مُلخص : تتأملُ هذه الدراسة نصين روائيين مغربيين، يتباينُ مَنظور الكتابة الروائية فيهما من حيثُ الهوية النوعية للكاتب، ومن حيثُ زمنية التسريد، وتتغيا هذه المُقارنة أساساً تظهير استراتيجيات تعامُل كل نص على حدة مع السّياسات عبر النوعية للممارسة الكتابية، وضمنَها تحديداً فَلسفةُ استدراج الشعري والغنائي إلى العالم السردي، وقد سَعينا إلى مُقاربة هذه المسألة في كل من رواية شعيب حليفي “زمن الشاوية” ورواية وفاء مليح “عندما يبكي الرجال”، بالاستناد إلى بعض المفاهيم النظرية في الطروحات الباختينية، وقد خلُصنا إلى أن تشغيل الطرائق الفنية لتحقيق هذا العبور النوعي في النص الروائي مُتمايز، فهو عندَ شعيب حليفي توظيف يتورطُ في الإبداعية والتخييل، وهو عند وفاء مليح توظيفٌ ينهلُ من النّقلي والمَرجعي.
كلمات مفاتيح: السّرد، الرواية، الشّعري، الغنائي، عَبر النوعية، استراتيجيات فنية…
المقدمة
نرُوم من خلال هذه الورقةِ البحثية استنطاقَ سياسات استثمار الجنس الروائي للشّعري والغنائي، وذلك من خلال البحثِ في التفاعُل بين السّردي والشعري والغنائي في النص الروائي المغربي والاستراتيجية المُتحكمة في بنيته التفاعلية، وتسعى الورقة من جهة ثانية إلى تَظهير الطرائق الفنية التي يتمازجُ فيها السرد بالشعر لتشكيل نص روائي قوامهُ عَبر النوعية ورَكيزته الأجناسُ المتخللة، ولأجل الخوض في هذا المضمار البحثي، نأخذُ نموذجين روائيين مغربيين مُتباينين من حيث الجندر وزمنية الإنتاج.
ومن حيث الجندر فإن رواية “زمن الشاوية” للكاتب المغربي شعيب حليفي بفكرة الكاتب المذكر وبصوت السارد المذكر أيضاً (علي الشاوي)، ورواية “عندما يبكي الرجال” للروائية وفاء مليح برؤية الكاتبة الأنثى وصوت الساردة الأنثى كذلك (فاتن الإدريسي)، أما عن زمنية الإنتاج المُتباعدة بين العملين، فيعود نص زمن الشاوية إلى تسعينيات القرن الماضي (1994)، وفي المُقابل صدرت عندما يبكي الرجال فقط قبل عقد من الزمن، سنة (2007)، وهذا ما يسمحُ بالبحث في التمفصلات والتحولات التي صاحبت تعالُقات السّرد بالحساسيات الشعرية والغنائية مع كل حقبة مُختلفة على حدة، ومع كل هوية مُنتجة على حدة أيضاً.
نَسعى من خلال هذه الورقة البحثية إلى المُضي بهذه الأفكار وتَوسعتها وفقَ مُقاربة منهاجية تتخذ من الأسلوبية الجديدة لميخائيل باختين ومن نظرية الأجناس الأدبية مرجعية نظرية لها.
لا يخفى على أحدٍ أن الكتابة الإبداعية تُشكل تحدياً كبيراً أمامَ أي مُبدع، فلُعبة الكتابة لا تنصاعُ إلا لمبدع يستطيعُ تفجير اللغة الإبداعية على فضاء النص، إن رهان Un enjeux تطويع اللغة هو الحقيقة الثابتة التي تُواجهها أيةُ ذاتٍ مُبدعةٍ يسكُنها هاجسُ الإبداع وتَكتوي بناره في اللحظة والحين.
ومعلومٌ أن لحظة الخوف من ضياع لحظة الكتابة تدفع إلى اختطاط أشكالَ مُغايرة في اللغة ورسم مَعالم مُتنوعة من التوثيقات، “وهذا ما يُضفي على الكتابةِ ضروباً من التمازُج والتداخل بين العناصر النوعية المتمايزة.”( )
إن التعددية اللغوية، وكما تتجلى من خلالِ تُعدد الأصواتِ والمَحكيات الفَرعية وأنماطِ الحوار وطرائق الأسلبةِ والتهجين والباروديا،( ) فإنها تتجلى أيضاً في صورة التبادُل القائم بين النص السردي ونُصوص متخللة “ذلك أن صورة اللغة في الرواية تُلملم سِمات مجموع مُكونات النص وتَرتبطُ بها بعلاقة التأثير المتبادل.”( )
باختين ومفهوم “الأجــــنـــاس المتـــخــــللة”.
يُولي ميخائيل باختين لعُنصر الأجناس المتخللة ضِمن المُكون الروائي أهميةً كُبرى، مؤكداً على الطبيعة الانفتاحية للرواية وقُدرتها على العُبور في كافة الأنواع، والرائي لمسألة كون الرواية عنصراً عابراً للأنواع، يستشف أنها فكرةٌ ليست وليدة اللحظة أو هي وليدة نشاطٍ نقدي دَعوي يروم إلى احتضان “البوليفونية”، بل هي قابعةٌ في الكتابة الروائية منذُ زمن مُتقدم، ذلك أن الكتابة السردية دائماً ظلت في حاجة إلى استضمار أنواع مغايرة.
إن الرواية على حد تعبير “هنري جيمس؛ “Henri Jamesوحيٌ مُفاجئ على شكلِ رُؤى ذاتُ حيويةٍ فريدةٍ، من الصعبِ حفظُ عِطرها النادر، ونكتُبها لخلقِ وعاءٍ قادرٍ على أن يَحفظ كل قطرةٍ من هذا العطرِ دون السماح له بالتبخر، ( )ثم إن النصوصَ الفَريدة هي نصوصٌ فيها الكثيرُ من الانجرافاتِ اللغويةِ والأسلوبيةِ وانعطافاتٍ في الكتابة وتُخومٍ في الامتلاء.
تتعددُ لُغات الرواية فهي تمتحُ منَ السّجلاتِ الأدبية؛ (قصص، أشعار، مسرح…) وبالمثل تنهلُ من السّجلاتِ غير الأدبية؛ (نصوص علمية، تاريخية، جغرافية…). ويَتسم هذا الامتصاصُ المزدوج في الرواية بمُرونته الدلالية وأصالتهِ الأسلوبية. فقد رأى باختين أن ما يحدد جنس الرواية هو “بنية المزدوج”Le Double .( )
إن هذا الحوارَ الخلاّق بين الأنواع داخل الشكلِ الفني والبناء التركيبي للرواية “يوظف إلى جانب الأسلوب الأدبي، أشكالاً أُسلوبيةً أخرى غيرَ أدبيةٍ بالضرورة كالمواعظِ الأخلاقيةِ والفلسفيةِ والخطابيةِ والوصف الاثنوغرافي وأسلوب التقارير …الخ”. ( ) وكما يجرى تأكيده عند باختين فإن العمل الروائي المُفعم بالقوة هو القادرِ على تَهيئة مَسالك أُسلوبية في مَسافات السرد، “أما الناثر-الروائي (وبصفة عامة، كل ناثر تقريباً) فإنه يسلُك طريقاً مختلفةً تماماً، إنه يستقبلُ داخلَ عملهِ الأدبي التعددية اللسانيةَ والصوتيةَ للغة الأدبيةِ وغير الأدبيةِ، بدون أن يضعف عملهُ من جراء ذلك، بل إنه يصيرُ أكثرَ عمقاً لأن ذلك يَسهمُ في توعيتهِ وتفريدهِ…”( )
لقد شَكلت آلية “التفاعل” هذه إلى جانبِ استعارةِ النصوص أساسَ تكوين الرواية وتشكيلِ قَالبها الفني، فكما تدخل هذه الأجناس إلى تَركيب الرواية كتكوين أساسي لها، فإنها أيضاً تَرسمُ شكلَها الروائي، كما هو الشأنُ حينما يردُ في الخطاب النقدي؛ (رواية اِعتراف، رواية مُذكرات، رواية رسائل…).
في روايةِ “زمن الشاوية” للروائي والناقد المغربي شعيب حليفي، سنبرزُ طَرائق اشتغالِ الشعري والغنائي واستراتيجيةِ ضمّه إلى دائرةِ السرد المُهيمن، وعن “وفاء مليح” نُوضح تَشكُل عمَلها الإبداعي وفقَ استراتيجيةٍ تَجريبيةٍ، عَمدتْ فيها إلى الاحتفاءِ بالشعرِ وقصيدةِ الزجل… وكلا النصين معاً فإن اللغة فيهما تخرجُ من مرحلة أحادية اللغة (monoglossic) ذات الخط التحريري السردي إلى ثنائية اللغة (diaglossic)ذات الخط التحريري المزدوج السردي والشعري، وأحَايين في مرحلة تعددية اللغة (polyglossic) التي ينضاف فيها الأسلوب الغنائي إلى فضاءات السرد.
مسَاراتُ السرد في “زمن الشاوية”.
رواية “زمن الشاوية” للكاتب المغربي شعيب حليفي الصادرة عن دار التنوخي للنشر في طبعتها الأولى سنة (1994)، الواقعة في حوالي (130) صفحة. تؤسس في متنها الحكائي لمُتخيل تاريخي ينهلُ من رافدِ الواقعي ويعانقُ آفاق المُتخيل في لمسةٍ فَنية أَضمرَت في طَياتها ثلاثية ريكور: الذاكرة والتاريخ والنسيان. ذلكَ أن للتخييل الروائي في هذا النص دورٌ بارزٌ في كتابةِ التواريخ المَنسيةِ.
تحفرُ الكتابةُ الروائيةُ لشعيب حليفي في عملهِ الأول “زمن الشاوية” حفراً بعيداً في ذاكرةِ التاريخ الوطني إبان القرن السادس عشر في أراضي الشاوية المغربية، وفي هذا التموقع المكاني وتلكَ الحقبة التاريخية يرتادُ حليفي آفاق التجريب في كتابتهِ الروائية التي كان مَيسمُها إيقاعُ التحول وتعددية اللغات واختلاف الأنماط الثقافية، وما تركزُ عليه هذه الرواية في تشييدِ نَموذَجها الإنساني هو قانونُ التحول مكوناً للبناء وحافزاً للحكي.
في هويةٍ سرديةٍ هجينةٍ تجمعُ بين ما ندرَ من أخبارٍ تاريخيةٍ حولَ تلكَ المرحلة الزمنية بالشاوية وبين ما هو مُتاحٌ في عَوالم التخييل المُمكنة والمُشرعة، يصدحُ السارد بصوته عن حكاية “علي الشاوي” الذي تحول من سارحِ دوارٍ إلى قائدٍ للشاوية، وفي هذا الانتقال من أدنى إلى أعلى، تسكنُ القارئ تفاصيلَ حكايةٍ نُسجت بإحكام، ترومُ عبرها الرواية تحقق قصديتين: “إحداهما، وهي قصدية الخيال تتجه نحو الوهمي القصصي، غير الحقيقي وغير الواقعي، والمُمكن واليوتوبي، والأخرى وهي قصدية الذاكرة تتجه نحو الحقيقة السابقة، الواقع السابق”.( )
وحري بالذكر أن شخصية “علي الشاوي” سارحُ الدوار سيشدُّ رحلتهُ إلى “فاس” وقد كُتب له هناك أن يَلتقي “بالسلطان” بعد جُهدٍ جهيدٍ، وكان إتيانهُ إلى الشاوية من جديدٍ على غير العادة حيث عُين قائداً على أراضي الشاوية بعدما تم تكوينه للمهمة، وهنا تبدأ تفاصيلُ دقيقة حولَ عماء السلطة، وهو ما يرمي بالحكاية إلى الكثير من الأحداثِ والوقائعِ التي تجسد زَمن السيبة والفتنةِ والحرب التي كانت تُغلى أراضي الشاوية عليه.
إن السفر في تقلُباتِ ذلك الزمن عبرَ حكايةٍ مُتخيلةٍ يُحَمل السردية أبعاداً سِرية، لعل أهمها إعادة فَتح تحقيقٍ مع الماضي، وإدانةِ الحاضر على ضوء الماضي، كما طرحَ قَضايا السلطة وأسئلة التاريخ على محكّ القراءات النقدية، ولتقويةِ الحكاية وتدعيمها يستعينُ الروائي شعيب حليفي بريبيرتوارات اللغة المُختلفة، وهو ما سنتبين من خلاله، أن للقصيدة والشعر الغنائي حظٌ أوفرَ منها.
الشعري والغنائي في “زمن الشاوية”
تطفحُ التجربةُ الشعرية في مسَارات السرد عند المُبدع شعيب حليفي بولع شديدِ البروز، حيث يلتقطُ التفاصيل والجزئيات السردية ويُعبر عنها بأسلوب شاعري وهو ما يُضفي على هذه التفاصيل السردية جَمالية واضحةً، فالشعرُ كما يقول فولتير “لا يتألف إلا من تفاصيل جميلة.”( )
إن الواقفَ عند هذه التوظيفات الشعرية في النص الروائي يُلاحظ انفلات القصائد من شرنقة عالم الشعر، لتدخل في علاقة حميمية مع عالم السرد بما يحملهُ هذا العالم من تركيزٍ على حكي التفاصيل، ومن المُفيد الإشارةُ إلى تعدد إمكانيات استبدال الشعري بالنثري في خُطط الكتابة الروائية لدى شعيب حليفي.
الحضور الشعري في الروائي.
يتميزُ الشعرُ بقدرته الفنية على الاختراق، فالشعرُ طَالما كانَ مُتكأَ المُتصوفة وكُتابَ التاريخ والرَّحالة وغيرهم، لأنه كانت لديهِ مَقبولية ويُسرٌ في الحفظ والتواتر ونقلِ ما ندرَ من الأخبار والحكايات والمُدونات في أزمانِ الماضي البعيد والقريب، وقد كانَ منشأَ ذَاكرة العرب ووثيقتهم التأريخية، أما عن الروائي باعتباره مُستكشفاً هجيناً يرتدي قُبعة الرهبان والتاريخي والجغرافي والأدبي لاستكناه عوالم الماضي، فقد كان الشعر مادتهُ المُستعارة، حيثُ “يندرج الحضور الشعري في الكتابة الروائية في سياق ما يمتلكه الشعري من طاقة على اختراق مُختلف العَوالم والمَجالات الفنية، فهذا الشعري يحضرُ في جميع الأنشطة الإنسانية والطبيعية…”( )
ويُعتبر إدراج الشعر ضمنَ الجسم الروائي حاجةً فنيةً تزيدُ من قوة السرد وحيويته، حيث إن جَمالية الشكل الروائي وتناغُمَ التداخلاتِ في السرد تتجلى في قُدرة الكاتب على الإمساك بمادته الحكائية وإخضاعها للتقطيع والاختيار، وإجراء التعديلات الضرورية عليها، حيت تصبح في النهاية تركيباً فنياً مُنسجماً يتضمنُ نظامهُ وجَماليته ومَنطقهُ الخاص.( )
القصيدة والشاعر وأزلام السلطة في رواية “زمن الشاوية”
يلزمنا النظرُ إلى استثمار الشعر ضمن الرواية كأثر فني يُساهم في تشكل وحد أدبية متناغمة، ولا يجب النظر إليه كأرخبيل مُنفصل، ومما لا شك فيه فـ “إن بناء شعريةٍ ناجزةٍ لدراسةِ البُعد الشعري في الأعمال ذات الطبيعة السردية يستلزمُ افتراضَ وحدة الظواهر الأدبية.”( )
في رواية زمن الشاوية يحضر نص القصيدة ليس كمجرد نظم بل كتأريخ، لذلك كانت غاية القائد “علي الشاوي” من “شاعره الهداوي” في تمثيلات السرد أن يُوثق لهُ ويؤرخ لهُ ويمدحهُ بالشعر، ولأن الشعر يتمتعُ بخاصيةِ الشفهية وكونه قابلاً للحفظِ وهو ما يضمنُ له التواتر، فقد كانت غايةُ الملوك والأمراء والسلاطين منه هي توطينُ هويتهم، فهم لا يرغبونَ في أن تُمحى هويتهم، بل السعي نَحو تَوطينها ليَرويها اللاحقون، فقد كانَ توطينُ هويتهم بالشعر يُعززُ لديهم الشعورَ بالأبديةِ وتَفادي الفَناء، وهو حالُ المروي المَركزي لـ “علي الشاوي” في مُتخيل شعيب حليفي.
نجد القايد (علي الشاوي) في هذا النص الروائي، وحينما ارتضى (الهداوي) شاعراً له، فإن القصدَ لم يكُن مجردَ الاستمتاع بنظمهِ وخَلق الطُّرفةِ والأُنس، بَل لأن وظيفتهُ صِناعةُ الأشعار التي تُمجده، والتي تصنعُ له المجدَ والتاريخ، وغيرَ بعيدٍ عن الخُصوصية الفنية والنَّغمية لهذه المُقتطفات الشعرية، فإن هذه الأخيرة تُثير لدينا مسألةً ثانيةً وهي؛ (قضية السلطة والمثقف) باعتبارِ الشاعر انعكاساً للكلية الثقافية في الزمن الماضي، بل كان يُوصف برسول الأمة وهو المُنافح عنها ومُمثلها الشرعي في المؤسسة الثقافية.
في استراتيجية الكتابةِ الروائية لدى شعيب حليفي اختراقٌ لسياساتِ السرد وإزاحتُها نحو الشعر، وبخاصة حينما يتولى فعل السرد خدوم القائد “علي الشاوي” وهو “الشاعر الهداوي”، وهذا الأخير حينما يتسلم الصوت السردي فلأجل نظمِ أشعارٍ تُوطن هويةَ القائد وتمدحهُ وتمجدهُ كما تمت الإشارة قبلاً، ومما نقرأ ضمن تضمينات السرد قول “الهداوي”:
إن عز من خير الأنام مزار فلنا بزوره نجلة واستبشار
هذا القائد وابن أكرم مرسل وسليل من تمطى له الأكوار
أعز قائد وأشرف حاكم تشرفت بحكم يمينه الأحرار
إن القصيدة هنا، قد جاءت كما تُعبر في دَلالتها ولُغتها لتمثيلِ الشأنِ الكبير ومَقام القائد ومَنزلته، إنها أيضاً قَصيدة تُراهن على التسترِ على أفعالِ التسلُّط والاجرام والاستبداد، وفي المُقابل تُبالغ من أفعالِ الخيرِ والكَرامات والعَدل، ما يعني أن نص القصيدة بهذا الصدد يُستثمر كتأريخٍ زَائف، تأريخٌ يتم تواتره واعتمادُه على أنه الأصل، وخلافَ ذلك كانت حقيقةٌ مخالفةٌ تَتوارى خلفَ نَظم (الهداوي) وهي حقيقةُ العُنف والتقتيل والحُكم المُستبد الذي نهجه “علي الشاوي” في أزمانِ سُلطته كما تَلتقطها كاميرا السرد.
يَبسطُ الروائي شعراً آخر في سرديته، وضمنَ نَفسِ الاستراتيجية، أي تسليم الصوت السردي لشخصية الشاعر، وهو ما يفضي إلى الخروج في المُتخيل من دائرة السرد إلى دائرة الشعر، وضمنَ تَمثيلات السرد لعُنف السُّلطة وجبروتِها نقفُ عند هذا النموذج الشعري المُخترق للسرد، في سياق يأمر فيه القائد “علي الشاوي” شاعره بأن يمدحه، وبدأ هذا الأخير نظمه في لحظة من التلعثم من فرط شربه وتدخينه؛
تهوى المشارق أن تكون شاويه لتنال من عطائه كل منال
أو لم يعم بجوده جاهها لا فرق بين جنوبها وشمال
أولم يسر ركبانها بمحاسن ضاءت لها سرج بجنح ليال
أو ليس احيا سنة العمرين في زمن الى بدع الهوى ميال
إن قصيدة المخمور(الهداوي)، وهي أشعارٌ تُعتبر منظومةً تحت التهديد، ولم تكُن عَفويةً ولا اختياريةً، تُحيلنا إلى مسألةٍ هامةٍ وهي عُنف السُّلطة وجَبرُوتها كما بَرعَ السردُ في تَشخيصِها، حيثُ يصبحُ الشاعرُ المثقف مع هذا الانتهاكِ السُّلطوي مجردَ أداةٍ لإنتاجِ الأكاذيب وتزييفٍ للحقائق، لذلك فإن جُملةَ هذه القصيدة التي قالها الشاعر المخمور كانت “مُنتحلة”، لأن شروط إنتاج قَصيدة مَدحية في وجهِ “قائدٍ” داهمَ واستولَى وقتلَ لم تكُن مُتوفرةً أنداك.( )
وكما وضَّحت سياسَاتُ السرد فإن سُلطةً عَمياءَ كانت تقفُ وراءَ القولِ والمَقول، وبالتالي لم يكن الشاعر يتمتع بقدرٍ من الحُرية الإبداعية التي تُتيح له الإبداع، وردَ في النص الروائي ما يلي؛ “فخاطبه الهبطي: “الآن ستقول في القائد العظيم قصيدة مدحية، وان عجزت قطعنا لسانك بسيف العلوة المسلول”، وهكذا فإذا كان دافعُ التهديد قائماً فإن طبيعة النظمِ لا تخرجُ عما يتلاءمُ ورغبة الحاكم “القائد الشاوي”، يقول الهداوي في سياق آخر؛
ولى الفخار بأن نسجت مديحكم حللا تجد وكل شيء بال
لكأنما طبعي شريف حينما لا يهتدي لسوى مديح الال
على هذا الشكل إذن، أي تحتَ طَائلة عُنف السُّلطة يتم استدماج الأشعار التي ينظمُها شاعر القائد لإزاحة الكتابة من مَنظومتها النثرية المُسترسلة وتَوجيهها نحو مَنظومة شعرية مُختلفة البناء مُكثفة المعنى ومُوزعة في شكل مغاير.
إن بعضَ هذه الأشعَار التي تم إيرادُها أُنتجت في الزمن الأول للقائد “علي الشاوي”، زمن الاستبداد والرجعية، وقد كان خلالها الشاعرُ والمُثقف عموماً خاضعاً لأزلامِ السُّلطة ومُتواطئا معها. وقد جاءت في النص الروائي عاكسةً لما يروم شعيب حليفي إبلاغهُ سَرديا، يمكن القول إن الشعر هنا يضطلع بوظيفة التعزيز السردي.
أما خلال الزمن الثاني الذي قضاهُ القائد “علي الشاوي”، زمن الثورة والحرية والعدالة، فإن مواقعَ الشاعرِ والمُثقف ستتبدلُ بحيثُ سيتحولُ إلى الأمين الصادق، وخلال هذا الزمن يستعيدُ المُثقف والشاعر حُريته وينعتقُ من قبضةِ الحُكم عليه، وضمنَ هذه المرحلة أيضاً لا يتوانى شعيب حليفي في بَسط أشعارٍ تعكسُ خُصوصيةَ المَرحلة وتَسندُ الفعلَ الحكائي داعمةً لهُ، وهذه قصيدة (الهداوي) نموذجاً عن “الثورة” فجر هجوم المسمار الانقلابي على القائد “علي الشاوي” وانهيار القوة الاستبدادية؛
مرحبا بالثورة الآتية ترقص على سهول الشاوية
خيراتها في كل ناحية ونورها في الحاضرة والبادية
تقدم أيها الشاوي واضرب بأرضك الأرض تستوي الهاوي
تقدم أيها الشاوي واضرب بزمنك الزمن يكن زمن الشاوية
ينسابُ الشعرُ هنا بقصيدةٍ كاملةٍ تستكملُ مَشاعر الفخر بالثورة وبالزمن الجديد، وهي قصيدة تحرَّرَ فيها الشاعر من وطأة التهديد والخَوف وتمتعَ فيها بحرية النظمِ والقَول، فأصبحَ بإمكانهِ تحريضُ الشعبِ وإيقاظهُ من سُباته، وهذا هو الدورُ الحقيقي الذي وجبَ أن يُجسده المُثقف لولا أزلامُ السُّلطة التي تفرضُ عليه عَكس ذلك.
التضمين الفني للقصيدة في رواية “زمن الشاوية”
يَقتضي بَسط الشعري ضمن الروائي مهارةً فَنيةً، بحيثُ يتحول السرد في رواية “زمن الشاوية” من النثر إلى الشعر وذلك بطريقة انسيابية دون فواصل طباعية ولا تغيير في حجم الخط أو تظليل له، وبالتالي فإن تداخلَ القَصيدة مع السرد عَمِلَ على إتاحةِ الإمكانيةِ للمُتلقي كي يتحولَ ما بين خصائصِ أُسلوبين وسماتِ أكثرَ من فن، أما الإغواءُ الشعري فلهُ الأثرُ المُهم في إشاعةِ رُوح التشويقِ لدى القَارئ وتحريضهِ على مُواصلة القراءة.
وتعتمد هذه العمليةُ الإبداعية الإبدالية التي تنسحبُ من السردي وتطرحُ الشعري، عائدة في حركة مَنطقية وسلسةٍ من الشعري إلى السردي على ما يمكن تسميته بالتراسُل النصي، حيثُ إن هذا التراسُل الحاصل في الرواية استطاعَ أن يُحقق تناسقاً مُدهشاً في اللغة الروائية من خلال الانسجام بين المُختلف من إيقاعِ التداخُلات، فلا قطعَ يُقصي المُستويات التعبيرية بقسرٍ عن بَعضها، بل تناسقٌ في التحول، وتلاؤمٌ في الانتقالِ حتى من الوزن في الشعر إلى غير الموزون في السرد.
التحول نحو “الغنائي” في الرواية.
يحضرُ الأسلوب الغنائي في سياقاتٍ مُحددة، بحيثُ تتداخلُ الأغنيةُ بشعريتها الرشيقةِ وجُملها الاسمية القصيرة مع الشعر والسرد، فتنبضُ هذه التداعيات في صَميم النص وثَبتُّ أصداءهَا في الرواية، ومما نُسوق من أمثلةٍ بهذا الصدد، قول القائد “علي الشاوي” مُداعبا ومُلاعبا ابنته “منانة” الصغيرة وهو يُناجيها: “شب شبين، ذراع وشبرين، الشحم والزين” – “امي منانة، والغادية نعسانة، والراكبة ناقة مولانا. اش كلت واش شربت غير حليب المزمزية”( )
تكتنزُ هذه العباراتُ أسلوباً غنائياً، فهي عباراتٌ مُتوازيةٌ صَوتياً تتفجرُ خلالها غنائيةٌ مُميزة، كما أن ما يُفردها هو بنيتها اللسنية الدَّارجة التي جاءت مُناسبة للسياق الروائي ومَنحتهُ منظوراً لسنياً وغنائياً يتلاءمُ وطبيعةُ المضمون.
ويحضرُ الغنائي في سياقاتٍ أخرى، ومما نُورد أيضاً قول الشاعر(الهداوي) وقد انتفخَت أوداجهُ في مَقطعٍ غنائي يَبغي أن يقول فيه للقائد “علي الشاوي” أنه رجلٌ حكيم؛ “عمر معمر مات. خلى ثلث بنات. وحد تزهى ووحدا تبات. أوحدا تمشي فين بغات”( ) ، هذا ويضطلع الغنائي أيضا بوظيفة الرثاء، وهو ما يبرزُ في مرثيةِ (الهداوي) التي جاءَ فيها:
آه عمَر الهدَاوي مات
خلا ثلث قصيدات
وحدة هي النور في الظلمات
وحدة هي الظلام في الشموسات
أو وحدة هي الروح اللي مشات
ويُلاحَظُ أن المَقاطع ذاتُ الطابع الغنائي تنسحبُ فيها اللغةُ من طَابَعها الفَصيح إلى بنيةٍ لسنيةٍ دارجةٍ، لأن هذه الأخيرة تضمنُ لها أفقاً غنائياً وفضاءً تعبيرياً يبتعدُ عن الرسمي ليُعبر عن فَضاءات الهامش.
هوية السرد في رواية “عندما يبكي الرجال”()
يَنهضُ المَروي في رواية “عندما يبكي الرجال” على المحكي الذاتي للساردة البطلة “فاتن” التي تستعيدُ ذكريَاتها معَ “أحمد”، وقد ذهبَ البعضُ من الدارسين إلى اعتبار رواية “عندما يبكي الرجال” أول لوحةٍ عَربية مَغربية ترصدُ سَردية الجنس كمفهوم مُغاير اقتربَ من مصاف روائع الإنتاج الإبداعي الإنساني العالمي ذو القيمة، ولكنه اقترابٌ ضئيل كان خجولاً.
تطرحُ رواية “عندما يبكي الرجال” الصادرة عن إفريقيا الشرق سنة (2007) الواقعة في (175) صفحة من الحجم المتوسط، قضية المسافة المتوترة بين الرجل والمرأة في مُجتمع مُتخلف وتائهٍ، فاقدٍ لبوصلتهِ ولا يدري أين تسيرُ به خَطواته.
عبرَ الصوتينِ السرديين المُتناوبين على السّرد في هذه الرواية، صوت الساردة؛ “فاتن الإدريسي”، وصوت السارد؛ “أحمد الوكيلي”، من خلال مُذكراته نُطلُّ على عَالم الرواية، فنجد “فاتن الادريسي” الطالبةَ الجامعيةَ الحاصلةَ على الإجازة في الحقوق، تجمعُها علاقةٌ مُبهمة بأستاذ جامعي في الخَمسينات من عُمره يُدعى “أحمد الوكيلي”؛ الرجلُ الأعزبُ والمُناضل السياسي الذي يسعى بنوعٍ من الإصرارِ إلى المُساهمةِ في إصلاحِ بِلاده، من خلالِ النضال السياسي والإصلاح الإجتماعي والثقافي.
غير أن المُفارقة التي تُهيمن على الرواية وتمنحها بُعداً ثقافياً عميقاً، تتجلى في أن هذه الشخصية التي تَسعى إلى إعادة بناء الحزب الذي تنتمي إليه من أجل أن يقود قَاطرة الإصلاح الثوري في البلاد، والنضال على مجموعة من الواجهات، هي نفسها تُعاني من عطبٍ في كينونتها وحالة مأزومة في نفسيتها…
إن هذا الرجلَ المُثقف الذي يُعاني من ضَعفٍ جنسي، يجعلهُ عاجزاً عن تلبيةِ نداءِ الشهوة النسوية، وهو ما يجعلهُ دائمَ الهُروب منها، لكن وفي ظل ما يحدثُ تظل الطالبة “فاتن الادريسي” المُعجبة به، تقفُ مُستغربةً من هُروبه المُلتبس وغير المُبرر منها، تقول مُخاطبة إياه؛ “أحاول أن أكسر صمتك. أتمددُ على شواطئ أسرارك. لكنك تصرُّ على التدثر بعباءة الصمت… لماذا هذا الشجنُ الذي يُلون تقاسيم وجهك رغم حالات الفرح التي تهزك بين فينة وأخرى؟؟. أنظر إليك لأقاسمك الشجن ظناً مني أنني أنتزع منك مؤامرة الأشياء التي تحوكها ضدي لتمارس غوايتكَ على أنوثتي التي تتعرى أمامك. وأنت تلعبُ لعبتك في الخفاء.”( )
هكذا وأمامَ تخبط “أحمد الوكيلي” في عَجزه الجنسي والنّفسي، راحَ يبحثُ عن علاج مُناسب لحالتهِ المُستعصية، فيسعَى نَحو العلاج الشّعبي تحتَ تأثيرِ وَالدته وصَديقه “إبراهيم” حارس العمارة التي يقطن فيها، ليتوجهَ بعدَ ذلك نحو العلاج النفسي، لكنه يفشل في كل مُحاولاته، ليبقى فَريسة عجزه النفسي، ولهذا فإن الشكوى على لسانه نجدُها تتخللُ صَفحات الرواية، مُصرَّاً في الوقت ذاته على مُماهاة مأساته مع مأساة الوطن، يقول مُعبراً عن ذلك؛ “بين جسدي والوطن ميثاقُ كتب من حبر نفس واحدة. ليس جسدي إلا وطناً شكلت خريطته من نضال فتحت بابه على مصراعيه لأطارد الريح. كيف أرتاحُ وأنا أطُارد ريحا هوجاء عاصفة. ريحا صيرتني خصياً. انتزعتْ مني خصيتي وتركتني أرضاً جَرداء لا تطرحُ نباتاً. نفساً مُستكينةً في المَضاجع. ثائرةً في الأنين والوجع؟؟….”( )
يَنتهي الأمرُ باختيار “أحمد الوكيلي” قرارَ الانتحارِ في الأخير، وذلك بعدَ أن أوصَى بأن تُسلم مُذكراتهُ لـ”فاتن الادريسي”، فبعدَ أن نالَ منهُ العجزُ ولم يَقدر على المزيدِ من المُواجهات انتهى به الحالُ في نهاية تراجيدية، وهذا ما يُعبرُ عنه عُنوان الرواية “عندما يبكي الرجال”، وتُلخصهُ الفقرة الحسّاسة هاته؛ “ليست المرأة وحدها تبكي، البُكاء يعني الرجل أيضاً. كنت فيما مضى أنزعُ إلى السخرية والتهكم في مواقف تدعو إلى البكاء وأقول في نفسي كما علمتني أمي. الرجال لا يبكون. لكني في حالتي هاته أبكي بحرقةِ الرجولة الضائعة. لو يعلمُ النساء أن بكاء الرجال أشدُّ ألماً لتوقفنَ عن بكائهن… “( )
لَقد حاولت الكاتبةُ من خلال روايتها “عندما يبكي الرجال” تعريةَ الواقع الهش الذي تعيشهُ النُّخبةُ المغربية، وتصريف مَواقفها عبر شخصيات مُثقفة؛ “فاتن”، “أحمد”، “سالم”، “فاطمة” ، “إدريس”، “عبد الله”، عَبر تَصوير مُحيطها وواقِعها اليَومي العائِم في التناقُضات…()
تعالُقات السرد بالحساسية الشعرية والغنائية.
كثيراً ما اعتقدَ ادوارد الخراط أن الرواية هي الجنسُ الأدبي الذي يمكنُ أن يحتوي على الشّعر والمُوسيقى واللَّوحات التشكيلية، إضافةً إلى ما يُمكن أن تحتوي عليه من مورُوث الرواية التقليدية، مما يعني أنها عملٌ حر، لا تَكلُّفَ فيه وتماشياً مع هذا التصور، نوردُ بعضَ المشاهدِ المُستلهمة من الشعر كما صَاغها نص “عندما يبكي الرجال” لوفاء مليح.
إن اهتمامانا بدايةً برواية “عندما يبكي الرجال” ضمنَ استراتيجية تفاعُل الشعر في السرد، نابعٌ من كونها رواية “تشكل نموذجاً حياً للكتابة المُركبة والمُنفتحة على آفاق التنويع والتعدد فهي فسيفساء من القَوالب والنُّصوص والزَّخَارف الفنية المُتداخلة والمُتحاورة.”( )
مُنذ افتتاحيةِ النص الروائي نلتقطُ بصرياً مؤشراً شعرياً ( ) حيثُ بدأت الرواية بنص القصيدة الآتي للشاعر العراقي بدر شاكر السياب:
اكبري عشرين عاما……..ثم عودي..
إن هذا الحب لا يرضي ضميري
حاجز العمر خطير…………….وأنا
أتحاشى حاجز العمر الخطير……..
نحن عصران فلا تستعجلي
القفز، يا زنبقتي، فوق العصور،
أنت في أول سطر في الهوى
وأنا أصبحت في السطر الأخير…… … +
تفتتحُ “فاتن الادريسي” ميثاقَ السرد الروائي بمقطعٍ شعري، وهو مقطعٌ يُجسد حكياً ذاتياً في قالب نص شعري، يكتسي طابعَ البنيةِ المُختزلة لتفاصيل السرد، بوحٌ شعري يفيضُ بلحظاتِ استرجاعٍ لزمن الماضي وكأن الشعرَ يختزلُ تجربةَ الكتابة في سرد التذكر.
إن إيرادَ الشعر في هذا النص لا يقتصرُ على جانبه الفصيح، “بل يتغذى بالزجل، باعتباره مكوناً فنياً مغربياً، وذلك عبرَ استحضارِ الساردة لمقاطع من أزجال ناس الغيوان الشهيرة.”( ) ومعلومٌ أن “وسطَ الروائي هو اللغة، ومهما ينتجُ بوصفه روائياً فإنهُ ينتجُ في اللغة ومن خلالها، إن بنيةَ الرواية ومهما كان ما تُريد إيصالهُ هي تحت السيطرةِ المُباشرة لتلاعبِ الروائي باللغة ومن تم تلاعب الروائي بالعاطفة المتجددة للقارئ.”( )
من دَواخل هذه اللغة إذن تتمُ صناعةُ أشكالِ التلقي، وفي ما نقرأُ أيضاً من لُعبة السيطرة على لغة الرواية، هذا النص الزجلي المَاتع الذي أخذَ مساحة مُمتدة من صفحات الرواية؛ ( )
فِيْنْ اللِي يجمْعُوا عْليِكْ أهَلْ النيّة
وووواْهيا الصّينية
دُوْك اللّي ونْسُوك
فيْن أهْل الجُود والرْضَى
فيْن حْيَاتي فيْن حُوْمتي واللّي لي
ووواْهيا الصّينية
واعَر بْلَاه مَاْ سَاهْل حُبْ الكَاْس…
أيَاْ رِيَاْس مَاْ نْسَاك الخاطْر
واعَرْ بْلَاْه ومَا سَاْهْل عَشْقْ النّاْسْ…
أَيَاْريَاْسْ مُوْحَالْ يَنسَاْكْ الخَاطْر
واعَرْ بْلاْه جَاْبنِي بْغرَامُو
والعَنْبر إلى يْحي كْدامُو
والنَّعْنَاعْ والشّيبَة… هْيَا الصّينيَة
وَأَياْ نْدَامْتِي وأَيَاْ نْدَامْتِي…
أُمَال كاسِي تايْه زَادْ قْوَى عليَّا لْعْذابْ
مَالْ كَاسِي بَاكيْ وُحدو مَالْ كَاسِيْ نادِبْ حَظَو
مَالْ كَاسِيْ هذا نكْدُو وُغير فْسَعْدُو…آهيا الصّينية.
يالِي مَا شَفْتُونِي رَاحْمُو عْليَّا
ونَاْ رَانيْ مْشِيت وَنَاْ رَاني مْشيت والهُول الدَّاْني
والْديَ وحْبَابي ما سْخَاو بيَ.
بَحَرْ الغِيوانْ ما دَخلْتُو بَلْعيانِي
تانعيَّط لْشِيخِي مَا يْتِيق بيَّا أَنَا
يَا اللّيلَة فِينْ بَيْدِي نَجِيك وَلجيتَكْ عَزّينِي
جَعْل الدّنْيَا عَليكْ انْتَ لِفرّقْتينِي
وتَانعِيّط لْشِيخي مَا يْتيق بيّا غَرَضَ الله بوعْلاَم جيلالي
وَنَا راني مْشيت وَنَا رَاني مْشِيتْ والْهُول الدَّانِي
وَالدِيَّ وَحْبابِي مَا سْخَاوْ بِيَ.
بَحَرْ الغِيوانْ ما دَخْلتُو بَلْعيانِي.
لقدْ شكلت أُغنيةُ “ناس الغيوان” مُحاولةً لإعادة إنتاج الاندماج الاجتماعي الذي فككهُ الاستعمارُ الفرنسي، وكانت المجموعة مثلاً لبقية شباب المغرب من حيثُ مَدى الاقتناع بالهوية والحِرص على التشبثِ بالثقافة الشعبية الأصيلة، وما يهمنا بهذا الصدد هو توظيف الشعر الغنائي كما هو بارزٌ، إذْ لهُ سياساتٌ ومَرامي تجعلُ له مقاماً للنفاذِ لمواضيع الهوية والمُمانعة الكولونيالية، ما يعني أن استراتيجية توظيف الشعر الغنائي هي استراتيجية غائية وليست شكلية. وعليه فإن الرواية هنا تلجأ إلى “اللغة المتعددة في بيئاتها وتاريخها ومُعجمها وتلفظاتها، وهي التي تهيمن في نهاية الأمر وتفرضُ نَفسها مدخلاً لاستجلاءِ الحِوارية.”( )
إن في ثنايا هذا العمل الأدبي كما قلنا حصيلةٌ من عناصر التشابه والتداخل بين الشعري La poétique والغنائي والروائي، ومن خلال المقطع الآتي نُجلي حُضور الشكل الغنائي الشعبي أيضاً إلى جانب الشعر الفصيح والنص الزجلي؛
“خفَة الرجل. أشدَاني لاش مشيت غير نظرة من عيونو راه كوانه. أشدَاني لاش مشيت. نديت من البعيد كلتيه يا شاغل باله. نظرة منَك تبرَد جمار. شافيَ وكليَ وأنا ماله. أشدَاني؟؟ لاش مشيت ……… “( )
إن “اللغة هي أول عناصر الأدب كما عبر بذلك غوركي”( )، وهي بهذا تكون المفتاح لفهم المؤلفات الأدبية بشكلها المتكامل ومُفرداتها والطابع المُتميز لنحوها وبناءِ كَلامها، وهي بمثابة الأرضية التي تنبت عليها الصور والأفكار. وبناء عليه فإن النص الغنائي الدارج هنا يعبر عن الانتساب الاجتماعي للشخصيات،( ) ويُجلي صراع الأجيال، حيثُ صراع الأم مع الابنة، واختلاف أنماط التفكير وتضارب الرؤى … لم يكن من حل يسعف غير إطلاق العنان للسان الدارج، إن النص الغنائي العامي يأتي ليقول ما لا يمكن أن يُقال بالفصحى، نص يعكسُ لُغة الهامش ويُجسد انكسارَ الذات وتأوهاتها كما يُترجم للتفاوت الطبقي، إن ثقافياً أو اجتماعياً، ويَستحضرُ النص الغنائي شكلَ العامية أيضاً كلغةٍ للذاكرة تُحيي الماضي، تُحيي التراث الشفهي،…
الخاتمة.
تأسيساً على ما سبق، فإذا كان المُلاحظ عند الدارسين أن كُتاب الرواية الغربية الجدُد غالباً ما وقفوا ضد التقليد القديم في مزج الشعر مع نثرهم، لكن وعند طرف النقيض نجدُ هذا الطرح يتقوى مع كُتاب الرواية العربية، ومع كل الاختلافات في الطروحات النقدية في مسألة عبر النوعية التي تطال النصوص، يبدو مفيداً الإشارة إلى الحاجة الفنية والجمالية التي يُقدمها هذا التفاعل داخل النص الواحد.
إذا حَاولنا الإجابة عن مُنطلقاتنا الإشكالية السابقة، وهي تجليةُ الاختلاف بين النصين من حيث الجندر وزمنية الإنتاج، في مسألة استثمار كلاهما لسياسات النص الشعري والغنائي ضمن العمل الروائي، أمكننا الخلوص للآتي:
إن نص “زمن الشاوية” يُراهن في التشغيل عبر النوعي على خلق ضُروبٍ شعرية مُستحدثة، أو من محضِ خَيال الكاتب، أي أنها لا تكون بالضرورة نصوصاً منسوبة في التاريخ إلى شاعر مُعين أو قائل ما، إنما مسارُ بناء النص الروائي عبرهُ ينشئ الروائي من مخياله ما يلائم من بنياتٍ نصيةٍ شعرية، فضلاً عن ذلك تأتي نُصوصه المتخللة تلك مُعبرة بالكاد في أغلب الأحايين عن قضايا السُّلطة والهوية.
أما عن نص “عندما يبكي الرجال” لوفاء مليح، فإنه نص حريصٌ على التعالق النصي، أي أنه يستثمرُ مُقتطفات منسوبة لقائليها، وهو ما جرى توضيحه مع النسبة لبدر شاكر السياب، ومع النسبة لناس الغيوان، وبالكاد تأخذ هذه المُقتطفات مسَارها في سياسات السرد من خلال التعبير عن الذاكرة والتراث والانكسارات الذاتية والقضايا المجتمعية.
وعن زمنية الإنتاج، فقد اتسمت في “زمن الشاوية” بالإبداعية والتخييل، لكنها في “عندما يبكي الرجال” اتسمت بالمرجعية والتوظيف، كما أن هوية الكاتب الجندرية، ملحوظٌ أنها تتحكم في منظوره إلى طبيعة استثمار اللغة الشعرية والغنائية في الرواية للتعبير عن القضايا، حيث إن شعيب حليفي كان وفياً لقضَايا سياسية وسُلطوية مَحضة، وفي المقابل تذهبُ وفاء مليح إلى التعبير عن قضايا جَلد الذات وأزَمات الفرد.
—————
( ) شعيب حليفي، زمن الشاوية (رواية)، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1994.
( ) وفاء مليح، عندما يبكي الرجال (رواية)، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط2، 2011.
( ) محمد أمنصور، “استراتيجيات التجريب في الرواية المغربية المعاصرة”، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2006، ص 132.
( ) راجع؛ محمد برادة، “أسئلة الرواية-أسئلة النقد،” منشورات الرابطة، المغرب، ط1، 1996.ص 38.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 38.
( )Refer: Henry James (Bloom’s Modern Critical Views) Library Binding – January 1, 1990.
( )Julia Kristeva; “semiotiké: Recherche pour un sémanalyse”، paris. Editions du seuil. 1966. p 62.
Gérard Genette, « Figures 2 », éditions du seuil, 1979, p 88. ( )
( ) ميخائيل باختين، “الخطاب الروائي”، ترجمة وتقديم محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1987، ص 67.
( ) بول ريكور؛ “الذاكرة والتاريخ والنسيان”، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2009، ص 34.
( ) راجع: محمد أحمد العزب: طبيعة الشعر (وتخطيط لنظرية الشعر العربي)، مطبعة الفجر الجديد، القاهرة، مصر، ط1، 1980.
( ) محمد أودادا : “الشعري في الروائي” (مستويات التجلي وطرائق التحليل) ، مجلة علامات، مكناس (المغرب) ، العدد 12، 1999، ص 62.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 63.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 64.
( ) شعيب حليفي، “زمن الشاوية”، مرجع مذكور، ص 76.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 93.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 104.
() يمكن بهذا الصدد مراجعة: “اللغة وأساليب التعبير في الكتابة السردية عبر النوعية “عندما يبكي الرجال لوفاء مليح أنموذجا”، صحيفة المثقف، عدد 3362، سنة 2015.
( ) وفاء مليح، “عندما يبكي الرجال”، مرجع مذكور، ص 8.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 172-173.
( ) المرجع السابق نفسه، ص 100.
() يمكن بهذا الصدد مراجعة: “اللغة وأساليب التعبير في الكتابة السردية عبر النوعية “عندما يبكي الرجال لوفاء مليح أنموذجا”، صحيفة المثقف، عدد 3362، سنة 2015.
( ) محمد أمنصور، “استراتيجيات التجريب”، مرجع مذكور سابقاً، ص 145.
( ) وفاء مليح، “عندما يبكي الرجال”، مرجع مذكور، ص 66.
( ) محمد أعزيز، “تخييل الذات وأسئلة الكتابة المغايرة” قراءة في رواية عندما يبكي الرجال لوفاء مليح، مجلة ذوات، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، عدد 48، 2018، ص 108.
( ) روجر فاولر، “اللسانيات والرواية”، ترجمة أحمد صبرة، مؤسسة حورس الدولية للنشر، ط1، 2009 ص 21.
( ) وفاء مليح، “عندما يبكي الرجال”، مرجع مذكور، ص 69.
( ) محمد برادة، أسئلة الرواية-أسئلة النقد، مرجع مذكور، ص 39.
( ) وفاء مليح، “عندما يبكي الرجال”، مرجع مذكور، ص 66.
( ) عبد الحميد عقار، الرواية المغاربية، تحولات اللغة والخطاب، شركة النشر والتوزيع، المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2000، 79
( ) راجع، عندما يبكي الرجال، مرجع مذكور، ص 58.