فالنتيجة هي أن المسيري يظهر الغرب كنموذج لـ”القلق” و أن نقيضه “الاطمئنان” يكمن في مجتمعات المرجعية الدينية المتجاوزة، بينما الحقيقة هي العكس، فالغرب قلق لبحثه المتواصل و هو بالتالي مجتمع مطمئن “لأن الجميع يملك حق التفكير و التعبير و السؤال”، بالمقابل مجتمعاتنا “مطمئنة” في الظاهر طالما أن لا أحد يأتي بجديد، فلا محمد يسبّ أصنامنا و لا علي أو أبو ذر يحتج على طبقيتنا و سلطاتنا، فالاطمئنان في المجتمع الإسلامي شكلي صوري سطحي بحت و لا يملك الديمومة.
و ينطلق المسيري في حديث مطول عن تفكك الإنسان كماهية فلسفية في الغرب و تحوله إلى شيء من الأشياء و أنه يصبح جزءا من المادة و “من خلال عملية التعرية يصل الإنسان إلى حقيقته باعتباره كائنا طبيعيا ماديا ليس له حيزه الخاص، خاضع للقانون الطبيعي، و من ثم فمحاولة تجاوز الذات الطبيعية و قوانين الطبيعة و تأكيد مركزية الإنسان هي وهم لا أكثر و لا أقل” ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 80
و بالفعل فالإنسان طوال تاريخه على هذه الأرض كان يبحت عن جملة حاجات، فهو يبحث عن البقاء و الديمومة و إشباع رغباته و حاجاته و الأهم دفع الألم و الأذى عن نفسه و متعلقات ذاته، بل إن توجهه للدين غالبا ما يأتي لحاجته إلى تجاوز خوفه من الموت و كونه مخلوقا له بداية و نهاية كأي شيء آخر، و من ثم لا معنى لانتفاء مفهوم الإنسانية في الغرب ما دام الإنسان في الغالب هناك لا يحتاج إلى الآخرين إلا فيما ندر، بينما نذهب نحن المسلمون إلى الزعم أننا أكثر “إنسانية”!! من الغرب لأن غنيا من “أغنياء المسلمين”!! أعطى فقيرا مائة دولار أو ريال “زكاة”!! دون أن ننتبه إلى أن الإنسان الغربي كرامته محفوظة لأنه يأخذ مساعدة مالية من الدولة أو من منظمة و هو يحل بالتالي مشكلته من دون إهدار كرامته لشخص الغني، بينما يريد المسيري الإبقاء على “تراحمنا الصوري الشكلي” و معاناة الإنسان بإبقاء الفكر معلقا بالخوف من الآخرة، و كأن الالتفات إلى مشاكل الإنسان الواقعية يتناقض مع سعيه للخلود و الاطمئنان الروحي، بينما طبقة الحكام و الأغنياء يتنعمون بكل ملذات الحياة المادية و الدين يضمن لهذه الطبقة الحصول على الحسنيين (الدنيا و ما فيها من سيطرة و هيمنة و الوعد بالمغفرة في الآخرة)!!
يقول المسيري:
“أما فعل ((Dehumanization)) (تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية) فتعني إنكار و قمع تلك الصفات و الأفكار و النشاطات التي تميز الإنسان من غيره من الكائنات، و منع تحقيق الإمكانات الإنسانية للإنسان (في مقابل خصائصه الطّبيعية المادّية الّتي يشترك فيها مع غيره من الكائنات)، و تستخدم العبارة للإشارة إلى تلك الاتجاهات في الحضارة الحديثة التي تجرد الإنسان من إنسانيته و تحوله إلى شيء ضمن الأشياء، أي تستوعبه و تنكر عليه حرية الإختيار و المقدرة على التجاوز و تحقيق كلّيته الإنسانية المركّبة المتجاوزة للحتميات الطّبيعية المادية و للأنماط الطبيعية المتكررة.” ـ العلمانية تحت المجهر ص 80
إن المصلح Dehumanization لا يمكن له أن يصبح حكما للخط العام لتطور الحضارة الغربية، صحيح أن الرأسمالية في بداية تطورها اقترنت بتبرير ديني للتوسع، فرغم أن العلمانية استحكمت في السلطة أكثر فأكثر، إلا أن الثقافة الّتي كانت تهيمن على العقل الغربي الثقافي و العلمي كانت على الدوام تستوحي نفسها من “الكتاب المقدس” الذي صنف الشعوب على أساس الإنسان الأبيض ذو الدم أو العرق Race الممتاز و بالمقابل الشعوب السامية semi-species التي يجب أن تبقى تابعة و خادمة لمسيرة تطور العرق الأبيض، و لكن تبين أن هذه النظريات لا تستند على أساس علمي و أنها تنتمي إلى ما يسمى بـ pseudoscientific أو العلم المزيف، فإمكانيات التطور و البناء الحضاري تتجاوز العرق و اللون لتشمل كل البشر، و لكن المسألة تتعلق فقط بالظروف و البيئة التي تحيط بالإنسان و هي جملة الشروط التي يُفترض وجودها لكي يستطيع الإنسان إنجاز التقدم و عملية الوعي أنظر ((Encyclopedia of Sociology: Vol 1 P 356)).
إن العلمانية لم تكن عملية سحرية اعتباطية قررت الفصل و بلمح البصر بين الدين و السياسة، بل هي عملية بطيئة كانت و لا تزال مستمرة في البناء، فمثلا حينما كانت بريطانيا و فرنسا تخوضان الحرب مع الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918 م كانت هاتان الدولتان قد أعدتا نفسيهما للحرب و كانتا تتعلمان من أخطائهما، أما الدولة العثمانية القائمة على خرافة “الخلافة الإسلامية”!! فقد أنهكت المواطنين الذين خدموا هذه الدولة بالسخرة و الإكراه و أزهقت أرواح الملايين بسبب السياسات الحمقاء للنخبة العثمانية الحاكمة و الفساد الإداري الذي ترك الناس يموتون جوعا و بفعل الأمراض بعد أن انتزعت منهم الحكومة كل شيء يملكونه بحجة “دعم المجاهدين” و جيوش السلطان (الذي كان له ما لا يُعد من القصور و 3000 جارية عدى الزوجات).
ترى ما معنى تعبير “الإمكانات الإنسانية للإنسان”؟ و هو التعبير الذي أتحفنا به الأستاذ عبدالوهاب المسيري، إنها بالأحرى كلمات لا معنى لها، فإذا كانت مصطلحات كـ”الحرية”، “الانتخابات”، “حقوق الفرد”، “حقوق المجتمع”، “كرامة الإنسان”، “حرية التعبير” و غيرها من المصطلحات الحديثة التي تمتليء بها القواميس و الموسوعات، إذا كانت كل هذه التعابير ـ و هي نتاج العلمانية ـ لا تملك قيمة “إنسانية”!! فما هي تلك “الإمكانات” التي يُعزّيها المسيري إلى الإنسان كنوع؟ و ما هو المنتج الحضاري الكامن في خطاب المسيري؟ فالحضارة الإسلامية لم تقم على “سيوف روحية” و “جيوش الملائكة” و “سهام الأدعية”، بل كانت حضارة قوة و غلبة و لم يكن الأمويون و العباسيون و العثمانيون يختلفون عن الملاك و الأغنياء في عصور الإقطاع و الاستعمار، هذا إن لم يكن مستعمروا العالم الإسلامي أسوأ بسبب تبريرهم الدّيني لكل الظلم و الخراب الذي ألحقوه بالعالم الإسلامي.
و ما هي الصفات التي قام “الغرب العلماني” بقمعها في الإنسان حتى لا تنطلق؟ و ما هو جانب الحرية الذي ألغاه الغرب في الإنسان؟ الذي نعرفه أن الشيوعية متمثلة في الإتحاد السوفيتي السابق و الصين الشعبية و نظام كاسترو قامت بالفعل بتهميش الخيارات لدى الإنسان “الفرد” و جعلته محطما بحجة تبعية المصلحة الفردية إلى المصلحة “الجماعية”، و الماركسية ـ كما وصفناها سابقا ـ هي دين بلا إله، لأنها تحاول الرد على كل الأسئلة و تحتكر الحقيقة لنفسها و تضطهد حرية الفكر و الضمير بحجة العقلنة، و بالتالي ليس هناك مجال محجور على الإنسان في النظام الغربي الثقافي، رغم المحاولات الحثيثة للمسيري و معسكر “الثقافة الموجهة من السلطة” في نقض و ثلب ممارسة الحرية في الغرب و كل العالم، فالحرية هبة إلهية ـ حسب تعبير الرئيس بوش ـ و من ينتقد الحرية كمفهوم ينقض حقه الذاتي في حرية التعبير و أن يقول ما يريد.
إن تعبير Dehumanization لا يصف معاناة الإنسان من آثار التحديث و الحضارة بقدر ما يصف الدجل السّياسي الذي كانت تروج له أحزاب عنصرية كالنّازية و نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا و الولايات المتحدة سابقا، و الذي انتهى في أواخر القرن العشرين، إن الزعم بأن الإنسان سقط بمجرد عثوره على نفسه لا يطرح سوى تساؤل آخر، هو: لماذا نعتبر هذه الحرية في التعبير نهاية لإنسانية الإنسان؟ هل كان على الإنسان أن لا يختار التغيير و التطور فيبقى أسيرا للكهف و الغابة المطيرة؟ و هل بإمكانه أن لا يختار؟ إن الذي يجعل الإنسان مختلفا هو اندفاع الإنسان نحو التغيير، و هذا السبب نفسه الذي جعل آدم و حواء يتركان كل ثمار الجنة ليأكلا من الشجرة المحظورة.