفردا)