“من الطريف أن الموسوعة البريطانية (طبعة 1979) لا يوجد فيها مقال مستقل (في الجزء الرئيسي ماكروبيديا) عن العلمانية، و لكن توجد إشارات كثيرة عنها في المقال المعنون ((التحديث)). فكاتب المقال يذهب لى أن العلمنة هي العلاقة المميزة للمجتمع الحديث، الذي يجب أن يعمل دون اهتمام كبير بالدين أو الأخلاق أو الجماليات أو اعتبارات المكانة، فتوجهه الأساسي يجب أن يكون نحو ((تعظيم الكفاءة)). و مع هذا يمثل مصطلح ((الكفاءة))، الذي يستخدمه كاتب المقال، مشكلة، فالكفاءة تتحدد في إطار الهدف و الغاية الّتي يحددها المجتمع لنفسه، فالكفاءة في المجتمع المصري القديم ـ على سبيل المثال ـ كانت تتحدد من خلال مدى النجاح في التحنيط أو بناء الإهرامات، أما في المجتمعات الغربية الاستعمارية فكانت تتحدد على أساس المقدرة على الغزو و النهب و سلب الشعوب مصادرها الطبيعية و البشرية، أما في المجتمع الصهيوني فهي لا تتحدد على أساس تحقيق العدل و المساواة، إنما على أساس مدى النجاح في قمع العرب و سلبهم أرضهم.” ـ المصدر ص 76
يسهل على المرء أن يثبت المرء عبر منطق التبرير كل شيء يريد الوصول إليه، فقد كان حكام و خلفاء المسلمين يقتلون بعضهم البعض و يقومون بالانقلابات و كل واحد منهم كان يبرر قيامه بالتغيير بحجة الحرص على الشريعة و الدين و الأخلاق، و ما أن يستتب الحكم للحكام الجدد حتى تعود الحكومة و السلطة إلى سابق العهد في الفساد المالي و الظلم و نهب الشعب ثرواته، و المسيري حينما يقوم بطرح تساؤل عن كل كلمة تطرح في المعاجم و أن هذه الكلمة لا بد و أن تحتاج إلى شرح، يدخلنا في دوامة لا نهاية لها، بل إن الدين نفسه يصبح عدميا و عبثيا، فلماذا خلق الله الإنسان؟ ـ مثلا ـ يكون الجواب اللاهوتي التقليدي هو (أن الله خلقنا لنعبده)! و عندها تطرح سلسلة لا متناهية من الأسئلة الواقعية و العبثية، فما معنى حاجة الله إلى العبادة؟ هل الإله ناقص و مغرور إلى درجة أن يحتاج إلى سجدة من مخلوق حقير صغير كالإنسان؟ و إذا كان الله محتاجا أفلا تجعله هذه “الحاجة” شيئا ماديا ناقصا؟ و إذا لم يكن له حاجة بذلك فما هو سبب فرض الدين و العبادة؟ و السؤال مرة أخرى: ما جدوى الدين إذا لم يسبب هذا الدين إلا الشقاء و العذاب و الألم للإنسان؟ من هنا نجد أن المسيري يُظهر نفسه كمؤمن بالعدمية الأخلاقية و الاجتماعية و الفلسفية، و إذا كان ينتقل من القضية الفلسفية إلى القضية السياسية بكل بساطة فلماذا لا يخبرنا بالدافع أو المخطط المنطقي الذي جعله يقف إلى جانب القومية العربية ضد القومية اليهودية؟ فإذا ما نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر دينية، فإن تلك الأرض التي يتنازعها الطرفان فيسميها العرب (فلســطين) هي الأرض الموعودة لبني إسرائيل و القرآن نفسه ُصرح بأن الله { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} هود 61 بمعنى أن كل “الإنسان” له الحق في أن “يستعمر” كل الأرض، و إذا كان مخططه المنطقي قائما على أسس قومية مناقضة للدين فإن القضية ستدخل مرة أخرى في إشكالية أن مسألة الحق ستتوقف على القوة، حينها يكون الحق قائما على القوة لا قوة قائمة على الحق (و الحق في كلا الحالتين مسألة نظرية)، و المضحك مرة أخرى هو أن العرب يصبحون محقين بالمنطق القومي “القوة” بينما يكون اليهود على باطل رغم أن المنطق القومي هو الذي يتحكم بآليات الصراع حسب المسيري.
إن العدمية و العبثية هي التي تحكم المنطق الدّيني “التقليدي” القائم على أساس عبادة الطقوس ـ الصلاة ـ الصيام ـ الحج ـ إلخ، دون أن يكون الإنسان هنا هدف الدين نفسه، و سنرى كيف أن المسيري سيسطر مئات الصفحات في الحديث عن مثالب الغرب المادي و الصهيونية و النازية كتجليات للمادية الغربية و مساويء القومية العنصرية في الغرب، ثم يرحب و بكل رحابة صدر بالقومية العربية و يدعو إضافة إلى ذلك إلى خلط القومية العربية بالإسلامية على طريقة فتحي يكن الذي دعى إلى إنشاء “حزب البعث العربي الإسلامي”!! ليخلق توافقا بين شرين، و كأن ما مر به العرب و المسلمون من كوارث لم يكن كافيا.
إن ما ينعته المسيري حول كفاءة الغرب بقوله “في المجتمعات الغربية الاستعمارية فكانت تتحدد على أساس المقدرة على الغزو و النهب و سلب الشعوب مصادرها الطبيعية و البشرية”!! لا يعدو إلا صورة من الانتقائية الشاملة التي يصم الغرب بها على الدوام، فالإمبراطورية الإسلامية وصلت إلى فترة من الازدهار الفكري في ظل ثقافة الغزو التي أنشأت الإمبراطورية الإسلامية و وسعت رقعتها على الدوام، و كان غزو الشعوب الأخرى و الاستحواذ على خيراتها باسم “الدعوة إلى الإسلام”!! أمرا مسلما به، و كانت أسواق دمشق و بغداد و القاهرة مليئة بالسبايا و الأسرى و العبيد الذين كانت تجود بهم جيوش المسلمين و قراصنتهم المعروفون بغزواتهم على السواحل الأوروبية و الأفريقية، بل إن المسلمين انتزعوا أراضي و شعوبا بأكملها و عبر الحرب و هو ما كانت ضمته المسيحية سلما و بدون حرب، و ما كانت ثورة الزنج في جنوب العراق خلال العهد العبّــاسي إلا تعبيرا عن الاحتجاج على المعاملة القاسية التي كان العبيد و الخصيان يتعرضون لها، و هو ما شهدته الإمبراطورية الرومانية أيضا و ما عانته من ثورة الثائر المشهور “سبارتاكوس”.
و إذا كان المسيري يحاول تتبع التعريفات حتى أدقّ ما كان منها، و بالتالي يزعم أن المنظّرين للعلمانية في الغرب يتجاوزون ذكر القيم “اللا شخصية و النفعية” مع اعترافهم بها ثم تجاوزهم لها عبر تعريفهم للنشاط العقلاني باللا شخصي و اللا نفعي و يبدر من المسيري نوع من الاحتجاج لأن التعريف لا يتضمن القيم و الأنماط الطقوسية و التقليدية، فالعقلاني و حسب ما يستنتجه المسيري من الموسوعات الغربية هو مادي نقيض للديني الخرافي الروحي، و هذه الصورة لا تمثل الحقيقة كاملة، فليس كل ما هو عقلاني في الغرب مرادفا للإلحادي المنكر للدين، بل إن العقلانية الغربية كانت تتصالح مع بعض المفاهيم الإسلامية، مثل الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الذي كان يحب المسيح لكنه كان يُشكّــك على الدّوام بجانبه الإلهي و كونه إبن الله أو الله، اللهم إلا إذا كان هذا على سبيل المجاز. من هنا نصل إلى النتيجة القائلة بأن للعقل الإمكانية أن يحكم حتى على ممارساته الدّينية، و علاقة العقل بالدين لا بد من أن تمتد عبر الحرية التي تتيح للطرف الدّيني و المؤسسة الدّينيّة من جهة و مؤسسات البحوث العقلية أن تتعاون لخلق مفاهيم و استنتاجات عقلانية تجد عمقها اللا متناهي مع الدين، فما معنى أن يكون “القرآن معجزة” و نصوصه ذات عمق و عجائبه لا تنقضي بينما هو في الوقت نفسه كتاب تحت احتكار المؤسسات الدّينية، الأزهر في مصر و مؤسسات السلطة في السعودية و الحوزات الشيعية في إيران و العراق، فعمق النص و مطاطيته و قابليته على إنتاج المعاني يُصبح ممتنعا بمجرد تحوله إلى رهينة مرتبطة بتفاسير محددة.
إن ما يراه المسيري من توتر في المجتمعات الغربية التي تتيح لأكثر من نمط من القيم أن تعمل داخل المجتمع و اعتباره لهذه الحالة كأمر سلبي، يتعارض مع واقع النتاج العقلي الإنساني، إذ لا يمكن إنجاز تحديث و تطور من دون المرور بأسئلة الشّك الكبيرة و التي تظهر للناقد التقليدي كـ”إنهيار حتمي للمجتمع”، فالنوع الإنساني يشبه بوجه من الوجوه الفرد الإنساني، فالفرد غالبا ما يكون مستقرا نفسيا خلال فترة الطفولة و يرى كل شيء مثاليا و متكاملا و جميلا، و لكن ما أن يقترب من سنّ المراهقة ـ الفترة الانتقالية إلى البلوغ ـ حتى تبدأ حواسه بالتقاط الواقع على حقيقته أكثر فأكثر و يستنتج عقله بالتالي صورة جديدة لمحيطه تختلف كليا عن ذلك الخيال الذي كان يتصوره و هو صغير، إذا فمسألة عقلانية المجتمع لها ارتباط عضوي بدرجة وعي المجتمع و كم الاطلاع الذي يملكه المجتمع للماضي “التاريخ” و الحاضر “الواقع” و المستقبل “الصيرورة”، فالمجتمع الذي لا يمتلك هذه القدرة من الاطلاع يصنف تاريخه على الدوام في نمط واحد، هو النمطية الدّينية التقليدية، هذه النمطية التي تحتكر كلّ شيء، الدين و السلطة و آليات الحياة، بالتالي تكون النتيجة عبودية و تبعية المجتمع للسلطة القائمة على القهر و الغلبة و الإكراه و يكون هؤلاء الحُكــّام تبعا أو لقمة بيد الخارج، من هنا نجد العقلية العربية الإسلامية تقوم بصياغة معادلات خاطئة على الدّوام تقوم على أساس أو شعار “التحرر من الاستعمار الخارجي”!! بينما الواقع يستند إلى العكس أي تحرير “الذات” من التقليد و الاستبداد و الهيمنة الطبقية و الفكرية ليصل المجتمع إلى مستوى من الوعي تمنع الشّعوب الأخرى من استغلاله و انتزاع حقوقه، بل إن الشعوب الأخرى التي خاضت تجربة مماثلة تكون على استعداد في دخول شراكة بناءة مع مجتمع متطور كهذا.