” الثقافة … ذلك المفهوم العجيب الذي يؤطر الشخصية ويضوع كل تصوراتها عن الحياة الاجتماعية… حقاً استخدامات بسيطة لمفهوم معقد “ (الكاتب). ” الثقافة وليدة المجتمع، الثقافة ملك لكل أفراد المجتمع، وهي ذات دور توحيدي وتأليفي، الثقافة قوة تبلغ بالمجتمع مرتبة الكمال… “.
في هذا المقال، سنحاول توضيح العلاقة الجدلية بين الثقافة والمجتمع باعتبار أن الثقافة ظاهرة إنسانية اجتماعية من خلال مناقشتنا لمفهوم علم الاجتماع الثقافي، الذي يسعى إلى رصد أثر المكونات الثقافية على تأطير السلوك الاجتماعي، وأثر عناصر البناء الاجتماعي على إعادة إنتاج السمات والمظاهر الثقافية بالاعتماد على المنهج التحليلي – النقدي.
يعتبر مفهوم علم الاجتماع الثقافي Cultural Sociology – رغم حداثته نسبياً – من المفاهيم الرائجة في العلوم الاجتماعية خاصةً والإنسانية عامةً، لما له من أهمية تخص الإنسان ومحيطه وكينونته واستمراريته، فهو يساهم في الكشف عن الرموز والمفاهيم بين بني البشر المتجسدة في شكل سلوكيات ومظاهر اجتماعية وثقافية.
ويشيع في الحديث اليومي عن مفهوم الثقافة Culture Concept قصره على مجالي الفنون والآداب فقط، وهو تعريف محدود وضيق لمفهوم الثقافة، إذ إنه يختلف تماماً عن المفهوم السائد لدى علماء الاجتماع، حيث تعني الثقافة كل ما هو موجود في المجتمع الإنساني، ويتم توارثه اجتماعياً وليس بيولوجياً.
وفي حقيقة الأمر، إن تقديم تعريف جامع وشامل لمفهوم الثقافة ليس بالأمر الهين، فهو شائع ومعقد ويحتوي على معظم التخصصات والمصطلحات التي تهتم بالإنسان، سواء فيما يتعلق بنمط عيشه، وتواصله، واحتكاكه، وتجارته، وتعلمه، وتنقله، وزواجه، ومعاييره وأنماطه الثقافية والاجتماعية. ولهذا لا يمكن حصره في تعريف واحد، كما أن الثقافة وهي العنصر الأساسي والمسيطر عليه لا يوجد تعريف محدد لها، مما أدى بـ ” ريموند ويليامز Raymond Williams ” إلى قوله ” تمنيت لو أنني لم اسمع بهذه الكلمة اللعينة ولم أُصادِفها في حياتي، فكلمة ثقافة واحدة من اثنتين أو ثلاث كلمات الأكثر تعقيداً ” وكان يقصد بها الثقافة نظراً لتشعبها وتعقدها، بذلك لم يتفق العلماء والباحثون على إيجاد تعريف محدد لها، حيث أحصى ” ألفريد كروبر وكلايد كلوكهون ” أكثر من (160) تعريف. ومع ذلك يقدمان تعريفهما الخاص حيث يعتبـران ” أن الثقافـة تتكون من نماذج ظاهرة وكامنة من السلوك المكتسب والمتنقل بواسطة الرموز والتـي تكون الإنجاز المميز للجماعات الإنسانية، والذي يظهر في شكل موضوعات، ومنتجات أما قلب الثقافة، فيتكون من الأفكار التقليدية (المتكونة والمنتقاة تاريخياً) وبخاصـة مـا كان متصلاً فيها بالقيم، ويمكن أن يعد الأنساق الثقافية نتاجاً للفعل من ناحية كما يمكـن النظر بوصفها عوامل مرتبطة محددة لفعل مقبل”.
غير أن أحد أشهر التعاريف هي تلك التي وضعها” إدوارد تايلور ” في كتابه ” الثقافة البدائية 1871 ” التي قرنها بالحضارة، فقال: ” الثقافة أو الحضارة بالمعنى الاثنوجرافي الواسع هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في مجتمع “. وفي كتابه الانثروبولوجيا 1881 أضاف تايلور” أن الثقافة بهذا المفهوم، هي شيء لا يملكه الإنسان “.
بذلك يعتقد علماء الاجتماع أن الثقافة بالغة الأهمية لأنها تلعب دوراً أساسياً في إنتاج النظام الاجتماعي. ويشير النظام الاجتماعي إلى استقرار المجتمع على أساس الاتفاق الجماعي على القواعد والأعراف التي تسمح لنا بالتعاون والعمل كمجتمع والعيش معاً (بشكل مثالي) في سلام ووئام. بالنسبة لعلماء الاجتماع، هناك جوانب جيدة وسيئة في النظام الاجتماعي.
ويرى عالم الاجتماع الفرنسي الكلاسيكي إميل دوركايم Emile Durkheim، أن الجوانب المادية وغير المادية تعتبر للثقافة ذات قيمة من حيث إنها توحد المجتمع معاً وتوفر لنا القيم والمعتقدات والأخلاق والتواصل والممارسات التي نتشاركها شعوراً مشتركاً بالهدف والهوية الثقافية. كما كشف دوركايم من خلال دراسته أنه عندما يجتمع الناس للمشاركة في الطقوس والممارسات الاجتماعية والثقافية، فإنهم يعيدون التأكيد على الثقافة المشتركة بينهم، بذلك يقوون الروابط الاجتماعية التي تربطهم ببعضهم البعض. واليوم، يرى علماء الاجتماع أن هذه الظاهرة الاجتماعية المهمة لا تحدث فقط في الطقوس والاحتفالات الدينية فقط، ولكن أيضاً في المناسبات العلمانية أيضاً ( مثل رقصات المدرسة الثانوية والأحداث الرياضية المتلفزة التي يحضرها الكثيرون ).
بالمقابل أسس المنظر الاجتماعي الشهير كارل ماركس Karl Marx النهج النقدي للثقافة في العلوم الاجتماعية. ووفقاً لماركس، في عالم الثقافة غير المادية، تستطيع الأقلية الحفاظ على سلطة غير عادلة بالنسبة للأغلبية. ورأى أن الاشتراك في القيم والمعايير والمعتقدات السائدة يبقي الناس مستثمرين في أنظمة اجتماعية غير متكافئة لا تعمل لمصلحة الأغلبية، بل تفيد الأقلية القوية.
في حقيقة الأمر، كان كلا المنظرين محقين بشأن الدور الذي تلعبه الثقافة في المجتمع، لكن لم يكن أي منهما على حق بشكل حصري. فيمكن للثقافة أن تكون قوة للقمع والهيمنة، لكنها يمكن أن تكون أيضاً قوة للإبداع والمقاومة والتحرر. إنه أيضاً جانب مهم للغاية من الحياة الاجتماعية البشرية والتنظيم الاجتماعي. بدونها، لن يكون لدينا علاقات أو مجتمع.
وعلى العموم، انقسم علماء الاجتماع بصدد مفهوم الثقافة إلى فريقين كبيرين، فريق يرى في الثقافة متغير مستقلاً يعمل على تغيير المجتمع ويؤثر فيه تأثيراً فاعلاً، بينما يرى الفريق الثاني في الثقافة متغيراً تابعاً يتغير بتغير البناء الاقتصادي، ويتأثر بأي اهتزازات تحدث بشأنه وبين هذا وذاك ظهرت مدارس سوسيولوجية عديدة اختلفت فيما بينها ولكنها في النهاية لم تخرج عن الفكر العام لهذين الفريقين.
أما عن نشأة وظهور هذا العلم فقد اتفق كثير من علماء الاجتماع على أن دراسة الثقافة من منظور علم الاجتماع وبروز تخصص علم اجتماع ثقافي قد جاء متأخراً عن نشأة ومسار علم الاجتماع وميادينه الأخرى، فقد اقترن ظهوره بتسعينيات القرن التاسع عشر بعد موجة التحولات الثقافية ومظاهر التغير الثقافي التي غزت العالم. غير أن البحث في البوادر الأولى لهذا العلم قادت العالم ” دون مارتينال ” Don Martinal للقول بأن أهم سمة من سمات التفكير السوسيولوجي Sociological thinking في القرن التاسع عشر في الاتجاه الوضعي في دراسة الظاهرة الاجتماعية هي ” معالجة التجمع الإنساني على أنه السبب الأساسي لتفسير كل ما يحدث داخله، ولهذا ليس هناك فصل واضح بين الثقافة والمجتمع أو بين الصفة الشخصية والأشكال الاجتماعية المتطلبة أو بين الأدوات والأفكار”. أي الاتجاه الذي يحصر نفسه في بيانات التجربة ويستبعد التكهنات المسبقة أو الميتافيزيقية. وبشكل أكثر تحديداً، يشير المصطلح إلى فكر الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت (1798-1857) وهو الفلسفة الوضعية: ” وهي تعتبر بشكل عام نسقاً معرفياً يستند إلى التجربة والمعرفة الامبيريقية، لأنها تؤمن بالسببية وتستهدف دراستها الوصول إلى قواعد وقوانين أخلاقية ثابتة ونهائية تحكم الظواهر الاجتماعية.
يرجع الفضل في إنشاء علم الاجتماع الثقافي إلى ” ألفريد فيبر” Alfred Weber ، الذي سعي إلى ضبط هذا المصطلح من خلال التمييز بين الثقافة والحضارة كون أن المصطلحين مترادفين لدى كثير من العلماء والمنظرين، ففصل بينهما قائلاً بأن ” الحضارة تشتمل على المعرفة الوضعية والعلم والتكنولوجيا، والتي تتكون من معلومات يُمكن تمريرها من جيل إلى آخر، وتتمتع بدرجة عالية من الدقة والضبط. أما الثقافة ” فتتعلق بدراسة الأشكال الروحية للإنسان وما تتضمنهُ من قيم ومقاييس وعادات وأفكار وانطباعات، لا يمكن القول إنها صحيحة أو غير صحيحة، وذلك لمرونتها ونسبيتها واختلافها من مجتمع إلى آخر ومن فرد لآخر ومن فترة زمنية لأخرى “.
ونظراً للأهمية التي احتلتها نظرية ألفريد فيبر في ميدان تطوير علم الاجتماع الثقافي، فقد حللها عدد من علماء الاجتماع وعلقوا عليها وفي مقدمتهم ” توم بوتومور” الذي ناقش موضوع التفرقة بين الحضارة والثقافة مركزاً في ذلك على أعمال ألفريد فيبر على أساس أنه يعتبر من أبرز الذين قدموا تفرقة واضحة في هذا المجال، فقد ميز بين ثلاث عمليات في التاريخ الإنساني هي: ” العملية الاجتماعية، الحضارة، والثقافة”.
ويذهب بوتومور بأن ألفريد فيبر قد استخدم مصطلح الحضارة للإشارة إلى المعرفة العلمية والفنية ومدى سيطرتها على الموارد الطبيعية بينما استخدم مصطلح الثقافة للإشارة إلى النتاج الفني والديني والفلسفي للمجتمع، ثم حاول بوتومور أن يقدم لنا تعريفين متسقين لمصطلحي الثقافة والحضارة مع ما يتسمان به من عمومية على حد تعبيره، فالثقافة ” هي المظاهر الفكرية للحياة الاجتماعية ” وهي بذلك تتميز عن العلاقات الواقعية وأشكال العلاقات المختلفة التي تنشأ بين الأفراد، إذاً الثقافة هي المظاهر الفكرية لمجتمع معين كما يقول بوتومور كما يمكننا أن نقر بالتفرقة التي حددها فيبر للتمييز بين الثقافة والحضارة وذلك كأساس للتمييز بين الجوانب المادية وغير المادية.
وفي هذا السياق، سنحاول فهم مفهوم الثقافة بالطرق السوسيولوجية وبما أن السوسيولوجيا معنية بصورة رئيسية بالعوامل الاجتماعية مثلما هي معنية بالعوامل الثقافية. عليه يمكننا القول بأن علم الاجتماع الثقافي ” هو فرع من فروع علم الاجتماع العام الذي يدرس أثر الثقافة على الحياة الاجتماعية وأثر المجتمع على إعادة إنتاج مفهوم الثقافة بأطر مختلفة من خلال عملية التغير الاجتماعي “.
بمعنى أدق وأشمل هو العلم الذي يدرس الممارسات الثقافية أي العلاقة بين البنى المعرفية أو الفكرية أو الثقافية أو الدينية في علاقتها بالأطر الاجتماعية، أي أن هناك علاقة جدلية بين الثقافة والإيديولوجيا – البناء الفوقي وبين الواقع المادي الاجتماعي والبناء التحتي.
ويعرف ” جورج سبلمان ” Spillman علم الاجتماع الثقافي بأنه: ” العلم الذي يدرس كيف تحدث عملية إنشاء المعنى، ولماذا تختلف المعاني وكيف تؤثر على السلوك البشري الفردي والجماعي، وكيف أن طرق إنشاء المعاني أمر مهم بالنسبة للتلاحم الاجتماعي وللهيمنة والمقاومة في المجتمعات “.
ولعل إحدى النتائج الهامة من كل هذا، هو إقامة علم الاجتماع الثقافي كمجال للبحث في العلوم الاجتماعية، ومن المشاكل التي لم تحسم في هذا الميدان هو العلاقة بين الفروع المتنوعة الخاصة بعلم الاجتماع الثقافي وعلاقة بعضها بالعلوم الاجتماعية الأخرى خاصةً الانثروبولوجيا الثقافية .
وفي النهاية نجد أن علم الاجتماع الثقافي: ” هو أحد أهم فروع علم الاجتماع العام، الذي يُعنى بدراسة الثقافة كـخاصية إنسانية خالصة، بكل ما تحمله من سمات وخصائص ومكونات وبكل ما يرتبط بها من مفاهيم كالحضارة ومواريث المجتمعات والمفاهيم الثقافية المختلفة كالتغير والتطور والغزو الثقافي والصراع … إلخ ويدرس المتغيرات الثقافية في المجتمعات ومؤشراتها. أو هو العلم الذي يهتم بدراسة الثقافة وعلاقتها بالبناء الاجتماعي، ودورها في إحداث تكامل ثقافي أو تمايز ثقافي في المجتمع، ويهتم علم الاجتماع الثقافي أيضاً بدراسة السمات الثقافية والشخصية الاجتماعية وعلاقتها بالبناء الاجتماعي.
يسعى علم الاجتماع الثقافي إلى دراسة السلوك الإنساني الملاحظ، وما ينتج عنه من صناعة واستعمال الآلات والوسائل المستخدمة لاستثمار الطاقة، والتي تكوّن في مجموعها الطريقة الخاصة التي يتميز بها كل مجتمع إنساني عن المجتمعات الأخرى. كما يهتم بالدراسة العلمية للغة والقيم والمعايير والمعتقدات، والتي تؤثر على السلوك الإنساني والعلاقات الإنسانية التي تكون النظم الاجتماعية، جنباً إلى جنب دراسة الآلات والأدوات والمسكن والملابس وغيرها من الأنشطة المادية الثقافية وكيفية توافق الأفراد مع البيئة الطبيعية التي يقيمون عليها.
ويعد علم الاجتماع الثقافي من العلوم المهمة التي تُعنى بدراسة النسق الفكري للإنسان من تفاعلاته وانسجاماته وسلوكياته ورمزه المستخدمة في التعايش مع الآخرين، فهو الذي يدرس ثقافات المجتمعات وخصائصها ومكوناتها، ومنها يستطيع فهم التجمعات البشرية، ولعل أهم الأشياء التي يُعنى بها هي دراسة اللغة التي تعتبر وعاء الثقافة، وبها يمكن فهم المجتمع الإنساني، إنه بذلك يميط اللثام عن أسرار مجتمعة كانت غير معروفة سلفاً في بودقة العلوم الاجتماعية.
ومجال علم الاجتماع الثقافي بصفة عامة هو دراسة الإنسان من حيث كونه فرداً – فاعلاً ومتفاعلاً – وسلوكياته وتعاملاته ومعايشته للآخر ودراسة ثقافات المجتمعات . أي أن علم الاجتماع الثقافي يهدف إلى دراسة وفهم الظواهر الثقافية وتفسيرها في ضوء المقاربة• السوسيولوجية. بمعنى إيجاد مختلف العلاقات الممكنة والمحتملة بين الأشكال الثقافية والبنى المجتمعية من خلال وصفها وتحليلها وتأويلها، مع تبيان مختلف الوظائف التي تؤديها الأشكال الثقافية في المجتمع بالاعتماد على مناهج مختلفة. فغاية التحليل السوسيو/ ثقافي هو فهم الموقف وإعادته إلى جذوره، وتبيان آلية العناصر الثقافية المتعددة وتفاعلها، والمؤدية إلى كشف العناصر المضمرة والمستورة، بالإضافة إلى توضيح أهمية العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي، إلا أن الأهم هو تحليل أشكال هذه العلاقة وآليات اشتغالها، فضلاً عن إبراز الوظيفة الاجتماعية لهذا الإنتاج، وخصوصاً أن المنتجين والفاعلين يؤدون أدوراً قد يعونها وقد لا يعونها لصالح فئات أو طبقات أو سياسات معينة.
بناءً عليه يمكننا القول إن منهج الدراسة في علم الاجتماع الثقافي بشكل عام – كغيره من تخصصات العلوم الاجتماعية – ” هو المنهج العلمي وطرائقه بعبارة أدق منهج البحث العلمي الاجتماعي، بهدف الوصف، والتحليل، والتنبؤ حسب نطاق الدراسة “. أما بشكل خاص فإنه يعتمد على المنهج التاريخي، والمقارن، والتحليلي لدراسة المجتمعات الإنسانية، حيث يقول هربرت سبنسر: إن معرفة وظائف الناس كفيلة بمعرفة بنيتهم، فالمنهج التاريخي يعطينا معلومات مهمة عن سيرورة المجتمعات وتغيراتها السلوكية والرمزية، بينما المنهج المقارن الذي استخدمه كثيراً ألفريد فيبر في خلق مقارنة بين حال هذا المجتمع سابقاً وحالياً أو بين المجتمعات فيما بينها والتي نشأت بدرجة متوازية من حيث التطور والسلوكيات التي انتهجتها. ويعتبر المنهج المقارن الذي استخدمه الأب الروحي لهذا التخصص بمثابة النقطة الرئيسية لبدايته، حيث كان يسعى من خلال استخدامه لهذا المنهج الوصول إلى نظريات كبرى أو تعميمات شاملة، ولكن يؤدي به إلى زيادة تحديد الفروض وتخصيصها. كما ويقوم المنهج التحليلي على تقسيم أو تجزئة الظواهر والأطر الثقافية إلى عناصرها الأولية التي تكونها، لتسهيل عملية الدراسة، وبلوغ الأسباب التي أدت إلى نُشوئها، بهدف فهم المضامين الثقافية وما تحمله من معاني رمزية للأنشطة الاجتماعية لجماعة ما.
ومن المعلوم، أن منهج التحليل الثقافي المعاصر برز في البلدان الرأسمالية المتطورة نتيجة لإسهامات كتاب مثل: ميشيل فوكو، وهابرماس، وبيتر برجر، وماري دوجلاس … إلخ، ويزعم منظرو هذا المنهج أنهم يقدمون رؤية أفضل لقضايا العالم المعاصر بعد عجز المناهج التقليدية عن تفسير تطورات ما بعد الحداثة التي أهمها سقوط النظريات الكبرى، ويرون البديل في الأنساق المفتوحة.
أما عن علاقة علم الاجتماع الثقافي بالعلوم الأخرى، فقد ارتبط علم الاجتماع الثقافي ارتباطاً وثيقاً ببعض العلوم الاجتماعية خاصةً والإنسانية عامةً وعلى رأسها علم اجتماع المعرفة حيث تختلف رؤى العلماء والباحثين حول علاقة علم الاجتماع الثقافي وعلم اجتماع المعرفة، فالبعض يرى أن علم الاجتماع الثقافي هو فرع من فروع علم اجتماع المعرفة. وانطلاقاً من تعريف تايلور الشهير لمفهوم الثقافة نجد أن مجال علم الاجتماع الثقافي يتسع ليشمل دراسة المعرفة، والفن والدين، والأدب، والسينما، وعلاقة وسائل الاتصال بالثقافة وعلاقة التكنولوجيا الحديثة بالثقافة والبناء الاجتماعي. لكن التداخل بين مجالي اهتمام علم اجتماع المعرفة الذي يتركز في علاقة المعرفة بأساسها الاجتماعي، وعلم الاجتماع الثقافي الذي يتركز اهتمامه حول علاقة الثقافة بأساسها الاجتماعي يتضح بشدة في العقود القليلة الماضية. أما عن علاقته بالانثروبولوجيا الثقافية نجد أن كلاهما يدرسان ثقافات الشعوب وصور الثقافة سواء لدى الشعوب الحية أو تلك المنقرضة، وأشكال الحياة الاجتماعية الثقافية فيها. كما يرتبط بعلم النفس الثقافي وهو العلم الذي يختص بدراسة الظاهرة السلوكية للأفراد باعتماد أن السلوك خاصية متفردة بين كل فرد وآخر وفعل لا يمكن توقع ردود أفعاله والسمات الثقافية المؤثرة في السلوك المتفرد والمتأثرة به، ويرتبط كذلك بـالتاريخ بصفته حاملاً ناقلاً لذاكرة الشعوب فهو يهتم بتدوين تاريخ الشعوب ومحطاتها وتفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية ومجموع الانجازات. كما يرتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً بميادين علم الاجتماع الأخرى كعلم اجتماع المسرح كون المسرح روح الشعوب والحضارات والمسرح سمة ثقافية تدخل في عنصر الموروث الفكري والإبداعي الفني، وعلم اجتماع الفن الذي ينزوي في عنصر الفنون باعتبارها مرآة الواقع، وعلم الاجتماع الحضري وعلاقة الحضارات بـالإنتاج الثقافي النهضوي، فالمجتمعات التي عرفت نهضة فكرية دائمة استطاعت تحقيق نهضة علمية حضارية لاحقة، والعكس أيضاً فالمجتمعات التي حققت نهضة علمية صناعية شهدت حالة من الاستقرار أسست لظهور نهضات فكرية فنية ثقافية
بناءً على سبق، يبدو لنا واضحاً مدى صعوبة الفصل ما بين الثقافة والمجتمع، إذ إنهما متكاملان، فلا وجود للثقافة من الأصل لولا وجود مجتمعات تتبناها، ولا وجود لمجتمعات دون ثقافة تنظمها، إذ إنها تتحول إلى غابة، وأبسط مثال على ذلك اللغة، حيث تعتبر اللغة المكون الأول للمجتمعات، والموروث الثقافي الأهم لأي مجتمع ولولا وجود اللغة لانعدمت أهم وسيلة اتصال بين الناس في المجتمع، ولذلك فإن أي محاولات للفصل ما بين المفهومين ستذهب سدى. كما هو حال الإنسان إذ يتأثر بعوامل خارجية، كذلك أيضاً نجد أن مفهومي الثقافة والمجتمع يتعرضان اليوم للعديد من التحديات، ولعل أبرز التحديات هو تحدي العولمة ( العولمة الثقافية )، الأمر الذي أفقد المجتمعات خصوصياتها الثقافية، فبدا العالم كقرية صغيرة مفتوحة على بعضها، مما جعل الكون يبدو كأنه ثقافة واحدة، وبالتالي شعور الإنسان نفسه في حالة اغتراب عن مجتمعه، فمن ناحية يخضع لمنظومة ثقافية واجتماعية على أرض الواقع، ومنظومة ثقافية واجتماعية على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
هذا السياق، أسس لبروز مفهوم الاستعمار الجديد الذي يسعى إلى توحيد العالم تحت سيطرة المركز لتصبح ثقافته هي نموذج الثقافات. ويتم تنميط كل شيء بحيث يختفي الخاص لصالح العام الذي كان في بدايته خاصاً، ثم أصبح عاماً بفعل القوة، فمهما نبه علماء الاجتماع على أن المعرفة قوة (فوكو) أو المعرفة مصلحة (هابرماس)، وباسم المثاقفة يتم انصهار الهويات الثقافية الخاصة مع الثقافة المركزية، ويعني القضاء على ثقافة لصالح ثقافة أخرى، أي ابتلاع ثقافة الأطراف داخل ثقافة المركز، وتخفف بعض المصطلحات الأخرى من مستوى عدم الندية بين الثقافات، فتبرز مفاهيم: التفاعل الثقافي، التداخل الحضاري، حوار الحضارات، التبادل الثقافي، وهي مفاهيم تنتهي إلى أن ثقافة المركز في الثقافة النمطية ممثلة الثقافة العالمية، والتي على كل ثقافة احتذاؤها. ومن هذا المنطلق يأتي دور كل المجتمع في تحديد ما يتناسب مع ثقافته، ومعاييره، وأخلاقياته ليعمل متكاتفاً للتصدي لكل ما هو دخيل عليها ولا يناسبها دون التعرّض لحقوق المواطن المتعلقة بخصوصياته وحياته. كما يتوجب على القائمين في رعاية الشؤون الثقافية الوطنية المحافظة على خصوصيتها وحمايتها من الاندثار والذوبان الثقافي في عصر يتسم بالصراع الثقافي الذي يرفع شعار البقاء للأقوى. فالثقافة نتاج للاجتماع الإنساني فلا وجود للثقافة دون مجتمع إنساني ولا وجود للمجتمع الإنساني دون ثقافة ما، فهما ظاهرتان متماسكتان أشد التماسك حيث يشبههما كروبر Kroeber بأنهما كسطحي الورقة في تلاصقهما فإذا محونا من أي مجتمع إنساني ثقافته فإننا بذلك قد سلخنا عنه بشرته، وهذا تأكيد للعلاقة الجدلية القائمة بينهما.
——
* الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة- قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً