في روايته الجديدة، يستعيد الطاهر بن جلون نظرته الكلاسيكية للمجتمع المغربي بسوداوية مغرقة في العمق والقسوة كرجع لذكريات عاش بعضا منها في شطر حياته الأول في مدينة طنجة التي تعيش فيها شخوص الرواية.
في عائلة مكونة من الأب مراد، والأم مليكة، والبنت الكبرى سامية، وولدين ذكرين آدم الموظف في شركة خاصة يعاني فيها من رب عمل متسلط، ومنصف الابن الأصغر المهاجر إلى كندا، وأخيرا فياض المهاجر الأفريقي من موريتانيا الذي تعثرت به طريق الهجرة فوقع في الفخ المغربي في مقبرة العائلة.
يتناوب الأبطال رواية الأحداث من البدايات، يتعرف الموظف مراد بزواج مدبَّر بلا حب بمليكة ابنة عائلة بخيلة شعارها “الدرهم هو الدرهم”، وتنوء بهذا الإرث حتى النهاية وتعجز عن الانفصال عن هذه النظرة المادية المحدودة للحياة.
يتأرجح مراد بين رغبته بحياة مختلفة، ثقافته واطلاعه على آداب الغرب وفنونه، وتمسكه بالنزاهة في العمل إلى حين، ونظرته الناقدة لمجتمعه، وغرقه لاحقا في وحول العائلة والمجتمع والتقاليد.
تتقدم أحداث الرواية وتسحب معها أقدام أبطالها إلى هاوية سحيقة بلا قرار، تكسرُ ضغوط المرأة الباردة والمادية مقاومة الزوج للرشوة في مجتمع يعيش على الاقتصاد الموازي ويبحث عن تصالح معه بأي شكل، فيضطر لقبول المغلفات المليئة بالقطع النقدية ليكسب السلام مع زوجته، ولكنه يفقد احترامه لنفسه.
تفتر علاقته بزوجته مع الأيام، ويحاول استرجاع علاقته القديمة بحبيبته زليخة ليجدها قد تغيرت وأصبحت امرأة متدينة تواظب على الصلاة بعد زواجين وطلاقين.
يتلاشى مراد أخلاقيا، وينحط بجبنه وضعفه، ولا يجد مهربا إلّا الكتب فيدون ملاحظاته على ما يقرأه.
تبرد ولادة الابنة البكر سامية الجو الملتهب لحياة الزوجين، تكبر الفتاة الذكية محاطة بمحبة والديها رغم تنافرهما، تنجح دون صعوبة في دراستها وتبلغ السادسة عشرة من عمرها، تتعرف على جسدها وتدخل عالم النساء، تعوض عن وحدتها بالموسيقا والشعر، وتعبر عما يجيش في أعماقها بكتابة الشعر، وكذلك في دفتر مذكرات تكتب فيه يومياتها.
تتعرف سامية على رجل يساعد زميلاتها على نشر أشعارهن في مجلة أدبية، ورغم عدم ارتياحها له، لكنها تنجذب إليه كالفراشة إلى الضوء، تذهب إلى منزله، يطلب منها دون مواربة جسدها مقابل نشر أشعارها، ترفض، يغتصبها بعد أن يُضعف مقاومتها بمخدِّر.
يتمزق قلب الفتاة، تفقد رغبتها بالحياة، وتخشى مواجهة المجتمع الذي يضع شرف العائلة بين فخذي ابنتها المدنسة، فتنتحر في غياب والديها عن المنزل.
يتبادل مراد ومليكة الاتهامات ويتقاذفان المسؤوليات عن قيادة العائلة إلى الخراب.
يلزم مراد المنزل الكئيب بعد التقاعد، وتغزو جسده الأمراض، وتتدهور أكثر حالة زوجته مع الاكتئاب والهستيريا وأمراض الجسد لتصبح إنسانة لا تطاق.
يطلَّع مراد على دفتر أسرار ابنته ويعرف من اعتدى عليها ولكن الجبن يغلبه فلا يحرِّك ساكنا، ويتابع المعتدي حياته حتى يبلغ الثالثة والسبعين ويكرَّم عند موته من المجتمع!
يتدافعُ الزوجان معا نحو الهاوية، يؤخرها قليلا دخول فياض إلى حياتهما، يعمل على خدمتهما، ومقابل ذلك يحصل على المأوى وقليل من المال، لكنه يسعدُ بعمله الذي يشعره بقيمته الإنسانية في خدمة هذين البائسين، ويتمكن من استخراج أوراق إقامة تمكنه من البقاء دون متاعب.
تسقطُ مليكة ميتة تحت وطء المرض والاكتئاب، ويلحق بها زوجها بعد قليل.
يقرر فياض البقاء في المغرب بعد أن خطب إحدى الفتيات وحصل على عمل لدى عائلة أخرى.
يشرِّحُ الطاهر بن جلون في هذه الرواية المجتمع المغربي بقسوة، الرشوة هي القانون الغالب على الجميع شاؤوا أم أبوا، الاختناق بأفكار بالية تستمد مشروعيتها من الدين، الجوامع تبنى ولو على أنقاض المقابر، وببذخ بالغ على حساب المدارس والمشافي، ونفس الأشخاص الفاسدين قادرون على الذهاب إلى الحج لغسل ذنوبهم، والعربُ الذين يعانون سياسيا في بلادهم ومن العنصرية في أوربا يمارسون العنصرية على الأفارقة لأنَّ لونهم أفتحُ منهم قليلا!
يلقي الكاتب ستارا قاتما على المجتمع المغربي، ومن خلفه المجتمع العربي، ولا يترك أي شعاع نور يتسرب، فالبيت الذي جمع العائلة يباع في نهاية الرواية بكل ما فيه من بؤس وبخل وجبن وظلمة ورطوبة!
الرواية سوداوية بامتياز، ولولا بعض الشذرات المنيرة من طرف الابنين تجاه والديهم، وذاك التوازن في شخصية فياض المثقف والذي رغم قسوة حياته الخاصة والظلم الذي عاناه ما زال قادرا على معاملة الآخرين بإنسانية ونزاهة.
كتبَ الطاهر بن جلّون هذه الرواية بقلم مسنون وحبر مغرق في السواد لم تستطع سنوات الإقامة الطويلة في فرنسا أن تخفف من قسوة أفكاره عن بلده الأصلي، وتتجلى أفكاره الذاتية المعروفة على ألسنة مراد ومليكة وابنتهما سامية، ومكان الرواية هو ما ألفه في سنوات شبابه الباكر، ما علق بذاكرته من وجع بدا جليا في كل أجزاء الرواية.
وأخيرا، الرواية جديرة بالقراءة والتأمل والقضايا التي تعالجها مهما بدت محلية مغربية، فلا شك أنها تلمس أي قارئ عربي من الخليج إلى المحيط.
——
العنوان الأصلي للكتاب:
Le miel et l’amertume
المؤلف: الطاهر بن جلّون
اللغة: الفرنسية
الناشر: غاليمار
تاريخ النشر : ٢٠٢١
عدد الصفحات: ٢٥٤