
ان ما يثير فضول المتلقي في ديوان: “امرأة في وادي الفراشات” هو تكرار تيمة “الليل” بشكل لا فت جدا، وما توحي به من دلالات سيميائية وأبعاد متعددة، ضمن سياقات تركيبية ودلالية، ضمن نصوص هذه الإضمامة الشعرية للشاعرة العامرية سعد الله الجباهي.
لقد شكل حضور الليل بتعدد إحالاته وإيحاءاته، بؤرة (vocalisation) تتمركز حولها الذات الشاعرة، تلك الذات التائهة الحائرة بين الزمان والمكان، في زمان هو الليل، وفي مكان هو وادي الفراشات، إذ تخلق الشاعرة مساحات للتأمل، وفجوات للتدبر في اللحظة بل اللحظات المسروقة من الذات.
ويحمل “التصدير” باعتباره نصا موازيا للمتن الشعري هنا إشارات عن “المرأة” و”الليل” تقول: “المرأة التي تقمصت وجهي، كانت تقرأ الفصل الأخير من ليلي” ص 9، الديوان.
ويلعب المضاف إلى ياء المتكلم في النص/ التصدير، دورا إشاريا في تحديد خصوصيات تتعلق بالشاعرة (وجهي/ ليلي..) فهما ما تملك، وسيجد المتلقي اكتساح هذه الظاهرة اللغوية لجل نصوص الديوان، غير أن (الصمت) قام بدور المسح لكل الخرائط الممكنة، أو الهواجس النفسية، لتفسح المجال للكتابة باعتبارها المتنفس الوحيد للشاعرة. “لكن الصمت كان يمحو كل الخرائط” فتجد العزاء لنفسها في الكتابة، فهي الكفيلة بتنفيس ما يَعْلقُ بالذات والوجدان، من نوبات الضيق والأحزان.. (فينتفض الحرف) ص 9، الديوان.
ويستطيع المتلقي أن يلامس شغاف نصوص هذه المجموعة الشعرية، من خلال الجمل التركيبية، ضمن نسقية نثرية خفيفة الظلال، لا موغلة في الرمزية، ولا مغرقة في الإبهام، حيث تطاوع متونها القارئ في سكون كسكون الليل، لكنها أيضا قادرة على أن تخفي وراء حصونها اللغوية المتراصة، تراكما من الدلالات والسمات العميقة المعبرة من خلف حجاب، عن معاناة وأحزان وآلام باتت دفينة في جوف (الليل)، ليل الشاعرة وزمكان التأملات، وبث الشكوى والتفجع والتوجع.
وليس بِدعًا أن تستدعيَ الشاعرة “العامرية” تيمة الليل بدلالاته وانزياحاته النفسية والاجتماعية.. كجسر أو عبّارة إلى استفراغ الفؤاد وإفشاء ما في الوجدان بَوْحًا بما أثقل النفس من هموم كالجبال الراسيات.. لذلك وظفه الشعراء قديما وحديثا في أشعارهم، يفجرون من خلاله أحاسيسهم ومشاعرهم، بل كان ملجأ لعدد من اهتماماتهم.. كما في قصيدة النابغة الذبياني:
“كليني لهمّ يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض
وليس من يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه
تضاعف في الحزن من كل جانب”
وهذا مبحث يستدعي مقاما خاصا به، يطول الحديث عنه هنا، لكن وجب التنبيه إلى أن ظاهرة الليل رافقت الشعراء منذ القديم.
في نص: (مرة كان لليل رداء) تنفي الشاعرة عن الليل صفة الستر مجازا “لم يكن لليل رداء يسع صدري” وهي تجالس نفسها استحضارا للذات والكينونة الأنثوية في ساعات متأخرة من الليل “وعندما جلست أمامي”.
ويستطيع المتلقي أن يستشف ذلك التمركز البؤري القوي للذات الشاعرة، حول ذاتيتها من خلال توظيفها لياء المتكلم المضافة إلى الاسم، على مساحة شاسعة من النص.. (يسع صدري/ جلست أمامي/ أوراق ساعاتي/ على صدري/ فتحت نافذتي/ جمعت على كفي/ زخارف بستاني..) ص: 11، 12 من الديوان، وهي تترجم بعضا من معاناتها ومعاناة كل أنثى بداخلها تستحضر الزمن الليلي، لما له من انعكاسات نفسية وذاتية على الإنسان حيث يقسوا فيه الآخر مقابل الذات/ الأنثى:
“لم يكن لليل رداء
يسع صدري..
وعندما جلست أمامي
كان في ساعته الأخيرة…
رأيته يجمع
ما تناثر من أوراق ساعاتي
ويحفظها” ص 11، الديوان.
تتكرر كلمة (الليل) في سياقات تركيبية متعددة منتشرة عبر فضاء الديوان، فتأتي نكرة ومعرفة بأل أو بالإضافة في 75 موضعا منها: 38 بصيغة التعريف (الليل)، و2 بصيغة (الليلة)، و4 مرات بصيغة المضاف إلى ياء المتكلم (ليلي)، و13 مرة تنوعت فيها الصياغة، كما جاءت بحمولتها اللغوية والسيميائية في سبع عتبات من نصوص الديوان، مما يوحي بوقع دلالة هذه اللفظة على نسقية المتون الشعرية.. ومن خلال هذا الإحصاء أو الدراسة الإحصائية السيميائية يتجلى الأثر البارز لتيمة الليل على المستوى النفسي والاجتماعي وغيره.
في نص “عصف من مرمر الصمت” تحضر كلمة الليل بدلالتها الزمنية والإنسانية، حيث تضفي عليه صفة المؤنس المانح لها الأسرار الفجرية.. وهي تحاول أن تقرّب أفكارها من المتلقي؛ أو بالأحرى أن تقترب منه ليشاركها هموما طالما أرّقتها، بل أرّقت جانبا من الإنسانية وأثقلت كاهل البشرية همّا وغمّا وتنغيصا وكدرا. تقول:
“مازال يَسيلُ لعابي
وأنا أسمعُ نداءَ بائعِ المثلّجاتِ.
أيّتها ا لاسفنجة
ماذا لو محوتِ صوته
ماذا لو سَحَنتِ ذلك الوحش
الذي يُطاردُ حُلُمي
من أربعينَ حولاً.
فينبتُ من فلقِ اللّيل
الصباح” ص 41، الديوان.
واضح كيف تعاملت الشاعرة مع الليل في بداية النص وفي ختامه، وهذا يبن أهمية الدور الذي يلعبه “الليل” في حياة الشاعرة، إذ يعتبر الملجأ الزمكاني الذي ترده لقراءة صفحات أيامها وتلاوة تراتيل أحزانها.
كما أشرت سلفا أن الفراشات ترمز إلى الضعف والوهن والانخداع بالأضواء، وهي صفات غالبا ما تنطبق على الأنثى، فالأنثى فراشة مدهشة بألوانها تجذب إليها الرجل، لكنها قلما تسقط في وهمه، ويتجلى في نص: “من حكايات الفراشات الضوئية” تمثيل ذلك على واقع الأنثى فهي:
“الفراشات التي نسيت ألوانها
على حافة
البروق الضوئية
لا شاطئَ للفراشات
غير خرائطِ الموت
تتفتّحُ زهورُها” ص 45، الديوان.
ويلاحظ المتلقي في نص: (ما لم تقله الشمس لي) مناجاة الشاعرة لليل الذي سيأخذ في كل حالة صفة معينة حسب تقلبات النفسي في الإنسان، وهو هنا (ليل رهيب) لكنه سيفتح آفاق جميلة للنفس.
“لفّني ليل رهيب
فتح لي جنة في سديم الروح
مدّ لي نجمة
وغصن زيتون..
ومضى..” ص 46، الديوان.
وهي تحادث ليلها عن الذي تعقبت خطاه أنها رسمت بليله نجمة.. محاولة أن تحيل الليل الحالك إلى ضوء بما ترسمه من بسمة للآخر الذي يسكنها ليله، لكنها عبثا تضع الأمل في مسار نهايته التيهان.. تقول:
“تعقبتُ خُطاه
أوقدتُ أزاهيرَ الصّمت
هو يعرف كم ركبتُ الموج
وما تجاوزتُ خُطاه
هو يعرفُ أنيّ رسمتُ بليله
نجمة/ لكنّ نورها في الرُّبى تاهَ …!” ص 46.
لا يكاد نص من نصوص الديوان يخلو من ذكر “الليل” بمحطاته الزمنية المختلفة.. وهي التي (تقطف من عقد الشمس نجما/ كي يستبيح عري الليل) ص 53.
ويؤسر “الليل” في قبضة المجهول (فلا نجمة تفك أسراره) ص 60، والشاعرة هي بدورها مأسورة به لا تستطيع التحليق خارج أسوار الليل.. فتطلب منه قائلة:
“أعِرني سفينَكَ …
أزِفَ الطوفانُ… ولا مرافئ..
كل المدن تشظت..” ص 60، حيث كلها مدن بلا عنوان.
تستخدم الشاعرة أحيانا لعبة التضاد، هروبا من واقع انقلبت فيه موازين الحياة ونظرة الإنسان للأمور. حيث انقلبت (الوحشة أنسا.. والوحدة تعددا).. تقول: في نص: (ليل يطرزه الخواء).
“عندما استوحشت فتاتي/ وجدَت في الوحشة الأنس/ وفي الوحدةِ أطيافا مزهرة…” ص 70، وهي التي تبلغنا عن فتاتها حالات متناقضة أدت إلى نهاية ستخرجها من ليلها الكئيب إلى جنة مشرقة.
“رسمت جنّتَها
فأصبح الليلُ الكئيب
جنّةً مشرقة.” ص 70، الديوان.
وهكذا ينتشر الليل بدلالاته النفسية والذاتية بتجلياته الزمكانية في فضاء الديوان، كما تنتشر الفراشات في أرجاء الكون وهي تحمل معها ألوانها وأحزانها، حياتها ومواتها، بداياتها ونهاياتها..
هوامش:
1 – العامرية سعد الله، ديوان “امرأة في وادي الفراشات” زينب للنشر والتوزيع – نابل/ تونس، الطبعة الأولى 2020