قبل دخول اتصالات المغرب إلى بوبومالن دادس، كان أحد العمال السود وإخوته يشتغلون مع أخيهم الأكبر في البناء. وهم من منطقة تنغير يسكنون ب(كراج) محاذ للبيت الذي اقطنه. يستيقظون باكرا، فيحدثون ضجيجا قويا أثناء فتح باب (الكراج). غالبا ما يوقظونني من النوم ساعة أو ساعتين قبل الوقت. قمت مرة غاضبا. فتحت الباب، وجدت أصغرهم يغني (لا برية لا تيليفون) في الساعة الخامسة صباحا. شتمته وسألته ساخرا : من هي هذه (المتعوسة) التي ستكتب لك رسالة أو ستحدثك بالهاتف في الخامسة صباحا ؟
بعد قضاء شهرين أو ثلاثة بالمنطقة، نحن أيضا نتحول إلى كائنات متوحشة، لا تعيدها إلى طبيعتها البشرية إلا رسالة عاطفية قادمة من خلف مرتفعات جبال تيشكا الأطلسية. رسالة قد تأتيك حتى القسم، وتُلهيك عن الدرس الذي كنت تقدمه لفصلك. تنتظر أن يرن الجرس، لكن عقارب الساعة تتحرك ببطء مميت مثل سلاحف مريضة أو مسنة.
في بومالن كنت أجد صعوبة كبيرة في التواصل مع الأهل بمراكش. اقضي أحيانا نصف يوم بكامله في مركز البريد، وقد لا يسعفني الحظ أو الخط في سرقة لحظة جميلة قد تكسر رتابة الأيام التي تتشابه.
بريد بومالن يربط الخط بورزازات. وبريد ورزازات يربط الخط ببريد مراكش، وأنا على الجهة الأخرى أنتظر. قد يتم الاتصال اليوم أو غدا أو بعد أسبوع.
كل أنصاف الأيام التي لا اشتغل فيها اقضيها داخل مركز البريد. وقد أنتظر أسبوعا بكامله لأحظى بمكالمة هاتفية مع الأهل لا تستغرق أكثر من دقيقتين أو ثلاث، تمر في رمشة عين. وسيطلب منك المسئول في البريد مبلغا خياليا قد يضاهي أجرة نصف يوم.
بعد حوالي أسبوع، قبل غروب الشمس، جلست أمام باب البيت. الجلوس بهذا الشكل عادة قديمة ورثتها عن الحي عندما كنا نقضي أوقات فراغنا الطويلة أمام المقهى نحتسي القهوة وندخن ونتبادل الحديث. أشعلت سيجارة، وبللت حلقي بقليل من الشاي، ثم وضعت الكأس جانبا.
كان العامل الصغير متكأ على ركن الجدار بمحاذاة باب (الجراج)، ينظر إلي بحذر وتجهم. لا ادري فيما يفكر. ربما كان يشتمني في صمته. الآن مزاجي رائق يمكن أن اعتذر له بطريقة غير مباشرة. سألته عن اسمه، والمنطقة التي قدم منها، وعن أسرته، ووضعه الاجتماعي ومستقبله.
قال المسكين بأنه يعمل من شروق الشمس إلى غروبها في البناء مقابل اجر زهيد يحدده أخوه المقاول. يحلم بجمع مبلغ من النقود، ويُفكر في فتح دكان لتصوير الفتيات المراهقات اللواتي يذهبن إلى المدرسة في مكان قرب منطقة (تازرين). يسكنه وهم الزواج بفتاة بيضاء مثل الحليب. العمل مع شخص يجمع بين الأخ ورب العمل والبنكي عمل محفوف بالمخاطر، قد يؤدي إلى انهيار الحلم في أية لحظة.
(تازارين) كانت في بداية الثمانينيات من أفقر التجمعات السكنية في الإقليم. تفصل بينها وبين بومالن جبال (كنيون). وكانت تعتبر منطقة تأديبية لرجال السلطة. تعتمد في موردها الاقتصادي على الحناء. جمع كيلوجرام واحد من الحناء يُكلف العائلة مجهود يوم بكامله، وثمنه لا يساوي حتى طعام الفطور.
في نهاية الثمانينات دخلت اتصالات المغرب إلى قرية بومالن. أول مرة أقف أمام الصندوق الذي يُعلق فيه الجهاز. لم يسبق لي استعمال هاتف بهذا الشكل. أدخلت قطعة من فئة خمسة دراهم. أخذت السماعة. ارتبكت! ربما لم أضغط بالشكل المطلوب على الأرقام، فلم أتمكن من إجراء المكالمة. ضاعت خمسة دراهم. شتمت الجهاز، وضربته بكفّي حتى آلمتني يدي، ثم ركلته برجلي.
في اليوم الموالي، وصفت ارتباكي لأحد الأصدقاء بالدهشة الناتجة عن الاصطدام الحضاري مع التكنولوجيا الجديدة.
المعجم:
ـ لا (برية) : لا رسالة
مراكش في 18 يناير 2018