هناك كثيرون يُسحقون رحى الأسى في حشاهم يطحنون سنابل العمر يكتوون، لكن لا يحسنون رسم أوجاعهم عن مداها يكتبون. فعوالم الشعر لمسة الفن يجهلون. الفكرة لديهم تعانق البحر والكلمة تشكو الألم الذي يحملون. في الشعر تجد الأحاسيس تغني، الأفكار ترقص على أوتار الليل. الشاعر كالسفينة عرض البحر . يحمل مشاعره، أفكاره ماخرا عباب الجمال. يسكن في داخله العشقُ و حرارة الوجدان. فلا يكتب الشعر بل الشعر هو من يكتبه. الفكرة تعيش في ثناياه كالنجم تلتألأ. تحتدم تغلي براكين ثورة ألق تشتاق فضاءات الروعة، الحرية و الشموس. فليس كل قريحة تكتب الشعر ولكن، كل شاعر حقيقي وحده يحمل جرح الشعر ، يملك ناصية الحرف، يستطيع بها أن يرسم أخيلة مجازات أبعادا أحاسيس و أوجاع تشكو الحال والشجون. إ ذ أنه يتنفس برئة الزمن الإنسانية. فالشاعر وحده من يداعب الكلمات، يدوزنها أوتارا تلامس القلوب. ينزف دموع الألم ويفتح قلبه ليتغنّى. في الشعر تحّلق أفكاره كالطير في السماء، وتنطلق بألوان الجمال في لحن الحياة تغنى.
رغم حزن الشاعر وألمه العميق جراء فراق الحبيب، يصف حالته النفسية بشكل مؤثر ومتألم. يستخدم في رثائه عناصر شعرية متعددة، من وصف وتشبيه ورمز وتعبير شاعري، ما يزيد من عمق وجمال القصيدة ويجعلها تعبر عن الأحاسيس العميقة والمشاعر المؤلمة التي يعيشها. شاعر يعيش بداخله جرح عميق، ينزف دموعا من عينيه لحظة الفراق، يأكل جسده ويخترق حواسه وترتعش شرايينه. يحنّ إلى حبيبته بحزن شديد، يحن للماساتها لكفيها حتى لخفّيها لوقتهما المميز لذلك الحب العظيم. يتوق لشم عطر ثيابها يُقبل ما تركته من بصمات على الستائر و الوسائد و الزوايا. يتوق عناقها فهي تريحه من حمم الشقاء، تنتشله من زحام الدنيا، تشفيه من نزف الجراح. يا له من فقد و يالها حياة تعاظم فيها الألم و ازداد الحزن و أنشب مخالبه الضياع. و رغم الرغم يغتلي عمقه ثمة هاجس نراه مستحيلا لكنه يعتاش عليه رمق ضوء تكتحل به عيون القصيدة. فهو ما يزال يرقب عودتها. أن تلم ضياعات عمره، تنفض عنه غبار الوحشة. نعم، بقي يحمل في كيس أوجاعه أمل عودتها لتعيد له الحياة .. يال الإحساس و يال الشعر و الموت و حلم الحياة .. فهو هنا رغم الألم يتحدى بلغة الأمل كي يعبر ضفة الظلام نحو ضفاف الشمس في الجانب الاخر المشرق بالعذوبة و الحياة. ومع ليلاه يحمل عشقه الآخر المرسوم أضلاعه بلمسة فريدة يعبر عنها أنه من طينها و هي التي منحته جبلّة الحياة. ذلك الضوء الخافت في الجانب الاخر حيث النخيل و النوارس . الأرض الأم التي هي عشق العراق وطنه الحبيب. حيث يتجلى صوت الشاعر و بكل لهفة و حنين و حماس وشغف. نعم، يحلم بوطنه الذي يملأه، حبه الأول والأخير، ظلال نخلة يعتبرها خيمة حداد لمراثي العمر الجميل. أحاسيس تشبه حمم الشقاء، وثورة بركان ترتدي قلبه الغض المرهف الشاعري.
هو شاعر اعتراه الألم، ينثره سطورا فهل يخفي آلامه ويداريها أم يرسل أصداء الأسى الى كل الأبعاد و الآذان عواءات ألم و صراخات شجن. قصيدة غنية بالشجن تفيض بالوصف والتشبيه والرمز، لغة بديعة، معبرة تدعو الى التّأمل و الغوص في أغواره و التفكير في المعاني المتعددة التي تحملها، عن طريق استخدام الصور والتشبيهات، و محاكاة الزمن، مما يعطي القصيدة مزيدا من الرمز الذي تجلى فيها حيث وقفات التاريخ و الأسطورة و الاستعارات الرمزية ذات الرومانسية السحرية و الجاذبية. حين ينثر قصيدته المتلألأة فضاءات الإبداع، حيث العذوبة المصبوغة بلون الشجن تنسابُ من قلبِهِ بسلاسةٍ وإحساسٍ عميقٍ، تُعبِّرُ عن مشاعرِهِ بكلِّ صدقٍ وجرأةٍ، تتموسق ألحانا تعشقها ِروحِ الشرق الغاصة بسحب الدخان و ضبابيات الأشجان سايكولوجية زمن يزحف على الأعصاب بأرجل من مسامير . و يترنّح المعنى ترتجفُ مع أوتارِ الحبِّ، تحملُ في طيَّاتِها أسرارَ الحياةِ و أحاسيسَ جماليات تدهش الذوق و تحبس الأنفاسِ، تطوفُ في الفضاءِ بشغفٍ وحماسٍ، تأخذُنا إلى عالمِ الخيالِ والجمالِ. قصيدة جسّد فيها أحاسيسه العميقة ومشاعره المؤلمة، بلغة الشعر الجميلة والمؤثرة. فأطلق كلماته كالرياح الهادرة تحمل في طياتها أسرار النفس وجمال الحياة، تتسرّب الى أعماق القلوب، تحرِّكُ المشاعرَ ، تهزُّ الأحاسيسَ، كأنَّها تلامسُ النبضَ الحيويَّ للحياةِ وتصفُّ لنا الوجعَ والألمَ بصدقٍ وصراحةٍ، تكشفُ عن جوهرِ الروحِ والإنسانِ، بأسلوبٍ معبرٍ وشاعريٍّ، فنجدُ في كلِّ كلمةٍ روحَ الشاعرِ الملهمةِ وقلبَهُ المتيّمِ بالإبداعِ والجمالِ، فترتفعُ روحُ الشعرِ بينَ السماءِ والأرضِ، تعبِّرُ عن مدى عمقِ الإحساسِ، مقدارِ الألمِ الذي يختزنهُ قلبُهُ، وكأنَّ الشاعر يتحدَّثُ إلينا من قلبٍ حزينٍ مؤلمٍ، ينثرُ بينَ أحرفِهِ ما يكتنف الروحِ من أسرارٍ ومشاعرٍ، وتشكلُ القصيدة خارطةً لمشاعرِهِ، تشرحُ لنا الجراحَ وتصوِّرُ لنا الألمَ، بأسلوبٍ شاعريٍ راقٍ ورائع. حيث الحنين والشوق الشديد، يتلفّت الى الماضي المزهر. يناديها بصوت محمّل بالوجد، يريد منها أن تحتضنه بحنان ليصبو بقلبه الأمان ويرتشف منها الراحة والشفاء ويملأ قلبه المحبّة والوفاء. في قصيدته يخبرها بأنه كتم حبه واشتياقه في ألم، ونثر أشعارا تترجمه تقول كلمات عنه، عن حبّه للعراق، وشاطئ دجلته، هو الشاعر الذي يبحث عن وطن، عن ضفاف صدر حان و سكون أمان. هو الذي يعاني من الكتمان والخوف و الغربة و الاشباح و المجهول. الالم يطفو في عينيه، يذكي في حناياه الشقاء يشبهه بثورة البركان في الليل. تراكيب حسية تجمع بين الإيحاءات والصور الشاعرية، ما يجعلها تحمل معانٍ عميقة ومتعددة. كما تعبر القصيدة عن حياته وتجاربه الشخصية والعاطفية و مشاعره الداخلية التي يعاني. ذلك من خلال استخدام الكلمات الرقيقة والجميلة التي تنتج عنها صور شعرية معبرة. كما يمكن القول إن القصيدة تميزت بإيقاعٍ موسيقي راقٍ وتوزيعٍ متساوٍ للأبيات، ما جعلها تدعو للاستمتاع بمعانيها وإيقاعها. تحتوي القصيدة على عدة عناصر شعرية، استخدام الوزن الخفيف والمتناغم، الذي جعل الايقاع الموسيقي يتألق رونقا. يساعد الوزن في توصيل الفكرة بشكل أفضل للقارئ، حيث استخدم الشاعر في قصيدته التشبيهات والاستعارات الشعرية لإبراز المعاني التي تندمج مع القصيدة وجعلها أكثر وضوحاً وجاذبية. من خلال تشبيه المجتمع بالنهر الجاري، تعكس حركة الأفراد والجماعات نحو هدف مشترك، ما يدعم فكرة الوحدة والتضامن. يمكن القول أن الأديب اللامع احمد القيسي نجح في استخدام هذا الابداع اللغوي بمهارة لترسيخ مفهوم الوحدة والتضامن في أذهان القراء. كما تجدر الإشارة إلى أن القصيدة تحوي صورا شعرية وتعابير واستعارات رمزية تعزز من الأثر الروحي الفكري والبعد السايكولوجي لقصيدة الحنين و الاغتراب، مثل “قلق الحواس وراعف الشريان” الذي يعبر عن فقدان الحبيب وتأثيره على حواس الشاعر وشرايينه. كما يصف الشاعر حالة الوحشة في تعبيره “برد الوسائد بالحنين و كيف بالدموع يبلّها”، ويستخدم صورة “صدري كموج البحر يجهش صاخباً” لوصف حالة الاضطراب التي يعانيها و صاخب الغليان. وتعكس كلمات “يا سفر الدماء ونورساً” مشاعر قوية وشديدة، فيما يتسم المشهد النهائي بحالة انفجار عاطفي “روحي اشتعــالا تغتلي بأزيزهـا… حمم الشقاء وثورة البركان.