
ينظر بعينين تبرقان، مزق رغوة الصمت على الأفواه المغلقة ، لا يحب السكون ولا يعشق كثرة الكلام، صرخ بلا حنجرة فهز الجوارح ، ولو نطق بلا لسان لأنصت له الماضي والحاضر معا.
اعتصر الأزمن لعله يمسك بيديه نسغ الحياة ويقع على سرها العميق ، الشاعر الذي خط فوجم كل من تلا ما خط ، الشاعر الذي ألقى الشعر من اعماق قلبه فاهتزت لسماعه القلوب، المبدع الذي تباري ابياته ما وضعه الاوائل الكبار، ومن ذا الذي يصل الى معنى مثل هذه القصيدة التي تزين ديوانه الجديد تحليق في فضاءات معتمة:
(محتوى رأسي )
الرؤوسُ التي لا تَحْمِلُ في داخلها أنثى
ترفعُ في وجهِ الحربِ عوراتِ الهزيمة
هذا ما تبوحُ بهِ الفراشاتُ كلَّما رقصتْ على كتفِ الصباح
وأنا الذي سَبقْتُ ,,غابي,,
وأشرتُ اليكِ بأطرافِ القصيدة
تاركاً خلفي كلَّ الأمنياتِ الملتوية
مختصراً كلَّ الكلماتِ التي تأنَّقتْ بوصفك
حتى وأن داهمني صداعٌ طارئٌ
وضعتكِ عثرةً على سلّمِ إهمالي
تيقّنتُ وجودكِ في رأسي كحقيقةٍ واحدة
أنَّ القلبَ مجردُ خادم ٍ مطيع
وإنّكِ على مقاسِ عقلي…
ينتمي الربيعي الى مدرسة الشعر العربي الأصيل ويميل دوما للتجديد دون ان يحيد عن الاصالة ، ذلك الذي لا يعرف التكلف والإطالة ويتجنب دوما المزوقات اللفظية والكلمات الرنانة، ويحفل دوما بالمعنى العميق والموسيقية الحالمة.
شعر مطلعه مثل متنه كخاتمته، صدر البيت يتلألأ مثل عجزة ، نسيج واحد من جمال ، حتى انك لا تستطيع ترك القصيدة دون إتمامها لفرط جمالها ومحاولتك فك الغازها وانت متلذذ بروعة ما تطالع.
اديب اتخذ له موضعا يجاور الكبار دون ان يقلد احدا او يسير على خطى احد، فكان نسيجا قائما بذاته.
إن الموهبة الربانية في عالم الشعر ، تصنع شاعرا متمكنا ، أما ما يخلق مبدعا بهذا المستوى فهو عشقه للغة العربية، مفردات ونحوا والفاظا، ذلك العشق الذي ولج قلبه طفلا ، فتلميذا وطالب جامعة.
قدم الشاعر نصوصا شعرية وجدانية تقوم على التكثيف الدلالي والفني والمعنى الايحائي انسجاما وحركة العصر، وهذا يعني توفيقه في تحديد ماهية نصه الومضي واستيعابه العميق لمحدداته المنحصرة في التفرد والتركيب والايحاء والترميز مع احتفاظ بالوحدة والموضوعية.
نصوص تحمل الدهشة وتركز على المعاني معتمدة على الايجاز الحافل بالمضمون والرمز الذي يقبل التأويل، وهي نصوص وومضات دائمة التخلق بقابليتها على التحرك في الزمان والمكان بسبب طاقتها الفاعلة المتولدة في ذاتها النصية، كي تستفز العقل وتنبش المكنون الفكري للمتلقي..
دواوين.. وكلمات ليست كالكلمات.
ما بين ديوانه (طرائد الشمس) ومرورا ب(تحليق في فضاءات معتمة) ، وليس نهاية بديوانه (انا اخر من لوح لليل)
ستدرك ان الشعر العربي لم يزل بخير، وأن الطارئين على الادب ليس لهم من موضع حقيقي في عالم الشعر ، ذاك أن القصيدة المترفعة بجمالها، الباسقة بمعانيها، المتكاملة بنسجها وحبكتها وحكمتها ودلالات رمزها، سوف تجدها في هذه الدواوين فحسب .
قصائد تحير بأيها تبتديء، وايها احلى وأيها اجمل،
ستطالع (وصايا الصدف) ، وهي محمولة على( أطراف الملائكة) ، تحلق في (حرية الالتواء)، ستبكيك (خيانة الجدار)، ولن تجلدك (سياط الرحمة) وانت تطوف حول (أعشاش الرغبة)، بل ستأخذك (رغبات متوحشة) نحو (بيعة الرماد)..
سعد
سعد الجصاص
الشاعر الذي تناولت تجربته الشعرية الفريدة أقلام كبيرة فريدة مثل
منذر عبد الحر، وطالب المعموري، ياسر العطيك، سعد الساعدي، عبد الحسين الشيخ علي واخرون بالنقد والتحليل والتبحيل ، لا لشي الا لأن دواوينه تماما مثل حديقة فيها الف زهرة من نور، تهب الأنفاس ما تشابه من عطور :
عبثاً نموتُ ….
شظافنا في ألفِ فِكْرَةْ
مَنْ قالَ وهماً
أغرقَ الناجي لشكره ْ
قالَ الشبابُ اليومَ أنَّ الفتحَ آتْ
كيْ يكشفَ الإبهامَ منْ وجهِ الطغاة
ونرتدي الأكفانَ إذْ
ما قدَّ فينا الصبرُ صبره
بعنا لها الأرواحَ متكئينَ زهرا
ولقد علمنا
إنتماء الأرضِ لا يعني ممات
ما طافتِ الأحزان فينا
والضحى الدامع يجري في المجرّة
وفنارٌ للحروبِ
سكرةً تدنو لسكرة
فدمُ الثوّارِ أفتى بالسلام
ناطقاً أكسيرَ ترنيمِ الحياةْ
أيّها الثوارُ يا معنى الخلودْ
جمعتْ فيها بنيناً والبناتْ
حتماً ودون الشك
ان الظلمَ موج ٌ
قد تناسى صبرنا للظلمِ صخرة
ان منْ ركبَ الشهادةَ
قادها من دونِ مُهرة
هاهو الشاعر ينفث الأرض أمامه زفير الحوادث ، فيتأمل نبض الحياة فيها ، يتفرس في وجوه الحوادث ليعلم الصادقة والكاذبة والمفتراة، يتطلع الى الوجوه ليعلم المحزون والفرح ومن يتبسم وفي فؤاده ألأف سهم ، بتطلع نحو قصته المرصوصة عند جدار القلب فيكاد أن يذوب ذلك الجدار ويتلاشى الحد بين الكتمان والبوح ، ويتجسد الوفاء ونكران الذات حين يصنع للأمل كوخا من الأضلع، يستمد فيها الدفء من سعير ثورة تتقد ولا تخبو !
ويقول في رائعته (عزف الرصاص) :
جارُنا الذي أحبَهُ الربُّ
حيث جعلهُ عقيماً
فهو الوحيدُ الذي لا يجهلُ مكانَ قلبِه
عندما يعلو صوتُ الإنفجار
أو عندما تعزفُ الشياطينُ على طبولِ الحربِ المفاجئَة
كثيراً ما يبللُ سخونةَ أعصابِهِ بصبرِ الجدرانِ الباردةِ على قساوةِ الزمن
يلقبونهُ (أبو غايب)
الغائبُ الذي لايستحقُ هذا الوجود
الغائبُ الذي ينتظرهُ السُّراق
الغائبُ الذي استعدتْ لنهشِ لحمهِ انيابُ المحن
الغائبُ الذي يحتضنُ الخوفَ
الغائبُ الذي غصَّ بطعمِ الموت
في وطنٍ يبتلعُ أبناءَهُ
بكلِّ المسميات
حتى يثبتُ للجميعِ قداسةَ وحدتهِ
الممتلئةِ بالفراغ الصائب.
تتداخل الأزمنة والاماكن
ها هنا بشكل مدهش غريب ، ومتى كانت لهواجس الموت والوحدة من موسم وزمان ، ومتى كان للحب من يوم ميلاد وهو كائن وان لم يولد، لكنه لن يموت ، شمس حتى وان لم تتقد لكنها لن تنطفيء، سرّ تداخل فيه الماضي والحاضر ، والقادم والبارح ، واليوم والأمس ، لا لشيء الا لأنه صادق ، شعور لا ينبغي عليك أن تفهمه بل أن تتعلق به فحسب ، وشعر يتحدى اللحظات الشاهقة وتلويحات الغربة والفراق، تريد عبره أن تحتفظ باللحظات الكبيرة.
ان رحيم الربيعي ليس بشاعر عراقي فحسب، بل ظاهرة شعرية تستحق التأمل والدراسة بعمق، والوقوف طويلا ليس لصورها الشعرية الباذخة او تراتيلها الحالمة وكلماتها الساحرة،بل لشي اكبر ، لانها عراق يمشي على قدمين، لشاعر عشق عراقا يود ان يظل سائرا على قدميه، وان حمله على ظهره، حتى يتماثل للشفاء، ويعود راكضا يسابق الزمن، نحو شمس تنتظره في أفق قريب.