النص :
أمي
وكأن عاصفة أطاحت بي فمزقتني شر ممزقٍ!
نزل الخبر علي كصاعقة أصابت شجرة سامقة، فأحرقتها وسوّتها بالتراب..
” أبوك وأمك أصيبا في حادث “.
في الطريق إلى طوارئ المستشفى تعانقت دموعي وذكرياتٌ شقت طريقها عنوةً في سراديب ذهنٍ مشوش، انفتحت أبوابه على مصراعيها..
– أمك ستفسدك بتدليلها لك..
أمي..أمي..وأجهشت منتحبًا..كان أبي قاسيًا عنيفًا في تربيته لي، ..وبخيلًا أيضا!..لا أخفي عليكم أنه لم يكن هكذا قبل أن يعلم بتدخيني للسجائر، حين رأني عائدًا مع أقراني من مدرستي المتوسطة، وسيجارة مشتعلة بين أصابعي، لم يتوقف بسيارته، بل مضى متظاهرًا أنه لم يرني، ولكني لمحته وكذلك لمحه أصدقائي، وتوقعوا لي – ساخرين – عقابًا مبرحا، وخاب ظنهم، فلم يكن عقابه لي، وإنما صب جام غضبه على أمي، ضربها ضربًا مبرحا، لم أشاهده بالطبع وهو يضربها، وإلا كنت أوجعته بمديةٍ أخفيها في حقيبتي المدرسية..كسرت إشارة المرور الحمراء!
تبًا لهؤلاء الحمقى ألا يعلمون أنني في عجلة من
أمري؟!!..تذكرت أمي والحادث؛ انهمر دمعي سيولا..أمي..أمي..أكتب لها السلامة يا الله!..فاجأتني الكلمة..الله؟!.. ألا زلت أذكر وجوده؟!..ألم أنكره مراتٍ ومرات؟!..لكنها ..لكنها أمي!.. كانت دائمًا تذكره، وتمسح بكفها اللدن الناعم رأسي وتدعو لي بالهداية، كنت أسخر منها ولكني أيضًا أشفق عليها من كثرة صلاتها، ومن قسوة أبي..نعم كانت تصلي سبع مرات في اليوم والليلة..تصوروا ؟!!..أبي بعد أيام منع عني نقوده؛ خشية أن أشتري بها أشياءً اعتدت عليها..في البدء من الصيدلية التي على ناصية شارعنا، وانتهيت إلى شرائها من باعة متخفين، أمي المسكينة كانت تمدني بالمال الذي احتاجه؛ كانت تدرك بحاسة الأم الحنون شدة احتياجي، كان يرعبها حالات هياجي المتكررة، وتكسيري لكل ما يقع في طريقي ويمكن كسره..
هرولت نحو ستارة سميكة أشار لي إليها أحد المسعفين، وقد توقع ما تبحث عينيّ عنه، أزحتها بيدي..كانا ممددين على سريرين متجاورين يفصل بينهما فراغ ضيق يكفي لمروري، لم انتبه جيدًا لما غمغم به الطبيب، بل أصارحكم القول..لم أهتم بما قاله، فالمهم الآن هى أمي..أبي رحل فليرحمه الله..ما هذا الذي يحدث..ساءلتني نفسي
” ما بك يا هذا؟..ما فتئت تكرره..حاذر “..
تغاضيت فالآن أمي ولا شيء يهمني سواها، أمسكت بيدها احتضنها بكفي، وأقبله بشفتي ودموعي، كان كفها خشنا..لم أهتم وأوعزت ذلك لتبعات الحادث، وحمدت الله أنها لا زالت تتنفس وتقبض بيدها على يدي..ياالله!!..هذه المرة الثالثة التي أذكره، بل الرابعة في غضون ساعة واحدة!!
لاحظ الطبيب اضطرابي؛ ربت على كتفي وهمس لي وابتسامة تكسو ملامحه
” ماما جاءت لتطمئن عليك”
انفرجت أساريري وزال اضطرابي، وأنا أفسح لها مكانًا كي تجلس بجواري على طرف سريري، ربتت على كتفي ومسحت بكفها على رأسي، وضمت كفي بين كفيها..كانت كفها خشنة!!، إلا أن ما أثار دهشتي فعلًا كان ذلك الشارب الذي يعلو شفتها ويشبه شارب أبي.
محمد البنا..القاهرة في ٥ نوفمبر ٢٠٢٢
—-
🔖القراءة :
تعرف الموسوعة الطبية PTSD ( الكرب) : بأنه يبدأ بعد حادثة خطيرة، تؤدي بصاحبها الى الهذيان و العزلة و التهيج والشعور بالذنب وبالتالي الى ذكريات اقتحامية ( صور، أصوات، روائح …)
والآن وقد قمنا بالتعرف على الحالة، لنرجع للنص الذي أتحفنا به رائد القصة القصيرة بالوطن العربي الاستاذ محمد البنا :
* العتبات :
– العنوان : أمي
إسم مضاف الى ياء المتكلم، يدخلنا مباشرة للصراع الدائر بين الشخصية وذاتها: هي أمه هو وليست أم نكرة، مبهمة، أو معرفة : الأم التي تحيل للروابط الشاعرية أو التدينية ( اللغة، الأرض، مريم …) هي فقط أمه برمزيتها البيولوجية و قلبها العطوف الحاني.
تبدأ المعركة السردية بجملة أعتبرها مفتاح النص :
< وكأن عاصفة أطاحت بي، فمزقتني شر ممزق>
اللغة الدلالية المستعملة بالجملة كفيلة بفتح الأبواب على مصراعيها، فتكلل القطاف وجبات شهية، العاصفة عندما تضرب رقعة جغرافية، أكيد مخلفاتها ستتحدث عنها، وهنا رغم نجاته منها فهي مزقته شر تمزيق، فلا داعي لإفراد وشرح معنى التمزيق باللغة، فالنص كفيل بذلك..
يعود بطل القصة لسرد أحداث جنوحه نتيجة الدلال المفرط من الأم، وجحود الأب، في تتابع حكائي ، برع الكاتب بحياكة نسيجه عن طريق تقنية الفلاش- باك، وكيف أدمن السجائر بسن مبكر، نتيجة الرفقة السيئة، وانتظم بالمداومة على ترغيب وترهيب أمه العاجزة عن كبح جماح جنوحه ( عقدة أوديب الفرويدية ) في مقابل التعامل السادي للأب مع الزوجة والرغبة الدفينة للإبن في الانتقام منه < والا كنت أوجعته بمدية أخفيها في حقيبي المدرسية> إذن هي بلا شك علاقة ملتبسة قوامها التربص في مقابل ( البخل )، والذي يظهر الأب انسانا ساديا غير متفهم.. وهو بسلوكه هذا ربما أراد تقويم اعوجاجه وتأديبه بصب جام غضبه على الزوجة..
قلنا إن البراعة تكمن في التدوير الرائع للكاتب الذي جعلنا نتعاطف تلقائيا مع الإبن وبطريقة تلقائية مع الأم المتدينة التي تصلي ( سبع صلوات) وتطلب الهداية لابن مدمن وربما في طريق الإلحاد..
يستمر السرد وتستمر مفاجآته وننتظر اطلالة وذروة القصة عندما يلتقي الإبن مع الأم المحتضرة، نادما متحسرا يطاب المغفرة… لكن هنا تكمن العبقرية الفذة للاستاذ محمد البنا :
– ليس هناك أم في المستشفى!!!!
كل ذلك محض هلوسات واضطرابات مابعد الصدمة والتي أسلفنا في شرحها، الأم متوفية و الإبن هو الذي وقع له الحادث الأليم بالسيارة <كسرت إشارة المرور الحمراء>
والزيارة هي للأب < كانت كفها خشنة> ذلك الأب الذي أراد لنا أن نتوهم جحوده و عدم اهتمامه به.
فتوقفت ذكرياته بلحظة الندم عن عدم البوح لأمه بحبه لها.
06/11/2022