تقــنية الإخـراج الجمعـوي:
بداهة ليست هنالك وصفة جاهزة، لمنهج إخراجي معين؛ يمكن أن يتم تطبيقه بحـذافيره، باعتبار أن الإخراج أساسا إبداع وخطاب بصري/ جمالي ، وليس بمثابة معادلة رياضية أو تركيب كيماوي؛ لكن هنالك مبادئ أساس في عملية الإخراج لحظة التعامل مع توجه إخراجي ( ما ) لكن في حالة الإخراج الجماعي؛ فالمسالة جـد مستعصية ؛ نظرا لغياب شخص معين(مخرج) يستند على قدراته الذهنية والتخيلية وتجاربه السالفة وموضعة خطط فنية وابداعية وفكرية في صناعة العرض المسرحي؛ باعتبارأن تنمية الرؤية الإخراجية عند المخرج تتطلب مجموعة أدوات تتيح له القدرة على صناعة العرض المسرحي . بحيث وإن كان هنالك شخص واحد هو المتحكم في العملية الإخراجية ؛ جوانيا. فإنه ينصهر ضمن الجماعة برانيا، وذلك لتحقيق مفهوم الفعل الجمعوي؛ وتبديد سلطوية “المخرج” لكن الجمعيات التي انخرطت في عملية الإخراج الجمعوي؛ في الغالب انطلق أفرادها والذين كانوا يشكلون القاعدة التلامذية / الطلابية / أساتذة / من منظورين [ السياسي/ الفني] ارتباطا بالتجارب التي لم تكن بمعْـزل عما ( كان) يقع في الساحة المسرحية العالمية، والتي رسختها الترجمة والتي: ترجمت أبرز أعمال كبار الكتاب والشعراء والفلاسفة الألمان إلى العربية؛ وفي مقدمة أولئك المترجمين يأتي غـوتة وماركس ونيتشة وهيكل وبريخت…(1) وكذا بروز الفكر اليساري/ الاشتراكي في العالم العربي(وقتئذ) والمبشر بالحرية والعدالة الإجتماعية والتقدم، ليس في المغرب وحده بل في العديد من الأقطار العربية؛ باستثناء ( الخليج) وهذا: في إطار الوعي بالتاريخ تأثر المثقفون والمفكرون بالأفكار الاشتراكية التي تدعو الأدباء إلى أن يضعوا أنفسهم ومواهبهم في خدمة المجتمع وهو ما سمى بالالتزام بمعنى أن يتحمل الأديب مسئوليته أمام المجتمع حتى لا يصبح الأدب والفن ترفا ينعم به الخواص ويدور في فراغ (2)مما أدى بالعَـديد من المسرحيين/ المثقفين للبحث عن بدائل إبداعية وثقافية مواكبة للثورات الثقافية و الإجتماعية والاقتصادية ، فلم يجدوا ضالتهم ومرتعهم إلا في مسرح بيسكاتور/ ستانسلافسكي/ مايرهولد/ برشت/…وخاصة هذا الأخير تـم التركيز عليه بشدة مما: كانت فلسفة الدراما الملحمية وصنعتها كأسلوب مغاير؛ قد تركت ملامحها على مجمل النتاج المسرحي (نصاً وعرضاً ) وفي ضوء حالة التجديد التي حققتها نظرية المسرح الملحمي، فقد أخذت تأثيرها على مسا رات المسرح العالمي والعربي(3) لإنجاز تصوراتهم الفنية المقرونة بالحماس والاندفاع عِـند أغلبية شباب المسرح المغربي ، بحكم أن بريشت :جعل مسرحه مدرسة للتنوير الفكري والعقلي، كما أن أحد أركان هذا التنوير الفكري هو الكفاح ضد الوعي الخاطئ وضد الإیدیولوجیة التي تستغلها السياسة. والتي تحدد مسار التاريخ لصالح البورجوازية (4) فمن هـذا التصور النظري للمسرح الملحمي؛ الذي دخل حيز التجريب، انطلقت جملة من الجمعيات لتوظيف تقنية الإيهام/التغريب/ التكسير/ اللاندماج/ الارتجال/…/ وذلك من خلال إقامة شبه مختبر مسرحي فيما بينهم ؛ لتفعيل تلك التقنيات ومحاولة تطويرها، عبر الـتـَّدرب على العديد من عناصر العرض كتقنيات التمثيل والفنيات وأساليب الإخراج. انطلاقا من النص المسرحي المقترح. هنا الإشكالية تزيد تعقيدا؛ بحيث نجد العديد من النماذج التي جربت ومارست الإخراج الجمعوي. صيغتين هكذا = (تأليف: علال/ إخراج: جماعي)أو( تأليف وإخراج: جماعي)؟ ففي الصيغة الأولى :هل الذي ألف النص؛ هو مخرجه ( عمليا) كما هو سائد في العديد من الأعمال؛ لكن تماشياً مع التيارات السياسية والأساليب الفنية ذات المنظور” الإشتراكي” يتنازل [المؤلف] للجماعة، وينصهر فيها لتصريف وتفعيل مفهوم ” الإشتراكية ” ؟ أم بحكم أن المسرح عند بريشت، ليس خادما للمؤلف؟ أم إيمانا بعَـدم قدرته على ممارسة الإخـراج ؟ باعتبارأن الإخراج كيفما كانت نوعيته ؛ فإنه يحتاج لضوابط تضبط إيقاع عمله وترسم حدوده الفنية /الجمالية ، لتحقيق ماهية التلقي للفعل المسرحي، لكن بحكم المعايشة ؛ فإن المسألة كانت رهينة ؛بالمقام الأول: باختيار أبرز عضو في الجمعية أوأحسن ممثل له تأثير قوي في إدارة المجموعة وتسييرها. تسند له مهمة الإخراج (تنسيقيا) بالمجموعة ؛ ليشغل أدواته الحسية والإبداعية لخلق مشاهد وصورة فنية / جمالية ؛ تخدم تجربة الجمعية ابداعيا / سياسيا ، وللقضاء على مفهوم النجم وسلطوية المخرج ،علما أن العديد من أفراد الجمعية يتوفرون إما على موهبة ، أوعلى مقومات لامحدودة من الأبتكاروالإبداع ؛ وبالتالي يتأطر الإخراج في إطار” جمعوي” عمليا؛ ومن خلاله تتم ممارسة التسييس؛ والطموح لتحقيق رياح التغيير عبر المسرح كما بشر < بريشت >: كون مسرح بريخت مسرح تغيير ونضال يجعل منه أداة فعالة لمواجهة النفوذ الإمبريالي في العالم الثالث ومناهضة الاستعمار بأشكاله الإقتصادية والثقافية والسياسية (5) دونما إغفال ما طرحه المخرج اروين بيسكاتور/بيتر فايس/…/ في تقنيات ومفاهيم المسرح السياسي. على وجه التحديد ، مِما تغـَذت الأجواء المسرحية بروافد جديدة . ارتباطا بالانفتاح الثقافي والإبداعي ، على بلدان أوروبا الاشتراكية وتنوعت الثيمات والأشكال والصراعات والتجارب ، بحيث تصدر الصراع الطبقي الأولوية، بوصفه عصب التحول الاشتراكي بكثير من اهتمام. وبالتالي فكان الفعل الجمعوي هو الأس في تلك الجمعيات؛ من هنا كانت الصيغة الثانية (( تأليف وإخراج: جماعي )) لها حضور قوي في المشهد المسرحي، فكان الارتجال/ التحاور/ النقاش/ من السمات الغالبة بين أفراد الجمعية؛ مما كان يستغـْرق العمل شهورا عـدة. تجاه ( فكرة) طارئة أو تم طرحها سلفا، وكثيرا ما كانت صياغة الإخراج تتعدل بين منسق ومنسق آخر. ومن هذا المنطلق نرى أن التغيرات في البنية المجتمعية والعلاقة المتبادلة بين الأفـراد تؤثر على الإنتاج الفني بشكل عام. ولا غـرابة بأن المسرح ألصق الفنون بالمجتمع؛ وحاضن لروح الجماعة في بنيته . وتبدو ظاهرة الإخراج الجماعي أوضح ما تكون في هـذا المضمار، لكن ليست كل الجمعيات مارست الإخراج الجماعي ، لأسباب تتأطر فيما هُـو سياسي صرف.
بين المشاهَـدة والـوثيقة :
كما أشرنا بأن الإخراج الجمعوي من الصعْـب الإمساك به ؛ لتحليل ميكنزماته ومدى المطابقة النسبية للاتجاه الإخراجي المعتمد عليه ، نظرا أن الإخراج يرتبط بنسج خيوط الفرجة وعملية التمسرح ؛ لكن انعدام التوثيق للحركة المسرحية في فعلها الجمعوي؛ يصبح تاريخا منسيا أو متناسيا، لما قام به بعض الشباب والفعاليات ، باعتزاز دونما طمع في أي شيء . يعُـوق البحث ومنهجية العمل؛ والتشكيك في بعض الإشارات الواردة هنا وهناك بحيث: والحال أن التزييف والتضليل الذي بدأ يطال الذاكرة الجماعية لتاريخ المغرب المستقل عموما، وتاريخ العمل الجمعوي خلال العقد الأخير من القرن الماضي، مع التكاثر العددي لمنظمات الشباب وتنوع تلاوينها؛ أوحى لأقلام متهافتة ومتجاهلة أوجاهلة بحقيقة الإرث الجماعي باستلهام الكتابة، في هَـذا الشأن، بشكل تمخضت عنها صياغة تاريخ مشوه يلغي الحقائق ويعرض الأراجيف، ويهيل على منجزات الشباب (6) وخاصة الذين يتكلمون عن تاريخ الحركة المسرحية الهاوية ! يقفزون على ظاهِـرة الإخراج الجمعوي ، إما لجهلهم بها أوخوفا من ملامسة الواقع السياسي( السبعيني) بعلاقته بالمسرح؛ ولاسيما أن الظاهرة كانت انعكاسا موضوعيا لعناصر الحياة السياسية والابداعية والاجتماعية ؛ للعَـديد من التنظيمات السياسية ذات طابع يساري والتي كانت تشتغل في السر؛ لتحقيق رياح التغيير، حـسب منطلقاتها. فاتخذت من المسرح واجهة نضالية لترسيخ مفهوم الصراع الطبقي ؛ ومدخلا للاستقطاب الشبابي( آنذاك) ومن أهم المدن التي تمركز فيها الإخراج الجمعوي مراكش/ فاس/ الخميسات/ الدارالبيضاء/…/ لكن كما أشرنا ؛ بأن المنطلق لتجربة الإخراج الجماعي ترتبط جدليا بالمسرح الملحمي وبالواقعية الاشتراكية؛ بعد [الهزيمة العربية 1967] نجد في مدينة وجدة ظهور الظاهرة من خلال نادي الكشفية الحسنية التابع مع لجمعية ( سيدي بوبكر) والتي كانت تابعة لنقابة للاتحاد العام للشغالين ب: عمل مسرحي قصير بعنوان ” بايزا” سنة1967 من تأليف ميري عزالدين واخراج جماعي (..) وفي سنة 1982 وقع سوء تفاهم بين أعضاء الجمعية بسبب انحياز بعْـض أعضائها المطلق لحزب وطني كان من نتائجه ان تغير اسمها الى “جمعية الشعلة للمسرح والفن” بعْـد ان انسحب منها ،بعـض الأعضاء… واصل إبداعاته بإعْـداد مسرحية ” كوريولان” عـن برتولد بريخت واخراج جماعي ، في نفس السنة . وبفضل النجاح الذي لقيته انضم إلى الجمعَـية ؛ رواد آخرون من الشباب المتحمس وأغلبهم من الطلبة والتلاميذ (7) هنا يمكن أن نتساءل كيف اخترق الإخراج الجماعي الجمعية إلى نادي الكشفية؟ منطقيا أنه تسرب من الجزائر؛ بحكم الجولات التي كانت تقوم بها الجمعية هناك؛ علما أن الإخراج الثنائي والجمعوي مارسته أغلب الجمعيات المسرحية إبان الاستعمار وبعده ؛ متبنية الواقعية الاشتراكية في أعمالها. فحتى المحترفين مارسوا الإخراج الجماعي نموذج مسرحية (المائدة) لعبد القادر علوله سنة 1972 .
إذن بحكم التقارب الحدودي؛ والتأثير والتأثر الإبداعي بين الأفراد، نجد جمعية برومثيوس والطلائعي للمسرح سنة 1976 يتعاملان مع الظاهرة : وكان العرض يحمل عنوان “الكراب والديمقراطية” وهو عمل جماعي …والسنة الموالية قدمت الجمعية مسرحية ” مأساة الأشباح الحية من تأليف ع العزيز بنيس وإخراج جماعي (8) والعجيب أن المسرح الأمازيغي؛ بمنطقة ( الناضور) تبنى الظاهرة، ولكن بشكل محتشم ؛ ومن خلال الأسطر التالية ، يمكن للقارئ المفترض أن يستنتج بعض الخيوط المرتبطة بالإخراج الجماعي؛ في المنطقة بحيث تم تقديم : مسرحية ( إیرحاگد أمیثناغ ( [وصل ابننا ] :عُـرضت ھذه المسرحية سنة 1978 في میضار والعروي وزایو، وقدمت كذلك لصالح عمال مناجم الحَـدید وعمال شركة السكة الحديدية ” سیف ریف” بوكسان… من تأليف وإخراج جماعي، وقد أعِـدت في إطارجمعیة ” أھْـل الدربالة”. (…) ومسرحية (إیھواد أوكامپاوي غاپاساپورتي)[ذهب القروي إلى المدینة للحصول على جواز السفر] :عرضت سنة 1979 بقاعة العروض بمقر الاتحاد الاشتراكي و كذلك بسينما الریف بمدينة الناظور، من تأليف وإخراج جماعي. وقد تبنت جمعیة” زریاب للموسيقى والمسرح” (9) لكن الظاهرة تشعشعت وتقوت وتطورت في العديد من المدن؛ التي تمركز فيها اليسارالمحضور” آنذاك” لكن ما لفت انتباهي أنه بمدينة [ العرائش] سنة 1969-1970 – برزت الظاهرة مرة واحدة من طرف (جمعية شبيبة لوكوس للمسرح ) بمسرحيتين ” للاخيتي ” و” للاشويكة ” تأليف حسن لمراني/ إخراج جماعي (10) للعلم أن الجمعية كانت تابعة لحزب الاصلاح الوطني؛ ولازالت تلك النزعة حاضرة رغم اندماج الحزب بحزب الاستقلال سنة 1956؛ لأن الفنان لمراني أحيا الجمعية بعْـد رجوعه من إسبانيا “الفرنكوية” فربما تأثر بالورشات المسرحية التي تدعو للعمل الجمعوي؟ أو ربما المسألة وردت عرضا وعفويا ؟…… [ يتبع ]
الإســتـئـناس :
1) صفحات خالدة من الأدب الألماني من البداية حتى العصر الحاضر- وخاصة (ص 623 إلى 680)
لمصطفى ماهر- دار صادر – بيروت /1970
2) المسرحية بين النظرية والتطبيق :لمحمد عبد الرحيم عنبر ص219- الدار القومية /القاهرة: 1966
3) ملامح الملحمية في النص المسرحي الأردني (نماذج مختارة)- (دراسة جماعية) في مجلة:
دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية- ص 281- المجلّد 48 / العدد 3- ملحق 1/2021 / الجامعة الأردنية.
4) نظریة المسرح الملحمي لبرتولد بریشت- ترجمة جميل نصیف،ص81 دار الحرية للطباعة بغداد 1973
5) آثر برتولـد بريخـت في مسرح المشرق العربي للطالب: الرشيد بوشعير ص64 أطروحة لنيل
الدكتورة من جامعة دمشق/1983
6) العمل الجمعوي بالمغرب التاريخ والهوية ص4/5 منشورات الجمعية المغربية لتربية الشبيبة
سنة 2004 أعدها للنشر حسن أميلي
7) الحركة المسرحية بوجدة: لمصطفى رمضاني (انظر- ص75- 79) منشورات كلية الآداب/ وجدة
رقم15/1996
8) نـــفـــســــه – ص112
9) ببلیوغرافیا العروض المسرحية الأمازيغية المتعلقة بمنطقة الریف: لجمیل حمداوي صحيفة دنيا
الوطن في- 29 / 05 / 2007
10) انظر لكتاب: هذا الذي نسميه مسرحا لعبد المولى الزياتي ص132 مطبعة طوب بريس – الرباط
ط 1/ 2002