قالت:
جاءني من كل صوب وحدب، نداء خفي خفيف، رائق الذوق، لا هو بشهد أو عسل، هو أشهى من الزلال، من القراح، من اللذة، من السلسبيل، نورا من غير لون، لا يدركه بصر ولا تحسه القلوب، يذوب في نوره نور، يتكور كجنين في رحم يسرع نحو التعلق في رحم قبلة كانت هنا، حيث خطواتي، بين قُدسي ومُقدس، قدس وأقداس، منها يعبر نحو بيت عتيق مُعتق، كعكا وهي ترصد الموج وتعد رحلاته بخليط من أنفاس قبر في المدينة، ينفلت النور نحو المُنورة، يختلط بها، ويعود، رأيته وهو يقترب مني، أحسست بالنبوءات كلها ترسل روائحها، لتعطي النور المندمج بالنور، رائحة عيسى عليه السلام، ليس بعيدة عني، مسافة قصيرة بين حيفا والناصرة، ومسافة قصيرة بين حيفا وبيت لحم، ومسافة تتنفس المسافات بين الإسراء والمعراج في القدس.
قالت:
كم هو حنون ذاك النداء، حين وصلت مكان خطوة محمد عليه السلام، ومددت يدي مكان قدمه، تعطرت برائحته التي لا تترك الصخرة التي طارت شوقا وولها نحوه حين كانت السماوات تستعد لاستقباله، ليكون قاب قوسين أو أدنى، النداء الذي يصلني قريب من كل هذا، من خطوات فاروق فرق بين باطل وحق، هز بأنامل من تقى وخشوع الكون، وجاء من أقصى المدينة يسعى وهو يجر خادمه للقدس، ليثبت النور بعهدته التي حقنت دماء الناس، ونفلتهم لذمة الله ورسوله.
وقفت هناك والنداء يواصل اندماجه بأعماقي، والنور يرفع النداء للروح وهو يربأ بذاته من الاتصال بالجسد، رأيت الأقصى يعج بالأنبياء وهم يقفون خلف محمد صلى الله عليه وسلم، يكبرون ويهللون، طار قلبي من مكانة، وقفزت روحي قفزة زهو وفخر وفرح، وحاصرني نداء الأنوار كلها وهي تتوحد حيث أقف الآن أنا، فأتحول لقطعة من نور تركض نحو الأنوار التي توحدت في المشكاة التي تحمل المصباح الساكن بزجاجة، يكاد زيتها يضيء دون نار، وأركض وأنا أتحسس الأرض، هنا إبراهيم، وهنا موسى، هنا زكريا، وهناك نوح، ليس بعيدا أيوب ويعقوب وداوود.
هنا السماء كلها جاءت مرة واحدة خاشعة خاضعة، قلوب انقطع تكراراها على الأرض، لكن القدس، لم تنقطع عنها رائحتهم وهم يرسلون التأوه والإنابة للسماء، وأنا هنا في مكان جمعهم، مرة واحدة، وأخيرة، على الأرض، أقف معبأة بنداء قادم من طريق المعراج بنور يستدعيني برأفة تكاد تخطف الأزمان كلها برمشة عين طفل خرج توا من الرحم للدنيا.
قالت:
كنت معلقة بين نور ونداء، فأنا فيً من التراب، قلبا رقيقا ناعما، يهوي إليك وأنت بعيد، يطير نحوك بشوق الأخوة، ألست أنا من حملك وأنت تصرخ رافضا الوجود بعد خروجك من الرحم؟ ألست أنا من كانت ترسم على ظهرك علامات القوة لتكون سندي يوم تحاصرني الهموم؟ متكأي يوم تتكالب المتاعب؟ ألست أنا يا أخي من كانت تلوك اللقمة بفمها وترطبها برضابها كي تستطيع أنت بلعها؟ ألست من كانت تنفخ شهيقها بفمك حين تسعل كي أفتح الحياة؟
قالت:
بين فاصلين أحبهما، أعشقهما، أقف مثل نجمة صغيرة بين مجرات وفلك، نداء النور الذي يناديني، نور النداء الذي يستدعيني، وأنت يا حبيبي وأخي، مهجة قلبي ونواة روحي، رائحتك تستعمرني، بسمتك الصغيرة يوم كنت تشبع من طعام كله قد تزكى بريقي وأنفاسي، أتعلم أنني ما زلت اتذوق طعم ريقك يوم كنت أقبلك تقبيل يمامة لفراخها وهي تطعمهم من معدتها؟ لا أعرف إن كنت تدرك كم كانت الدنيا تصغر بعيني أمام ابتسامتك المفاجئة وأنا أتحسس ظهرك بأناملي كي تشبع عواطفي من براءتك؟ بيني وبين أنفاسك أزمنة وأمكنة، عوالم وأكوان، كلها ترسبت بأعماقي حتى ظننت في كثير من الحنو والحنين، بأنك جنيني الذي يعيش برحمي، وبرحم قلبي، برحم روحي، برحم كبدي، برحم لهفتي عليك يوم كنت تشرق بشربة ماء أو لقمة طعام، بفرحة أو بكاء.
أتذكر يوم قلت بأن معتصم قادم من صلبك؟ كيف وصلت أحلامي وآمالي، تطلعاتي وأمنياتي، سعادتي؟ يومها جاءت البشرى محملة على صهوات من ضياء مسحوب من نور، همست لي همسات غيب تخفيه الأصائل بالصهيل، يومها كنت في حيفا، فحملتني النسيمات برقة قوادم بلبل، على سرعة تطوي المسافات، كنت أود أن أكون هناك، لأراه وهو يصرخ مستقبلا الدنيا، أن أحمله كما حملتك يوم خرجت من الرحم، أشمه كما شممتك، أتذكر ماذا قلت لك: رائحته معهودة، متغلغلة بأعماقي، راسية في مرافئ تكويني، يوم ضممته بصدري قلت لك: بأني ما زلت أضمك أنت، أخفيك بما فيً، بما في الأمهات، الأخوات، أنت تبسمت يومها، بسمة صغيرة شفافة، فرأيت الفرح ينشق من عينيك بساتينا خالية من الورود، لكنها مشتعلة بالتوهج والتفجر والروائح السيالة على ضفاف الذهول من توحد المولود بِعَمًتِه أكثر من توحده فيك، قلت أنت يومها: هذا أنا الذي تحملين الآن يا صبحية، بين يديك، على صدرك، في عينيك، في طيبتك التي تلم الأكوان لتضعها على جبهتي، في ريقي الباحث عن ثدي الأم ليرضع شيئا من مادة، بعد أن بذرت فيه كل النقاء والصفاء، ورويته بماء حنانك الذي يقبض على الزلازل والبراكين، فتهدأ خجلا من انتفاضات الحلم على قسماتك وملامحك.
قلت أنا:
دائما كنت أهمس لنفسي، لخلوتي، لنزواتي المحمومة، غضبي الذي يطيح بحكمتي، بأنكِ من تضعني على قمة الألم، كنت وأنا أراك تتنقلين بين الشوق، وتحطين فوق التوق، ترفرفين بين الرحمة المعطرة بالسماحة، أقف بين العجز والعجز، بين الكساح والكساح، أنت من تراب خصب مخصب، تنبع منه وفيه حيوات وحيوات، تنبثق منه الأنهار المصفاة، يحتضن المطر، يثبت الجذور، يترك للبراعم حرية الخروج لاستقبال الشمس، وأنا مجرد صخرة، جلمود، فيه قسوة الجبال وغلظة المرتفعات، يحبو أمام تربتك في محاولة التحطم والتناثر ليتحول بين قدميك ترابا يشبهك، فأعجز، شلل عظيم يتمكن مني، وحسرة حامضة لاذعة تخطف فمي وتجففه، أكوم نفسي على نفسي، طلل فوق طلل، تمر الرياح عنه بلا اعتناء أو مبالاة، تنظر القوافل وكأنها تتساءل عن قيمة الماضي الذي يسكن الحاضر، وتحط الطيور لتعزف أغنيات الوداع، لكنك في تلك اللحظة، في اكتظاظها، تشظيها، كنت تطلين من بين خيوط الشمس، تبتسمين ابتسامة تنير الشمس ذاتها، وتلتفين على عذابي موجة ناعمة خالية من الملح، موجة ثجاجه، مرنة، تدور بين النور والضياء، تفتحين شراييني وأوردتي، تتصلين بحبل الوريد، وتضخين فيهما مما فيك، أتحول لتربة تشبهك، يفتك بياضها بشفافية زهر اللوز المعلق كأجراس فردوسيه، تماما مثل القرية التي تشمك كل صباح وهي محملة بأنفاس حيفا، قرية الفراديس، التي نادت جسدك وهي تقف على العقم والبوار، كي تمنحي فراديسها فراديسا منك تتجدد وتتجدد، تتناسل في كل لحظة، كي تبقى كما هي الفراديس التي يتسلقها التوق والمشتهى، وكي تبقى متصلة بالجنان المولودة من جنانك.
قالت:
أتذكر يوم كانت الدنيا ملك سبابتينا؟ يوم كانت الأكوان بحجم قبضة يدينا التي تتساوى مع قلبينا؟ يوم كنا نجني الأقمار، ونقطف النجوم، نضعها في حضنينا، ثم نمسك حبات المطر، نخلطها بحلمينا الصغيرين، ننظمها قلادة، ننادي على الطيور المهاجرة، ونعلقها بأعناقها لتكون بوصلتها ودليلها وهي تتنقل بين المسافات المنزاحة عن الزمن والمكان؟ يوم كنا نهرب من والدينا؟ نحو السهول التي تنادينا بود كي نقطف النرجس والحنون والفل والياسمين البري؟ هناك كنت أحمل لهاثك بين أناملي، أطهره بطهري، وأعيده لك مع لهاثي، كي أوقف ارتجاج صدرك المنهك من الفرح؟
أحببتك يا أخي هكذا، بعفوية، بفطرة فطرني عليها العظيم، البارئ، اللطيف، الخبير، ببراءة، بسهولة، بسليقة كامنة بالغريزة، متوثبة بالطيبة، لم أكن بحاجة لمفردات وبلاغة، قواميس، ولا موسوعات، لم تكن العلوم كلها تمر بخاطري لوهلة، كنت أعلم بأنها قاصرة تماما، قصور الجهل والغباء والعجز، ومغرورة غرور الكذب والرياء والتدليس، خالية من الحق الذي يسير بعوالمي وأكواني، بمشاعري وأحاسيسي، كنت ببساطتي البسيطة إلى حد النقاء أدرك إدراك يقين موثق بيقين، بأن علوم الأرض منذ خلق آدم وحتى قيام الساعة أعجز من وصف دمعة سقطت وهي مختلطة بالحزن والفرح والدهشة واللهفة في ذات الآن، قل لي يا أخي: كيف سيستطيع العلم أن يفصل من تلك الدمعة، كل التمازج والاختلاط، وهو لا يعرف شيئا عن تكوينها الذي بقي كامنا في العين التي اسقطتها؟
لا أريد أن أشرح حبي، تشريحه بعبارات وكلمات، رسمة ببلاغة شعراء، فأنا أربأ بإنسانيتي التي شكلها الخالق أن تخضع لمخلوق دعي يبحث عن ذاته بين المرايا وعدسات التصوير، جاحدا المجهول الذي يتجول فينا كي يأخذنا نحو الذهول الذي يقودنا للبحث عن ذواتنا في روح بثها الله فينا من ذاته، أنا أحبك من هذه الروح التي تتصل بالمعجزة التي لا معجزة بعدها أو قبلها.
سأحملك معي هناك، كما حملتك هنا، بنفس الحب الذي فطرني الله به عليك، حب خالي من الشوائب، من المخلوق، من التشوه، ليبقى في النداء الذي ينادي الروح، ويدعوني بشفافيته للتوحد في الحياة القريبة من الخالق، هناك سأضعك في روحي وأنا في حضور الغيب الذي انفتحت كوة منه علي منذ جاء النداء.
قلت:
حبيبة الحب والعشق والوله والصبابة، لن أدعي أبدا بأنني أملك شكيمة من يستطيع أن يخلع الحزن من منابته أو فروعه، أن يجتث الأسى من جذوره أو سيقانه، كان يمكنني ذلك لو لم تكوني أنت حزني وأساي، أنا لا أعرف كيف سأكون كائنا لو مسك الرحيل، أو لمسك الغياب، من سيأتي من بعيد وهو يدفع الدنيا كلها أمامه حين أصل الوطن ليلفني في ماضيه وحاضره ومستقبله؟ أي صوت سيشبه صوتك حين تلهجين بلغة القلب ومفردات الروح بالدعاء؟ من سيمسح على صدري بيد تشبه يدك أنت؟ أي شفاه على الأرض يمكن أن توقظ الرحمة على وجناتي وخدودي؟ وأنا الذي يشبه الجلمود، أي يد سأنزل لها راضيا بفمي وقلبي وروحي لأسحب منها الحنان والطيبة؟ أي قدم سأهبط عندها ألثمها وألثمها، أشمها وأشمها، أتعطر بأريجها وأمتص رحيقها؟ كيف سأرى الشروق وأنت قد انسحبت من تكوين النور؟ كيف سألمس أولادي، أحفادي، الذين يعيشون فيك؟ في حبات عرقك؟
قال لي أولادي لحظة انهياري: تماسك، نحن نعرفك أقوى من ذلك، وقال الغرباء الحزن ليس للرجال، لكن الحزن ناداني، قال: أنا معدن الوفاء، لا تسمع صوتا غير صوتي، كي تبقى على صلة بكل ما فيك، بكل ما فيها، لم يفهم الناس سر الوفاء بينكما، لأنهما لم يدركوا بأني الفرح الدائم الذي يشدكما نحو البقاء في رجاء الخلود عند من خلق الزوال والفناء.
قلت للحزن: لا تفارقني، كن أنا أنت، وأنت أنا، وابحث في طيات عمرها عن كل لحظة كنت أنت ساكنها وزائرها، أنقلها لي، ضعها في عمق قلبي وغور روحي، ونادي الألم ليبقى في ذواتي كلها حارسا على أبواب العذاب الذي يمدني برائحتها، علني أوفيها قليلا من فيضها الذي لا ينضب.
مهداة إلى أختي صبحية أحمد مصطفى محمد زيدان، وفاء لكل شهقة وخفقة، لكل الأمومة التي فاضت منها علينا، فكانت التسامح، وكنا الجحود، علها تكون بإذن الكريم صدقة جارية عن روحها الشفافة شفافية النور.