جاسم العايف
لقد فَعّل في نصوصه الأخيرة مخاطبة الآخر- لا نقصد بالآخر مثيل او نقيض الذات او الأنا المغيبة والتي تغدو بمثابة التجسيد لكل ما هو غير مألوف او ما هو غيري بالنسبة للذات الانسانية بل الآخر بصفته المصدر الحقيقي للأنا والتي لا تستطيع ان تتخلق خارجيا و ضمن نفسها فقط دون ان تتتماس به ومعه دون ان تستجيب للقوى التي تسعى لأن تشوهه دائما بقصدية ،قمعية ، طهارتها وطهارة ذات آلآخر ونقائها ، وآلاخر الذي كتب له وعنه جبار العطية وأدخله بصفته جزء من كيانه الشخصي بنزوع أخلاقي رفيع ليس (جحيما ) كما قدمه في أعماله ، بل ظلت نصوصه الموندرامية تعرضه بحميمية ومعه وعبره تَعرض مدينة يسكنها ويعيش فيها الآخر ويدمرها القصف المدفعي و ينتهك روحه و روحها ومكوناته و مكوناتها العسف والتحكم السلطوي ، ويرّسخ ماضيها في الأعماق عبر شواخصها الدالة عليها، وتختلط شقشقة “طائرالحب” في موندراما “تحت المطر”(1 ) بأصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب-المتواصلة أو المغدورين في أمكنة وأزمنة أخرى، وتعلقهم بين ثنائيات: الحياة /الموت ، الحب /الكراهية ، المقت/التسامح ، الثأر/ الغفران، النزوح/ البقاء، ويبرز النزوع الطبيعي لتشبث الضحايا بالحياة من خلال أصوات القذائف والأجواء المحيطة بالمسكن وساكنه المتوحد مع ذاكرته المتوقدة التي ستواجه الفناء في أية لحظة تسقط فيها قذيفة أو صاروخ على داره ؛ ويستحضر الحياة المدنية والاطمئنان والدعة والسلام التي تتجسد من خلال صوت طائر الحب المرعوب من دنو(طائر) الموت في اللحظة تلك. البطل في مسرحياته- مونودراماته تحديدا- تجاوز مرحلة الشباب العاصف ويتمتع بالصبر والتأني والحكمة ولا تشغله المطامع الخاصة ويتحرك على وفق أختياراته الشخصية- الاجتماعية ويواجه امتحان الخيارات الأنسانية بتوتر ؛خاصة في زمن البؤس التسعيني المغلف برثاثة الحياة اليومية ، وتغدو ذاكرة البطل مفتوحة على الواقع الدموي الذي ميز عقد الثمانينيات العراقية ووقائع الحروب البربرية التي خضع لها الأنسان في العراق ، تلك الوقائع التي هرست كل احلامه بعجلاتها المسننة وسط اصوات المدافع وراجمات الصواريخ والدبابات ، وهي تجوب المناطق السكنية الخالية من السكان في المدينة- البصرة تحديدا- خلال نزوح عام 1987 المعروف وفي موندراما”طائر الحب” يحاور الكهل نفسه و يستخدم الهاتف، ولا ثمة مَنْ يرد، و يصغي لشقشة طائر الحب(لاحظ المفارقة) المرعوب ، ويستعيد المدينة وعلاماتها الثقافية الدالة عليها-: (روائحها الشتائية) و(قطارها الجنوبي الصاعد) و(عابرها الأستثائي) و(ساعاتها كالخيول) وهي تجوب (مملكتها السوداء) و(ندبتها الزرقاء) و(حارس فنارها) الذي يعد (الوليمة للزائر المجهول) بالترافق مع (اناشيد المطر) متطامنا مع (اضواء شناشيل ابنة الجلبي) ويستخدم الكاتب موسيقى للموندراما متداخلة مع شقشقة الطائر واصوات انفلاقات القذائف للتعبير المجازي عن ثنائيات، الحب/ الكراهية، الحرب/ السلام،الأمن/الفوضى، ويبدو صوت الكهل وهو يخاطب البيت/ الوطن ،المهدد/ المستباح:
(( بيتي
منك ابتدأ الحب
ومنك وفيك آخر الحب
وبينهما يكبر العمر مزهوا
يابيتي)).
* بورتريه للراحل
لم ينعزل الراحل جبار العطية عن الحياة وحراكها ، وجدل التغيرات الاجتماعية والفكرية ، وظل متماسكاً في مواقفه وأفكاره التنويرية ، وفي المحن التي تعرضنا لها بقيَ يواجه وحشيه الماضي وبربريته ، وشراسة الحاضر وقساوته بقوة الروح الأصيلة ونزوعها للمدنية المتحضرة التي تمسكت بالسعي نحو العدالة الاجتماعية والحرية والقيم الإنسانية النبيلة والتي لم يهادن فيها او يتراجع عنها، وانطوى على ذاكرة موجَعة مملوءة بالمرارة والألم والخذلان وبقي يواجه سواد الأزمنة وأدغال الأيام ومراراتها وعتمة الواقع اليومي ومخاتلات التاريخ ودمويته ، بقوة الروح والمبادئ وحصانتها وقيمها وبثقة الرفقة التي انقض عليها (سراكيل) الثقافات ليستبيحوا كل التجمعات الفنية-الثقافية محولينها مراكز شرطة دمرت الإحساس بالحياة المدنية الآسرة التي كان الإنسان العراقي يندفع نحوها بتميز وثقة في العقد السبعيني. تحاشى جبار العطية في سيرته وكتاباته وأعماله المسرحية المتنوعة التي وظف لها كل عمره،واكلت صحته، مغازلة المؤسسات الثقافية السلطوية ومنطلقاتها وبقي في أعماله وثيماتها ينشد الحق والحرية والعدالة الانسانية والجمال متوجهاً إلى الناس الذين طحنتهم الحياة وقساوة الأنظمة معرياً المخاتلات والتواطؤات بوضوح ، أمسى فيه الوضوح سبة، وظل يفخر بوضوحه؛ لقد ذهبت إلى ضفة النسيان كل التعهدات التي قيلت في اربعينيته ومنها تشكيل لجنة لدارسة وأرشفة ما خلفه من نصوص مسرحية وبحوث وسيناريوهات وثائق نادرة تعنى بالمسرح وإقامة مهرجان مسرحي وجائزة تقديرية لمسرح الطفل يحملان اسمه- اختفت تلك التعهدات خلف ذاكرتنا التي سماتها التجاهل والنسيان أو التناسي… لم يُزحزح إرثه الذي يتجاوز الـ(75) نصاً مسرحياً ولم يعد له فضل الريادة في مسرح الطفل، اذ كتب وأخرج أول مسرحية للأطفال في البصرة عام 1961 ، هكذا إذن أقفلت ذاكرتنا وأوهنها الصمت المعتاد وهو الذي أوصى في وصيته أن يترك كرسيه فارغا في الجلسات الفنية- الثقافية وأن يصنع نعشه من خشبات المسرح ويكون كفنه من ستائره وأن تُوضع على صدره عند دفنه الأوراق والأقلام لعله يواصل رحلة البحث والكتابة في العالم الآخر.. الذي ربما سيحتفي به وبما يليق بجهوده المسرحية-الثقافية وبسيرته الناصعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ