مخزن مكتبة
امام غرفته في العلية التي كان يسكنها تقع الغرفة المخزن المتربة ..اجهزت السنوات على لون بلاطها فتسللت الارضة واصفر بياض الجدران وتبعثرت الحقائب والكارتونات المثقلة باجود الكتب تنوعا وعمقا من يتمكن من فتحها ربما يسلط الضوء على مساحة ما في تلك العقلية المبهمة . ولندرة تلك الكتب في الاسواق تدرك ان صاحبها قد بذل مجهودا مضنيا في جمعها ..انها مقبورة الان حيث لا يمسها الا الغبار وحفظة الاسرار. في احد الايام التقطت منها ديوانا للشاعر التشيلي بابلو نيرودا (حجر من السماء >..وقرات هناك مسرعا قصائد قصيرة بعض ثيماتها تتقارب مع مواضيع البريكان < الصخور > ,وقد طبع ذلك الديوان اخر الستينيات من القرن الماضي في فترة مقاربة لكتابة البريكان(سمفونية الاحجار ) و ما تناوله في شعره عن الصخور في كتاباته بعد ثلاثة عقود…قلت في نفسي ساعتها:لابد ان البريكان قد قراه في زمن صدوره وربما سيتهمونه بالسرقة او التاثر …بعدها نزلت بالكتاب..وحين راى العنوان وقرا قلقي قال (سيقولون تاثر بنيرودا وانت تعلم جيدا اني محصن ضد عدوى التاثر م) سالته :يزدحم ديوانك بالاحجار ؟. اجاب: (عندما غادرت الكويت وصلت سوريا وقصدت لبنان هنالك شاهدت احجارا غريبة كانها معدن بالوان كحلية وازوردية واشكال غريبة .. جذبتني اليها وعملت سحرها في كياني .. تصور منذ متى قلت في احدى قصائدي <المجد المجد للصخر الذي ليس له معنى > ..الصخر باق ونحن الزائلون ايعقل ان يفنى الانسان بكل ما فيه ويبقى الحجر الاخرس م)ارى ان هاجس الموت والخلود والقسوة امام رقة الانسان احد الدوافع للكتابة عن الاحجار..يحتوي المخزن المكتبة على اهم المجلدات في اللغتين العربية والانكليزية :في الفلسفة والنقد والموسيقى والفن والعلوم والتراث واللغة وحتى ما لم يخطر في بالك من الاهتمامات .. ولم اجرؤ على فتحها الا قبل اغتياله بسنتين : ولقد صدمت حين فتحت تلك الحقائب ..كانت المجلدات كانها توا برزت من المطبعة هناك تصفحت مجلدا لسبينوزا في الانكليزية و قرات فيه صدفة (العالم تصوري )ونزلت به فلما راني برقت عيناه تعجبا وقال بادب (كيف وصلت للكتاب)..واضح انه حريص على كنوز حقائبه ولا يتمكن احد من الوصول اليها ..لان فيها كنوزه ومغذيات افكاره العميقة وجهده في الحصول اليها : (كنا نقضي ساعات في شارع المتنبي بحثا عما يطفيء لهيب الفكر او يزيده اشتعالا وذات يوم اصابنا عطاس بين ركام الكتب فقلت لصاحبي متندرا وانا ابتسم <اصبحنا نزكم من رائحة الكتب > م ) << البريكان يستخدم الضمير \نا \ في الحديث ويقصد نفسه >>..(انا اكبر شمام في العالم ـ وهو يبتسم ـ م) ..لم يكن الحصول على هذه الكتب بالامر الهين فبعضها يتم طلبه من خارج البلد..فتصل عبر الاصدقاء او عبر البريد قبل ان يصاب بجرثومة التلوث وهناك واقعتان توضحان حرصه على الكتاب ..:عندما وجدت رواية المحكمة لكافكا وكنت متلهفا لقراءتها , كانت اوراقها ملتصقة ببعضها .. حاولت فصلها فمنعني ..فاندهشت فقال (فسرها كما تشاء لكن ارجوك لا تفتحها <احب ان احتفظ ببعض الكتب هكذا كأنها ظهرت من المطبعة توا م…) وفي سنة من اعوامه الاخير كلفني ان اقتني له رواية ماركيز <مائة عام من العزلة )واوصاني ان تكون بطبعة فاخرة ونظيفة ..(كنا نتبادل الكتب والاسطوانات في زمن يحترم فيه مستعير مستعارا م ).ولعبت الصدفة دورها لاشهد لقطة عجلى من احد دواوينه ..ذات يوم اريته قصيدتي القصيرة <حارس الجثث > قراها فاسرع من الهول الى غرفته واتى بدفتر صغير, اوراقه البيضاء مصفرة وقد غلفه بعناية وكتب حروفه بخط انيق وربما كان لون الغلاف سماوي .. ثم وضع يده على الكتابة ليظهر منها عنوان قصيدته <حارس الاموات >.. ان سبب الانفعال في تلك اللحظة هو شعوره بالسبق (لا يفاجئني شيء في الشعر العراقي فقد جربت كل شيء م )…
كان الاقسى على الروح هو ما فعلته الارضة في غفلة فاجعة ..كانت قد شوهدت الكثير من الكتب والمجلدات وكانها تسخر من قوة الفن والادب التي لا تمحى .او ربما طرقت جرس الانذار احتجاجا على اهمالها ..سيتوقف البريكان عن شراء الكتب ..سالته فاجاب (لو اتمكن من قراءة ما عندي) .في فترة لاحقة استقدم البريكان فرقة مكافحة الارضة بعدما استفحلت وشوهت حتى الاطارات الخشبية الثمينة … قصدته عصر يوم فوجدته محشورا في غرفته السفلية التي سيفنى فيها غدرا ورائحة البيت تشوش حاسة الشم وقد احكمت الكثير من النوافذ والفجوات: ان مكافحة الوان معينة من الحيوانات والحشرات هي نوع من الحروب التي تتطلب الاستعداد والمكر والتخطيط والخدعة ..خلال تلك الفترة <هجوم الارضة >تكلمنا كثيرا عنها وطرق القضاء عليها وعن اتربة الغرفة قال (كتبت عنها ـ يعني الاتربة ـ ) لعله يشير الى قصيدته \ التصحر\ وجوابا على سؤال كيف تجتمع الفوضى في المخزن المكتبة مع حب النظام والاناقة لديه .. قال (بسبب القصف في سنوات الحرب الايرانية ـ العراقية اضطررننا الى التنقل مرارا ما دعانا الى حزم الكتب والسلع والتخلص من الاوراق والاقتصاد بها (الاوراق فاتكة ان لم تقض عليها تقضي عليك م) ولقد شهدت تلك المرحلة وهي تدنو من نهايتها وكلفني باستئجار بيت له فاخترت منطقتي لان القصف بعيد عنها .. واصبح البريكان جاري .. وفي زيارة له علمت بان لصا اقتحم المنزل ليلا لكنه لم يتمكن من السرقة .ثم عاد الى بيته في منطقة العباسية .ذلك المنزل الذي دخلته بعد الفقد في لقاء تمثيلي اجرته معي احدى الفضائيات ورايته قد تحول لمخزن تجاري ..ربما لفترة وجيزة.<.يتنفس فيه السكون >..موقف فاجع تمنيت بعده ان لا اكون فيه .