ظهر فن كتابة القصة القصيرة كلون من ألوان الأدب الحديث في أواخر القرن التاسع عشر.. برع فيه أنتون تشيكوف وأرنست همنجواي وموباسان وغيرهم..
ويصفها الدكتور رشاد رشدي بأنها تروي خبرًا ولكن بتفاصيل من نسج الخيال، ولكن كما يقول فليس كل خبر يعد قصة قصيرة؛ فالشخصيات عند د. رشاد رشدي تكمل الحدث بل يعتبر الحدث هو الشخصية ولو أن الكاتب اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لكانت قصته أقرب إلى الخبر المجرد منها إلى القصة.. لأن القصة إنما تُصور حدثًا متكاملا له وحدة، ووحدة الحدث لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل..
أما الكاتب الكبير عباس العقاد فيقول: القصة القصيرة أو الحكاية لا تتسع لرسم شخصية كاملة أو عدة شخصيات كاملة من جميع جوانبها.. ولكنها تعطينا لونًا من ألوان الشخصية كما تتمثل في موقف من المواقف فنفهمها بالإيحاء والاستنتاج..
أما في الأدب العربي فلا يمكننا تحديد توقيت ميلادها؛ فقد اشتهر العرب بأسلوب الحكي من خلال سرد الأساطير والحكايات منذ عصور قديمة، كما وردت في القرآن الكريم مما ورد في قصص الأنبياء، وتطورت في العصر العباسي وانفتحت على الحضارات الأخرى بعد الفتوحات الإسلامية فكان نتاجها قصص كليلة ودمنة وغيرها..
ومع التطور والسرعة التي اتسم بها عصرنا الحديث، نالت القصة القصيرة نصيبها من هذا التطور؛ فتعرضت للاختزال والإيجاز، فصارت تتسم بالتكثيف والغموض مما فتح للتأويل أبوابًا شتى يفهمها كل قارئ برؤيته التي قد تختلف عن رؤية الكاتب بسبب ما قد يكتنفها من غموض. ولا تختلف القصة القصيرة جدًا عن القصة القصيرة في البناء من حيث الحكائية وما يميزها من إيجاز وتكثيف مع الحفاظ على الرمزية والإيحاء في أسلوب جمالي لا يخلو من المحسنات البديعية مع الحفاظ على الغموض.
أقبل العديد من الكتاب على فن القصة القصيرة جدًا رغم تحفظ البعض منهم، مما خلق حالة من الحراك جعلت النقاد ينقسمون إلى فريقين فريق يرى التكثيف والإيجاز تحديًا لقدرات ومواهب الكتاب حيث يبرعون في تقديم عمل متكامل وسرد قصة كاملة في بضع كلمات، حالة من التكثيف تحتاج لمهارة وخبرة ودقة عالية، بينما يرى الفريق الثاني أن الكثير من الكتاب قد أخفقوا في تقديمها بالشكل الصحيح فظهرت بصورة ومضة غير مكتملة أو نثر دون اكتمال أركان القصة.
ولكن ذلك لا يعني عدم اهتمام الكتاب العرب بها؛ فها هي مجموعة أحلام فترة النقاهة للكاتب نجيب محفوظ خير مثال على القصة القصيرة جدًا، ويوسف إدريس وغيرهم..
وقد لقي فن القصة القصيرة جدًا استحسانًا عند الكثير من الكتاب في الجزيرة العربية ومنهم الكاتب السعودي حسن البطران الذي أصدر أكثر من عشر مجموعات في القصة القصيرة جدًا.. نتناول منها اليوم مجموعة “أصغر من رجل بعوضة”.
ولعلنا نتساءل لماذا اختار الكاتب رجل البعوضة لتقصر حينًا حينما يقل عدد كلمات القصة، وتطول حينًا آخر مع طول السرد، تتنقل من مكان لمكان حاملة على جناحيها حكايات ذات مغزى ودلالات تسهم في حالة الإبهام والانزياح التي تحملها القصة القصيرة جدًا. ولعل فكرة التكثيف والإيجاز المفعمة بالغموض تفتح للقارئ آفاقًا للتفكير والتحليل والتأويل.
قسم الكاتب المجموعة إلى ستة عشر قسمًا أو ثلاثية تتناغم كل منها في الفكرة والمضمون، يبدأها بعنوان “ونبدأ بملاحقة البعوضة” ثم يفاجئنا بثلاثية تحمل عناوين: تبرير، فلتر، عقدة عالية.. ويفسر لنا مفهوم الستر عند البعض،
فنجده يقول في قصة تبرير: ” سترت جسدها خوفًا من البعوضة، صُفق لها في حفل مصغر..!!”
ومن بعدها قصة فلتر: “أراد أن يقفز من السطح، فقفز إلى السطح…!”
ثم في قصة عقدة عالية: “أُبعد عنها، تناثرت حبات المسبحة…!”
وهنا يصف الكاتب حالة المجتمع الذي انشغل بالمظاهر، ولم تعد فكرة الستر تشغل بال الأفراد، فانشغلوا باستعراض تفاصيل حياتهم، ينتظرون التصفيق والإعجاب حتى ولو على حساب خصوصيتهم التي انتهكت ولم تعد لها أية قدسية كما في قصة تبرير. وحتى عندما يحاول أحدهم التخلص من هذه الحالة فهو ينتقل من حالة إلى أخرى يدور في نفس الفلك، وتشغله فكرة الظهور على السطح تحت الأضواء كما في قصة فلتر، وأما في قصة عقدة عالية فنجد حالة من تزعزع الهوية واهتزاز الشخصية التي أصابت الأجيال الجديدة التي انساقت خلف أفكار العولمة وجرفها تيار التكنولوجيا وانبهرت ببرامج التواصل وما تحمله من سلبيات وعادات غريبة على مجتمعاتنا.
ونتنقل مع السرد لنقف عند هذه الثلاثية “ذيل ثعبان”:
امتد عطاؤه سنوات..
غفل برهة، طعنته في ظهره، لم يسقط، بقي متوازنًا، لم يُصفق له..!
لبست البياض وتبعته سريعًا بالسواد…
وفيها يرصد الكاتب حالة نكران الجميل، ونسيان سيل العطاء لمجرد توقف سريانه لبرهة، وهذا هو حال البشر في وقتنا هذا بعدما أصبحت لغة المصالح هي المتحكم الأمثل في سلوكياتنا، ونكران الجميل السمة الغالبة في تعاملاتنا.
وأما قصة “بدون عمق”:
فتح دفتره، كتب فيه كل من رآه..
تحلل حالة السطحية التي يعيشها الكثيرون الآن وخاصة الشباب، وهم يتأثرون بأي عابر يمر في حياتهم ويغير من سلوكياتهم، وذلك لفقدان المرجعية والهوية والانتماء..
ثم قصة ثقوب متباعدة:
يجمعهما سرير واحد، لكنه مثقوب.. تحاول تقترب منه، يتظاهر بالمرض..!
هذه القصة التي ترصد حالة الجفاء والانقسام التي ضربت جذورها بين الأزواج فصار كل منهما يعيش في عالم منفصل رغم تواجدهما في نفس المكان.
وهكذا ترصد البعوضة زعزعة الاستقرار والأمان النفسي في المجتمع وتحولات الشخصيات والسلوكيات الدخيلة عليه من خلال جرعات مكثفة من السرد تثير حالة من الزخم الفكري والعصف الذهني لنتفكر ونعيد النظر في كثير مما يدور حولنا وهذه العادات التي تتسرب إليها في هدوء لتتمكن منا وتسيطر على أفكارنا.
المراجع والمصادر:
فن القصة القصيرة د. رشاد رشدي
ألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي عباس العقاد