
حين سمعت لأول مرة أغنية حسين الجسمي” الأماكن كلها مشتقالك” ، لم يثرني فيها الإشتياق؛ بقدر ما حرك أوثار قلبي الكلام عن الأمكنة. ربما لأن هذه الأخيرة تظل شامخة في مواقعها تستقبلنا بالأحضان مهما كان حالنا، بذلك فهي تخبرنا شيئا عن الوفاء و الولاء، فلا تُجْبرنا على مكابدة شجون الإشتياق و تداعيات نوبات الفراق.
سأكتشف بوحي من التجربة و ليس الجسمي هذه المرة، أن هنالك أماكن أخرى بمثابة مقابر قبل الأوان، يدخلها المرء وردا نديا نضِرا و مفعما بكل الآمال؛ فيخرج منها جثة هامدة ، خاملا في أن يخطو نحو أيامه المتبقية كأنه من المسرنمين. تلك هي أنواع الأماكن التي تطفئ جذوتك,تخمد ضوئك و لو كان مجرد شمعة نحيفة تذوب في رمشة عين تاركة إياك في عهدة العمى العاري. بالمقابل ثمة بقاعٌ في العالم حتى سماؤها تكون مبتهجة، محتفية بجُودِ الأرض و فيوضاتها محتفلة بجوْدة واطئيها
يتجلى النموذج الأخير عندما تطالع تقريرا عن أفضل مدن للعيش في العالم سواء فيينا النمساوية او تورنتو الكندية , تتأكد آنئذ أن الأماكن التي نسكنها أكبر من مجرد بقعة جغرافية ثابتة، بل كائنات حية تدب فيها الحياة، لتنقلها لساكنيها دونما شعور فتتحول آنذاك تلك البقع الجامدة إلى مشاعر و مُثلَ عليا، عندما تصير متماهية مع الإنسان تتواصل معه تؤثر فيه و تحس به؛ مانحة معنى لصيرورة عيشه من قبيل قيمة الأسرة و نكهة الأعياد و حميمية لأصدقاء، و هي أمور تكون حقيقية فقط بوجودها في مكانها الأصلي و بالتالي فكل انتزاع للفرد أو للجماعة من ذلك الاصل يعني تمزيقا لرباط مقدس بين كائن حي و مجرد بقعة جغرافي. أقل لفظ يستعمل ّللتعبير عنه هو الغربة
أتذكر هنا في السيرة العطرة لرسول الرحمة مناجاته الداخلية الخالدة إزاء مكة لما اُكره على الرحيل منها قائلا لها ما معناه : و الله ما تركتك لو أني لم اُكره على ذلك
أما أثقل مفردات هذا التفريق فهو الترحيل و التهجير و اللجوء و هي أضواء كاشفة لقساوة ما حدث للفلسطينيين مثلا أثناء قيام إسرائيل من تشرد و اضطرار لمغادرة أرضهم , و هو فعل جرمي أكثر مضاضة من تعذيب شخص داخل أرضه الأصلية, فداخل أمكنتنا التي ننتمي إليها يهُون الفقر و التجويع و المظالم. في حضنها يصير مفعول تلك المساوئ اقل فأقل. هذا الحضن يتجسد نفسيا في اعلى هرم المشاعر ، حين نسمي المكان الذي ننبث فيه و لا يمكنناالتنفس اي العيش خارجه بالوطن
أتذكر هنا أغنية روسية أثناء الحرب العالمية الثانية كان ينشدها الجنود الروس تقول
إذا فقد الجندي ساقيه في الحرب يستطيع معانقة الاصدقاء
إذا فقد يديه يستطيع الرقص في الأفراح
و إ ذا فقد عينيه يستطيع سماع موسيق الوطن
و إذا فقد سمعه يستطيع التمتع برؤية الاحبة
و إذا فقد الإنسان كل شيء يستطيع الإستلقاء عل ارض وطنه
أما إذا فقد أرض وطنه فماذا بمقدوره أن يفعل