صدر للشاعر المغربي سامي دقاقي ديوان شعري عنونه ب” الكتابة من نقطة التلاشي ” ، وهوديوان محمل بالدلالات عبر صور آسرة بسكونيتها وحركيتها ، والديوان برمته ينضح بالفجائع والشعور بالضياع والتيه بين متاهات الواقع ومتطلباته. ديوان متداخل الكنايات والرموز والإيحاءات يحتاج إلى أكثر من قراءة ، فصوره وتركيباته جعلت منه معينا لا ينضب ، و يمنحك الجديد في كل قراءة .
التلاشي المشترك بين العناوين والنصوص
عادة ما يكون الشاعر حاملا لكاتبه إلى عوالم تتقاطع من خلالها الأحزان والمبتغيات من خلال المنغصات في مواجهات التحديات والانفلات إلى سماوات السكينة بديلا للضجر …هكذا نجد في العوالم الشعرية للشاعر المغربي سامي دقاقي ، عبر ديوانه المتعاضد القصائد إلى حد التداخل والتكامل فقصائد الديوان مهما اختلفت عناوينها تصل بين بنياتها الدلالية لحمة الحزن حين ينهض وينهض الأمل ضده كي يستكين …فعناوين القصائد التي جاءت كالآتي :
1- الكتابة من نقطة التلاشي
2- حادثة وعي ..على حافة السير
3- بورتريه شائه لحطاب قديم
4 – شجرة النذور
5- الطير والجدار
6- عميقا في بحيرة الموتى
أن تكون شاعرا – 7
فوق كومة من الأصابيع ، أنقر الهواء – 8
في العراء، كان طفل يرسم – 9
إنهم يقتلون الشمس – 10
على بابها سقط مضرجا في عشقه – 11
الرجل الوحيد في الزحام -12
ما أنا عليه الآن -13
ليل الغابة – 14
فن الحياة . – 15
عناوين تشي بشيء من التلاشي الذي عنه سينبعث الشعر كي يدثر الألم ويضمد الجرح عبر البوح ، ويفتح الباب أمام مزيد من فسحة الأمل قصد إتمام رحلة الحياة . وبذلك يسري سلطان العنوان و أثره على كل قصائد الديوان ، فكلها تتضمن شيئا من التلاشي الباعث على الشعر والحياة من جديد : فالحافة في عنوان القصيدة الثانية/ و”شائه ، قديم” في الثالثة / و “النذور” في الرابعة / و”الجدار(مقابلا للطيران ) “في الخامسة / و”بحيرة الموتى” في السادسة / و”كومة من الأصابع” في الثامنة/ و”العراء” في التاسعة / و” يقتلون ” في العاشرة / و “سقط ” في الحادية عشر / الوحيد (مقابل الزحام) في الثانية عشر / ليل ( مضافا إلى الغابة)، كلها تتقاسم التلاشي باعتباره نكوصا وانتكاسة واضمحلالا يقود إلى الضعف و العدم ، مما يستنفر الكتابة ويستفز الشاعر كي يتحمل حرقة الكتابة كواجب تفرضه تراجيدية اللحظة…
إن قصائد الديوان فقرات لعمود واحد جسَّد منطلقه الشاعر عبر القصيدة التي اتخذ لها عنوان ” الكتابة من نقطة التلاشي* ” ليصير الديوان بكل بكل تضاريسه تجسيدا للكتابة من نقطة التلاشي . إنه التواصل والاتصال الشعري الذي يشكل في النهاية باقة من الصور الناسجة لرؤية الشاعر وإحساسه المرهف إزاء عواصف المعاناة و ظلامها . ورؤية الشاعر شكلنت الصورة الشعرية عبر تعدد زوايا التأمل في المشهد (من فوق ، من تحت ، عبر الاسترجاع والحلم …) ، ومما يعطي الديوان قيمة وازنة هذه المشهدية الحية الناضحة الآسرة التي تجعل القارىء يسقط مكرها بين نيران الأحاسيس و حدَّة النبض إزاء الجرح والخوف من الواقع والمتوقع ، عبْر الحدث ـ بشاعريته ـ في تناميه وهو يجول بنا في دهاليز المعاناة والكشف والمفاجآت …وهنا تتجلى إبداعية التشويق الآسرة و البادية في الديوان بملمح متعدد القسمات …
القصائد اللوحات
في الديوان تأثيث للصورة عبر تقديم الإنساني مطوقا بالألم وقيد المعاناة حد التلاشي والاستسلام يقول الشاعر :
حين كنت مقيدا إلى الصخرة
( ودائما ما أكون كذلك )
لم أفكر في النسر
الذي يمزق كبدي ..
ولا في شدة الألم
أو زمن العذاب..
وإنما فكرت في قدر الصخرة
التي ستظل تتحملني…ص 13.
إنها لوحة تجمع بين السكونية والحركة واستحضار الواقع والمطلوب كي تشي بموقف الشاعر كضحية موثرة التفكير في عناء الصخرة التي تتحمله بدل التفكير في النسر العازم على تمزيق كبده.
يقول أيضا :
الفراشات التي حطت
على كتفه
كانت كافية لطرحه أرضا..
الكل ظل يفكر في ثقل الفراشة
ولا أحد يعلم أن الضحية
كان منخورا قبل ذلك…ص 15
الشاعر أبدى حدقه في خلق الصورة الجاذبة للفرجة والتفكير في المصير ، فالبطل واقف ، والفراشة على غير عادتها تتمتع بهذا الثقل مما يبعث على التساؤل اللغز الذي تولى الشاعر الإجابة عنه إبعادا لسحابة الحيرة إزاء معطيات المشهد .
رجل معقوف
يتدلى مخاطه..
جمجمة ينغلها الدود..
نسر يحوّم بأفكار غامضة ..
بئر عطشى ..
عمق اللوحة:
هي التفاف الرعب على نفسه
في حلقات قاتلة..
الآن ، لم يعد الماء ممكنا
وسط كل هذا الجفاف…
هنا يرسم الشاعر لوحة أخرى بطلها هذا الرجل الفاقد لقوته الخاضع المستسلم للضعف والتلاشي ، و كأن الشاعر راسم وشارح لرسمه ، فهاهو يتحدث عن عمق اللوحة كي يشير إلى السبب الكامن وراء البادي
القصائد اللمحات
في كل قصيدة من قصائد الديوان ، صور على شكل ومضات تبرق فتتركك تعيد ترتيب عناصر المشهد بحثا عن صورة تتكاكمل عناصرها كي تتصل بمفردات الواقع وأحداثه.
ومن هذه القصائد اللمحات :
وسادة كاملة..
نصف سرير ..
جثة..
تكرار وشضايا نوم..ص 19
صورة شعرية بالأسماء والحروف فقط ، وهي بذلك صورة على شاكلة الكتابة السيناريستية التي همها المرئي قبل أي شيء
يقول :
نحلة
تتجمد في الكأس
ووجهي يتصلب
في المشهد..
أيجب أن أكون
صوفيا قليلا
كي أدرك ـ مثلا ـ
أنها تعتنق
فكرة العسل ؟
إنها إبراقات ضيقة المساحة التي تشغلها ولكنها تجد صيرورتها عبر الأبعاد التي تنبثق من الكلمات في التركيب الذي اختاره الشاعر وفق رؤيته المعمقة للدلالة بالشكل الإبداعي المختزل العباراة العميق الأبعاد.
الفرادة في الصياغة والتشكيل
تمكن الشاعر بإحساس المتأمل المندهش الغارق في الإحساس والتردد بين العدمية والانعتاق أن يرسم هذا الانعقاد الذي يحمل الجدلية بين الموت بالحتمية والإكراه ، بين الشعر كملاذ لإنعاش الحياة هروبا من أنياب الفجيعة بالموت ومشتقاته.
صور شعرية مبنية على فلسفة وتقنيات فنية وجمالية عبر نسيج تعبيري متين مترابط الوشائج مما حول إلى ما يشبه شجرة بأوراق وثمار مختلفة الشكل والطعم ، فالديوان فيه الموحد العام والمختلف الخاص ، والوحدة العضوية من أهم سمات النص الشعري الحديث. فلغة الشاعر تنبني على تفاعل الأسماء والحروف والأفعال عبر انتقاءات الشاعر ورؤيته الفنية المفعمة بالأحلام والتحليقات التي تجد لها وقعا على المعيشي واليومي ، كل هذه العناصر والسمات أكسبت القصيدة في الديوان ميزة الاستعصاء العذب الذي يدفع بالقارىء للتأمل المتجدد بعد كل قراءة. علاوة على ذلك نجد بين الأسطر الشعرية الواضح المكسر لعنصر الدهشة مما يمنعها من الانبساط على نسيج القصيدة كي تتحول إلى تغامض مطبق يحُول دون رؤية تعين على البحث عن الخفي والغائب.
يقول :
لا شيء يبقيك مشدودا إلى الارض
ولاشيء يصلك
بمراقي السماء..
فقط قدرتك عل لحم الوقت
بالقصيد…
لغة شعرية تتمز بهذا التكثيف الدال على العناية في انتقاء العبارة وهندسة مشهدية الصورة الشعرية وفق المقاس الإبداعي الذي يتلاءم مع ذائقته ، ويبدو أن القصائد تتلاحم عبر هاته الصور المستعرضة لتجليات الأنا المعذبة والآخر المتأمل أو الشارد أو المساهم في المأساة فعلا أو مخادلة.
نصوص الديوان تتميز بفرادة تشكيل تجعلها راسمة لعوالم جميلة تنفرد بألقها وسط إخوتها من النصوص في كل العالم …وكل قصائد الديوان صور متراكبة فنيا كي تشكل ملامح و خلاصات منبثقة عن الوجدان الإنساني بكل أبعاده ، والمبدع يفكر بيده وقلمه ووجدانه ، يفكر بكل كيانه كي يتقاسم المر واللذيذ والماتع مع كل ساكنة المعمور.
والقارئ للديوان تجذبه عوالمه المتعددة بتعدد مرتديها وحاملي مشاعل استناراتها …حيث يترآى لنا الشاعر وهو يحاول أن يجعل من الكلمات لآلىء تتراكب كي يصنع منها عقدا يصير مرتعا للفرحة والمرارة …ففي قصائده يختلج تيار نفسي من وعي يَمُدُّه مخزن اللاوعي المفعم بالرؤى والمشاعر الجياشة ليسقط في شباك الشعور الانساني المشترك ، والشاعر الحقيقي حين يعبر عن أفراحه وأتراحه ، فانه يجسد هموم وأفراح الإنسانية في كل مكان على صدر البسيطة…
في قصائد الشاعر عوالم درامية تحمل الحركة والصراع والبدايات والنهايات ، تحكي بالشعر عمَّا جرى ، وعن هذا الذي يندفع ليؤجج ترنُّح الأمل أو الألم أو أمورا أخرى نحو مجاهيل لا يحددها السؤال وإنما يدفع للبحث عنها…
يقول الشاعر :
الأجساد تتعرى حروفها اللامعة
هناك
تتعرى من حروفها
وتشحذ أظافر الليل …
الكل كان واثقا
أن الحفلة ستنتهي بالدم
والراقصون ستدفنهم الراقصات
بينما الخدم
سينسحبون في منتصف الرعب
عبر الباب الخلفي
مهربين أرواحهم وشَوْكات من ذهب..
هذا ما حصل فعلا
غير أن لا أحد – إلى الآن –
استطاع أن يحدد هوية الضيف
الذي كان يتجول في حديقة القص
بجناحيه السوداوين…ص 27
في الديوان يشكل السرد والوصف والتلميح مكونات تتوزع عبر القصيدة فتصير بوابات لارتياد صروحها … وبذلك صارت القصائد مصورة ، ساردة ، حاكية، درامية تحمل الصراع مشكلة لعوالم بحدود المشاعر وما يعتمل في الصدور ..
في قلب الديوان ينهض السؤال ، ويُستنهض الإيحاء لنبحث عن بوابة البحث عن المخرج رغبة في الإجابة عن أسئلة اللحظة والغد ، والديوان عبور عميق للجسد نحو حقائق غير محددة…قصائد الديوان مفعمة بالتطلع نحو الرقي الجمالي مع الارتفاع بالروح عبر الأوصاف والمقارنات قصد الاختيار الصعب بين البدائل.
. إنه ديوان مفعم بالتساؤلات الموسعة لأفق التخيل والامتداد بالقصيدة خارج جسدها المرسوم ، ففي ذيل كل مقطع تساؤل يفتح بوابات أخرى للإنطلاق بحثا عن الناقص والمبتغى أو دفعا للمكروه والمنغص للحظة السكينة : الأحلام تذبح أم ماذا ؟…هل أستبدل أحلامي أيضا ؟..أتكون السماءُ قد هرمت / أقربَ من الموت مثلا؟ الرأس المقطوع ذاته / يسأل : هل بدأ حديث المقصلة ؟ …ترى هل نشبه اللامتوقع / وهو يرقص على حبل جائع ؟!…ما تلك النقطة البعيدة التي تلمع/ مثل علامة استفهام في الأفق؟!..من يهز رأسي حين يتدلى في سديم الانتظار؟!
هكذا يتساءل عبر قصائده ، فيجعل التساؤل مفتاحا للبحث ، وأفقا يحتاج إلى الفحص من أجل الاكتشاف…
القصائد تجول بالقارئ في السماوات ، بين الشجر ، وبين التساؤلات الشاخصة كالأطلال وكالأبطال أيضا …
لقد أجاد الشاعر وصدق صدق المبدع المؤمن بجدوى الكلمة النافذة المحلقة بوقود الجمال والإبداع حين اعتبر لحم القصيد بالوقت سبيلا إلى الاقتراب من مراقي السماء.
لا شيء يبقيك مشدودا إلى الارض
ولاشيء يصلك
بمراقي السماء..
فقط قدرتك عل لحم الوقت
بالقصيد…
ديوان فريد فرادة المروض للعبارة وليِّها نحو مسار يخرجها فصيحة تخفي ما يجعل القارىء متشوقا للبحث عن الغائب والباقي والخفي بين الثنايا. وسأعود إلى الديوان معززا بمصابيحي ومنظاراتي كي أكتشف مزيدا من اللآلىء والجواهر القابعة في القعر…ففي قصائد الشاعر حرية لانسياب متواصل بعيدا عن القيود الشكلية المانعة لانطلاق التعبير عن خلجات النفس بعفوية تجعل القصيدة سيلا بلا ضفاف ، ونغمة لامحدودة الأصداء. وبذلك صارت قصائده معانقة لروح عصرها ، وبصدر أكثر سعة وأنسب لاستيعاب قضاياه المتشعبة والمتجددة …الشاعر سامي كما عهدته رقيق المعاني حريص على انتقاء العبارة العميقة المعمقة للصور وأفق الرؤيا ، فجاءت شعريته فريدة ينسجها من روحه في بوثقة تجربته الإنسانية واحتكاكه بالواقع وتقلباته.
هكذا يبحر بنا الشاعر عبر الريح كأنه مجمع الطبيعة في أصدافه أو كأنه مشتت الموج ..
سأبحر في الريح
طَبقا على طبقِ
كأني مجمِّع الطبيعة
في أصدافي
أو كأني مشتت الموج ص 87
القصيدة في موقف أخير
قصائد الشاعر تحمل تموقفاته عما يجري ويجري وعما يتوقعه في عوالم الحلم ، ولا يرى سوى القصيدة منقذا من مآسي الحياة و متاعبها سوى القدرة على لحم الوقت بالقصيد ، إنها البلسم والملاذ الأخير ، فوق أجنحتها نغادر كي نرتاد عوالم أخرى أجمل وأخضع لمراداتنا الإنسانية النبيلة .
لا شيء يبقيك
مشدودا إلى الأرض
ولاشيء يصلك
بمراقي السماء..
فقط قدرتك على لحم الوقت
بالقصيد
والتعري العميث
أمام العقل
من تجعلك مثل عصا الأعمى تجوس قبل أن تطأ…ص 169
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
ـ “الكتابة من نقطة التلاشي” ـ ديوان شعري ـ سامي دقاقي ـ الطبعة الأولى 2012م ـ دار النهضة العربية بيروت – لبنان.