( دراما الافكار في روايات انّي ارنو).
اعلن قبل ايام عن فوز الكاتب الفرنسية اني ارنو بجائزة نوبل لسنة 2022.
حول روايتها <الاحتلال >
بعيدا عن التوغل بالبلاغة ,والاسلوب المركب .. وتحاشيا للقضايا الحياتية الكبرى ., تمكنت الكاتبة الفرنسية ارنو من الدخول الى التاريخ بجدارة.وسيساعد توفر ثماني ترجمات بالعربية من رواياتها على دراسة اسلوبها ..ويظهر ان احد اسباب تتويج انّي بالجائزة هو ما تعرض لها المشرفون عليها من انتقادات وهزات واضافة نقاد جدد اليهم .
تقول ارنو : «يبدو لي وبعد أن اجتزت زمن العمل المكثف، زمن الزواج والإنجاب، وبعد أن دفعت غرامتي بأكملها للمجتمع، ها أنا أنذر نفسي للأساسي، الذي لم اعد أراه منذ المراهقة». وتقول «حتى الاستعارات الأكثر استعمالا واهتراء كانت قد عيشت، ذات يوم، من قبل أحد ما». يبدو لي ان في هذين العبارتين للكاتبة مفتاحا لتفهمها , فما هو الاساسي الذي لم تعد تراه والسياق يؤكد انها قد رأته ابان المراهقة ,فان كانت الترجمة دقيقة وارجح ذلك , فهذا يعني انها جربت وخبرت ذلك الذي تسميه <اساسي>…انها تلك الاحاسيس العميقة التي لا تصنف بانها بطولات او مواضيع كبرى .. هي ليست اطروحات دستوفسكي بالجريمة والعقاب والاخوة كرامازوف .. ولا تقاطعات الموت لسيراماغو ..ليست هاملت ولا الارض الخراب لاليوت ..ولا ترسيخ قوة الارادة لهمنكواي .. <الاساسي > حسب اني ارنو هو تلك التوترات التي يولّدها اليومي وربما ما يعدونه عابرا (الاجهاض … سرطان الثدي .. رسم صورة مثالية للاب .. تمجيد الام .. العلاقات الحميمية بين الرجل والمرأة … الغيرة …).
تقول ارنو :(ما من كلمة من كلماته بدون قيمة …كل جملة كانت مادة لفك طلاسم لا تتوقف… هنا يتم طرح مفهوم اخر لدور اللغة .. لقد تغير المنظور لتركيباتها وتحولت الجمل التي يطلقها تفهم على انها (يحبني او يحبها ). انها تبذل اقصى جهد فكري وتبتكر اشد الحجج ثعلبية وغرابة لتقنعه ليعود اليها وان يكونا معا ثانية وذلك هو المنقذ الوحيد من الفخ الذي اوقع نفسه فيه مع زوجته الجديدة … هذا النشاط الفكري المتسعر الذي يهدأ نهارا ليعاود نهشه في وجدانها وعقلها ليلا … كل تلك الاساليب البلاغية التي تبتكرها لمواجهته يمسحها هو بجملة واحدة ربما يطلقها ببرود وبلا توتر <لا اريد احدا ان يمارس الضغط عليّ ).
حين نوصّف كتابات اني ارنو بانها تنتمي الى ( تيار التخييل ) فهذا ليس كافيا لانه يفتقر للدقة أول من استعمل هذا المصطلح الكاتب والناقد الفرنسي شارل دوبروفسكي ..فقد جنس روايته (أبناءfils ) سنة 1977 .. وجاء على الغلاف وسم «رواية»، ثم في الصفحة الرابعة يؤكّد: «قصّة، أحداث ووقائع حقيقية بحتة، إذا كنّا نريد، تخييلا ذاتيا، أن نعهد لغة المغامرة لمغامرة اللغة»،. الحكم الادق حسب ما استنتجت بان (دراما الافكار ) هو التوصيف الاقرب لاضاءة كتابات اني ارنو .فرواية الاحتلال زاخرة بصراع الافكار اكثر من الاحداث ..
منذ البداية تعترف الكاتبة بان من الوهم ان تأتي الحقيقة بعد الموت ..كان عليها ان تواجهها بجرأة وشجاعة ..ان تجد حلا لازمتها الفوارة التي كانت تهلكها, ان تفلت من قبضة الجحيم الذي وضعت نفسها فيه .. فهي من اختارت الانفصال عن زوجها بعد ست سنوات لا طلبا للحرية بل انقاذا من الملل .لكن الملل والرتابة لا تشكلان ازمة زوجية تفرض الانفصال …لكنها فضلت هذا الخيار ..اعمق ما فيها انها احبت ان تمسك ب (سلاح ) الرجل عند الاستيقاظ معتقدة بانه منقذ من التيه بهذا العالم .. هو الحصن الاشد امام عواصف الحياة .. لكن زوجها الان في سرير امراة اخرى .. من هنا يبدأ الاشتعال الوجداني والعقلي .حتى المجتمع الفرنسي المتفتح لم يحتمل جرأة ارنو ..فالافكار الايروسية طاغية ولم تبق نقطة فضائحية في الظلمة .الانسان عاريا امام هيمنة الجرأة .
بعد الانفصال اخذا يتهاتفان ويلتقيان والامور تجري باعتيادية وتقبل الامر , لكنها مذ اخبرها بانه سينتقل لشقة اخرى مع امراة هنا تغير نظام اللعبة ورات نفسها تفكر بتلك المراة لحظويا واثارت فيها طاقة ومصادر ابداع لم تتوقع انها ستبلغها يوما . انها احتلتها تماما .اصبح التفكير بها مركز الكون .
الرقم 47 شكل منعطفا في حياتها مذ اخبرها طليقها بان زوجته الاخرى ( معلمة تبلغ 47 عاما ) . وكمن يجد اكواما من اوراق ممزقة فيحاول ان يستعيد منها رسالة مهمة .. حاولت بطلة ارنو ان تشكل كائنا اجتماعيا وفيزياويا لغريمتها .. حقدت على كل المعلمات وهي منهم .. حدّقت بالنساء الاربعينيات في الباصات باعتبارهن عدوات ساخرات منها ..
(اروع ما في الغيرة انها تملأ المدينة , العالم بكائن لا يمكن ان نلتقيه ابدا . ). في شريط الذكريات الذي تستعرضه لحظات الهدنة : سهرة ..عطلة .. حفلة عيد الميلاد .. تاتي تلك المرأة لتثقب صدرها . يا للجحيم . لقد اصبحت مملوكة امراة لم ولن تراها .
صادفت شخصيا حالتي غيرة : احداهن قالت كيف انام وانا اتخيل لحظويا في الليل كيف تلمس جسده كيف يقبلها كيف يرقدان وجها لوجه او ظهرا لظهر .. والاخرى بعدما تاكدت من ان زوجها يتلفن لاخرى سرقت مبايله ليلا .. واجرت الاف المحاولات لفك رمزه ونجحت اخيرا قبيل الفجر بذلك .مر بنا في الشعر العربي ذبح بفعل الغيرة ذلك ديك الجن (يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمَامُ عَلَيها وجَنَى لَها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها
رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما
رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها.. ). لكنا لم نعرف عمقا وتفصيلا باضاءة الغيرة وتعريتها الا عبر ارنو ,اصبحت صندوقا ترن فيه جميع انواع الالم و لم تفلح بايقاف حفلة الفروسية الشنيعة التي تعانيها . كل معلومة مختزلة تسحبها من زوجها عن تلك المراة تجعلها باحثة من طراز رفيع كمن تعد شهادة دكتوراه . وخلال البحث عن المراة الاخرى تتعمق الرغبة بالقتل تتصاعد اعلى درجات الوحوشية .. لكنها فعلا تطلق عليها النار بالهواء .. متمنية ان نعود للبدائية حيث يخطف الشخص ويقتل بلا خشية من قانون وعقوبة . لكن الكاتبة تدعوني لحالتين حول بطلتها : السخرية او الشفقة .. فهي تقوم بالاتصال بالعشرات من نساء بناية ظنا منها انها ستسمع صوتها .. تلك مسخرة قد تنجب شفقة .. حقا مسكينة .. أي ارادة تحملها لتحتمل كل ذلك الافتراس ؟!.
في ذروة الهوس كدست البراهين لتقنعه بانه وقع في الفخ وعليه العودة لها …استخدمت المنطق لاقصى حد.. تحولت الى خبيرة جدلية … في النهاية فضلت ان تقول له (اريد اتزاوج معك لاجعلك تنسى تلك المرأة .
في نهاية الرواية تقدم الكاتبة حلا لمثل هذه الازمات الحياتية لكنه حل خاص يتعذر تعميمه .. وهو ما فعله علماء وادباء ومفكرون :دستوفسكي وماركس وفرويد وغيرهم لكنها بقيت حلولا مرحلية وقاصرة .. وستبقى البشرية لاهثة وراء الحلول .