إنَّ رِثاءَ الآخَر لدى الشاعرة ( عهود عبد الواحد ) وقد اتَّسم بصدق العاطفة , وعمق الأسى , وصدق الموقف الشِّعوري , وبالأخصِّ فيما يتعلَّقُ برثاء زميلها ( الشاعر فاروق الحبوبي ) , وندب الذات ,والأصدقاء , فالذاتُ تقطرُ حزناً و ألماً على مصابِها النَّاتج من شعورها بقرب لحظة الموتِ منها , لذلك التجأت إلى رثاء ذاتها بالتَّفجُّعِ والبُكاءِ ، الأمرُ الذي ازداد حرارةً وغُصَّةً مع ندب زميلها خاصَّةً وأنَّ القدرَ قد اختارَهُ , واختطفَهُ بعيداً عن أحضان محبيه , فكان لذلكَ الموقف جُرحاً غائراً تركَ أثراً عظيماً في نفسهِا , إذ ترثيه بألفاظٍ تدلُّ على مدى الحزن العميق الذي خلَّفهُ ذلكَ الرَّحيل في قلوب أهلهِ ومُحبيهِ , فذكراهُ وطيفُهُ لا يأبى مُفارقةَ مخيَّلة الشاعرة , فقد كان في حياتهِا كظلها من كثرة التردد على المكان نفسهِ كلية التربية بجامعة كربلاء المقدسة , ولكن آنَ الأوانُ أن يرتحلَ إلى مكانٍ آخر حيثُ الرُّقادُ الأبديُّ , إلى قبرٍ مبتهج تنفصلُ فيه الرُّوح عن الجسدِ كما ينفصلُ السَّيف عن الغمدِ , وقد عبَّرت الحروف عمَّا بداخلِها فهي تتأوَّهُ على فَقْدِ الشاعر فهو زميلها الذي تركَها بعيداً ، وتستعرضُ عدداً من صفاته الجميلة والرائعة التي تعتقد بعدم الوفاء لما قدمت من قصائد للموتى , فنراها تقول : ماذا تعني لي المراثي ؟حينَ يستبدُّ بيَ الألم لفَقْدِ عزيزٍ من أحبَّةٍ ، أو إخوةٍ ، أو أصدقاء يجري الشِّعْرُ في دَمِي باكياً وأهرعُ الى أوراقي لتدوينه ؛ لعلَّ القوافي تُخْرِجُ العَبْرَة من قلبي وتكفكفُ دمع عيني ، وهَا هِيَ القصائد التي كتبتها عند سماعي بموت أصحابها عسى أن ترفرف على قبورهم وما زال الماء الذي رُشَّ على تُرَابِهِمْ لم يجفّْ بعدُ .ولو كنتُ قد أمهلتُ نفسي وقتاً لكانتْ أبياتي أجمل ولا ريبَ عندي في ذلك، ولكنِّي أجدُ الأبيات تغيثُ قلبي الجريح فتكون بلسماً له وتخفِّف شيئا مِنْ أَسَاه .فهذه ليست حروفا بل حسراتٌ كانت ريشةً رسمتُ بها مآسي الفقدِ ، مدادُهَا دموعٌ صادقةٌ ذرفتُهَا على أشخاص تركوا في نفسي فراغا لا يملأه إلا إعلاءُ ذِكْرِهِم ونشرُ فضائِلِهِمْ فكانت أبياتي خالصةً لأرواحِهِمْ الزَّكِيَّةِ ، عسَى أنْ تفيَ بشيء من حقِّهِمْ عَلَيَّ , فنراها تقول في رثاء الدكتور فاروق :
أتانا الموتُ يسرقُ كلَّ فذٍ
وكان بســــاحةِ العليا يحومُ
وهذا اليوم قد ثلمَ المعالي
وقد بكتِ المحافــلُ والعلومُ
أبـ(ا لفاروق )تفجعُنَا وذَا مَنْ
لــــهُ في كل منقبةٍ قدُومُ ؟!!
بكَتْهُ مواقفُ الكُرَمَا وقالتْ :
أبِــــيٌّ عالمٌ ثقــــةٌ كــــتومُ
تُزَانُ بهِ المناصبُ والمَعَالي
وتَرْجُوْهُ كمـا تُرجَى النجومُ
رأيتُ الدرسَ مُنْتَحِباً حَزِيناً
وسـاءَ صَبَاحَهُ ذَاكَ الهُجُومُ
ويمكنُ أن تُعَدُّ العاطفةُ التي اتَّشحَ بها النَّصُّ في ضمن ما يُسمَّيها النُّقَّادُ ﺑ “عاطفة الوفاء ” إذ تعني عندهم عرفانَ الجَّميلِ وحفظ المودَّةِ التي كانت تربطُ الشاعرَة (عهود عبد الواحد) بالمرثيِّ الشاعر والأستاذ الجامعي الدكتور ( فاروق الحبوبي ) , فالعاطفةُ الحقيقيةُ التي تُفجِّرُ ينبوعَ الرِّثاءِ الحق , إنَّما هي عاطفة الحزن , والأسى , والحرقة التي تستولي على الشَّاعرة , فتذوبُ لها نفسُهُا شعراً , فيتَّشح بالسَّواد , وتبلِّلهُ دموعُ الأسى والحرمان, إذ يصدرُ خطابها إلى شخصٍ انتهى به المطاف إلى مسافات بعيدةٍ , وفي النَّصِّ إشارةٌ عابرةٌ إلى شاعريَّة المرثي فهو ليس ممَّن جعلوا المالَ والجاهَ جُلَّ غاياتهم واهتماماتهم , بل اجتهدوا في كتابة الأشعار وألف مجموعة من المخطوطات التي لم تر النور بعد لتكون هي خيرَ مَن يُدخِل على نفسِهِ النَّشوةَ والافتخارَ لحظةَ موتهِ ؛ لأنَّها تُمثِّلُ الإرث والإرث الحضاري والفكري للذات المرثية في نفوس القرَّاء ومتذوقي الشعر, وقد ذكرت الشاعرة بعض صفات المرثي عندما عين عميدا لكلية التربية / جامعة كربلاء , واتسم بالتواضع والنزول إلى مستوى ابسط موظف في الكلية , كان طيب القلب يساعد الجميع ,ويسامح الكثير من أصحاب النفوس المريضة التي كانت تتصيد بالماء العكر فعبرت الشاعرة أجمل تعبير في الرد عليهم في بيتها الرائع : ( تُزَانُ بهِ المناصبُ والمَعَالي وتَرْجُوْهُ كمـا تُرجَى النجومُ), ثم تسرد لنا صفاته الأخرى , فنراها تقول :
رأيتُ سماءَنا تبكي عليهِ
وتُذْرِي الدَّمْـعَ هـــتَّاناً غُيُومُ
ولوْ نفعَ البُكَاءُ لَسَالَ نَهْرٌ ،
وَمَـا خَفَّتْ لنَــا أبداً هُــــمُوْمُ
ولكنْ لا اعتراضَ على عَليمٍ
سيُبْقِي الذِّكْرَ إنْ غابتْ جُسُومُ
تَهُبُّ رِيَاحُ سِيْرَتِكُم فيشْذُو
أثيرٌ مِنْهُ تَنْتَهِــــــــلُ الحُلومُ
فَعِشْ يا خيرَ (حَبُّوِبي) سَعِيْداً
جِنْانٌ مِنْ مَناقبـكُمْ تــــدومُ
إنَّ الشاعرة ( عهود عبد الواحد ) في موضوع الرِّثاء التزمت معنى الرِّثاءِ القديم , ولم تخرج عن محور القصيدة الرثائية , أمَّا صفاتُ المرثي فقد ذكرتها بصورة جميلة ومعبرة عن ثقافتِها بين النَّاسِ , فضلاً عن ذلك فقد أكثرتَ من معاني البُكاء والتَّأمُّل والحكمة التي تُصاحِبُ دلالةَ الرِّثاء , فضلا عن قدرتها الفنية في رسم القصيدة بريشتها الشعرية , ولديها أسلوب جميل ورائع في كتابة القصيدة الرثائية , وجاءت خاتمة القصيدة معبرة عن أساليب بلاغية جميلة وألفاظ الحزن والشجن , وهذا ما عودتنا عليه الشاعرة الكبيرة والمبدعة ( عهود عبد الواحد ) في قصائدها كلها , فنراها تقول :
ويا أحباب فاروقٍ هلـــــــمُّوا
وهبُّوا للصَّلاةِ لهُ وقومُــــوا
ترفَّق خالقي واجعلْ رضاكَ
على نبـــعِ الأُخُوَّةِ يَسْـتَدِيمُ
وفي خُلدِ الجنانِ اجْعَلْ ثَوَاهُ
مَعَ الشُّـــهَدَاءِ والعُلَمَا يُقيمُ
إن الأسلوب الشعري عند الشاعرة ( عهود عبد الواحد ) ينماز بالبساطة , و لغتُهُا الشعرية التي كثيراً ما تقتربُ من الكلام السائر لان اغلب قصائدها ارتجالية ، وهي إذ تتأمَّل الحياةَ يكشفُ عن وعيها المُباشرٍ بالمشهد من حولها , كذلك استطاعت أن تعكسَ وعيها بالحياةِ اليوميَّة فتعالجَ كثيراً من مواضيعِها من غير تَعثُّرٍ أو ازدراء , ومن ثَمَّ فهي معنية عنايةً مُخلصة بالحياة والوضعية الإنسانية , ولهُا القدرة على تصوير المواقف المثيرة للأسى أو الفرح في سهولةٍ و وضوحٍ من غير كُلفةٍ أو تصنُّع, وهذا يدلُّ على تعظيم مرثيتها ِ وإعلاء شأنِهِا ومكانتهِا بكلماتٍ تدلُّ على البساطة والتَّواضع ودماثة الخلق ، الأمر الذي جعلَهُا تحتلُّ موقعاً متميِّزاً بين النَّاس , فضلاً عن بساطة الأسلوب الشِّعري واللغة السلِسة التي تصِل إلى قلوب الناس, إنَّ هذهِ صفاتٌ محمودةٌ , وقد دخلت في إطار الزمن الماضي ” كُنْتَ ” للثناء على المرثي والإشادة بفعالهِ وخصاله إذ ليس بين الرثاء والمدح فرق ؛ إلَّا أنَّهُ يخلطُ بالرثاء شيء يدلُّ على أنَّ المقصود بهِ ميت مثل كان وما يشاكل هذا ليعلم أنَّهُ ميِّت, فتثقل النَّص بالإيحاءات والإيماءات الدَّالة على شاعرية المرثي وخبرته , فقد كان يسيرُ على خطوات ثابتةٍ , ولم يلتوِ في أساليبهِ , ولم يعرف المُداهنة , ومن ثَمَّ فهو يهدفُ إلى إصلاح المجتمع وفق أُسس ومبادئ سامية , ويسعى إلى بثِّ الوعي التَّجديدي في مجتمعهِ الذي تغيَّرت وجهتُهُ الحقيقية على أثر التَّقاليد والأعراف الخاطئة , فهذهِ الشخصيَّة المرثية لا تترك طريقاً إلَّا وسلكتهُ في سبيل أن تصل إلى الشعر والمرح حتى وإن اضطرَّت إلى اختراق جميع الحُجُب الأرضية لتمرَّ فوق السَّحائب ، ليضطلع النَّص بخلق مساحةٍ ما بين القيد والسَّحاب ومدى ما فيهما من تَّباين ، الأمر الذي يستدعي فطنة القارئ إلى مدى القُدرات والطَّاقات الكامنة التي يتمتَّعُ بها المرثي في سبيل إيصال محتوى مادَّته ومضمون رسالته, إذ نستقرئ مشاعرَ الحزنِ والهمِّ التي أثارتها الشاعرة في رحيلُ زميلها الدكتور ( فاروق الحبوبي ) لتستفهم الشاعرة عن جدوى صمتِهاِ أمام هذا الموقف الأليم , إذ كان مُحِبُّوا الشاعر يستمتعون بمُجالَستِه , ويشنِّفون أسماعَهم بأشعارِهِ وما فيها من تشبيهاتٍ وبيانٍ رائعٍ , وبفقدِهِ أصبحوا غرباء , فقد كان اليدُ التي تُمَدُّ لهم , وتُسعِفهم , فضلاً عن ذلك فقد كان المُتحدِّث بلسانهم إذ خبِرَ نواياهم وتطلعاتهم كلَّها.
—-
ناقد وقاص عراقي