آه يابا لو تعرف معنى الآه؟!
أنت يا ولدي صغير، ما زلت تأكل من لحم غيرك، ولا زلت تشرب من ماء العين وغرة البئر، ما زلت غضا، طريا، ناعما، لم ينبت الشوك على لحمك، ولم يأكل الليل والظلام من نفسك، ولم تهاجمك الهواجس الموزعة في الأرض القفر حين تسند رأسك على حجر من الصوان القاسي، أنت ولدت على قطعة من القماش، في غرفة مضاءة بالسراج، وحين حملت إلى البيت وزعنا فرحا بقدومك سلة من القطين والزبيب، فكان مجيئك إلى الدنيا يشبه مجيء الملوك.
آه يابا لو تعرف معنى الآه؟!
كنت صغيرا، لم أتجاوز الطفولة، ولكني حين كنت أسمعه يلفظها أحس أنها خارجة من أعماق سحيقة في المشاعر والأحاسيس، وكنت أربط بين الآه المجروحة، وبين الدموع التي تتحجر في مآقي عينيه، وكان الصدر الهابط الصاعد بتسارع يرتسم في ذاكرتي بطريقة تصويرية تحفظ التفاصيل الدقيقة. كنت أشعر بألمه الشديد وحرقته الملوعة، لكنه شعور الطفل الذي يشفق على والده ويرفض أن يراه مكسورا أو مهزوما، وحين تقدم العمر قليلا تحولت الشفقة إلى نقمة عارمة، ثم إلى بركان يتفجر بأعماقي ليحرق كل التوازنات والمعادلات، فأصبحت الآه المجروحة هم شبابي وأيامي وكل سنين عمري.
آه يابا!
على شاطئ “حَيْفَا” كان لنا بيت، بيت جميل رائع، واسع ممتد إلى خاصرة البحر والموج، وكان على علاقة أزلية مع هدير البحر، مدا وجزرا، ولم يكن يخلو من رائحة الأعماق المجهولة، رائحة مركبة من الطحالب والإسفنج والمرجان واللؤلؤ، وكانت الألوان تتقلب فيه وتتموج مع تقلب الموج وتموج الشمس، فتارة يغزوه الأزرق، وتارة يسكنه الأخضر، وتارة يدخل الشفق المرهق ليحط رحاله على أرضه وبلاطه. بيت يا ولدي، لا يشبه البيوت، فهو كالحلم السندسي، حلم عذب يسكن كل جوارحك وأعطافك، تتمسك به خوفا من انفلاته إذا ما فتحت العين الغارقة بجنان الخلد ورياحين البقاء.
وعلى الشرفة التي ترقب الأفق الممتد فوق مياه البحر، كانت نبتة ياسمين ضخمة، تتدلى أفرعها على الحائط، تحاول التسلل إلى أعماق البيت، لكننا كنا نوقف زحفها نحو الداخل بتشذيب أغصانها الرقيقة حول النوافذ بيد خبيرة حنونة، فتبدو النوافذ وكأنها فصلت وصنعت من الياسمين فقط، كنا نتحايل على الياسمينة بأن نوزع بين فروعها وأغصانها فروعا وأغصانا من نبتة متسلقة شديدة الخضرة، لها وردة تتكون لتعطي في لحظة اكتمالها شكل بطة ناصعة البياض، في بداية الأمر كنا نشعر بأن الياسمينة ترفض بخفر استقبال تلك المتسلقة، لكن بعد وقت ما أحسسنا بأن علاقة وُدّ أخضر وأبيض قد جمع بين البط وزهر الياسمينة، تآلف النبات كتآلف البحر والمدى مع عتبات البيت المبللة بملح الموج وأسراره.
آه يابا آه!
وفي الجهة الخلفية، الجهة التي تمتد إلى خاصرة الأرض، كان الرمان، وكان الليمون، والكرز، والعناب، والتمر حنا، وكان البرتقال، برتقال حيفا المنتشر عبر ميناء بحرنا إلى موانئ الكون والأرض، ليحمل رائحة فلسطين، ونكهة فلسطين، وشهد الأرض والمطر إلى كل أفواه العالم، إلى كل الآفاق التي تفتح آفاقها شوقا لاستقبال رائحة حيفا، وعبير الأرض والموج والشاطئ. كانت الخضرة تداهم المكان، وتقتحم الحمرة الخجلة المتشققة من الكرز والرمان كل الأجواء، فتشعر بارتواء الأرض والسماء، وتستبد رموش الحياء في كل ذرة من ذرات الهواء، فتنبعث روائح أنوثة العذارى لتغطي مساحات ممعنة في نسيم البحر الراحل من الميناء إلى بلاد العرب وأصقاع المسلمين، وكانت البلابل تأتي لتنشد وتغرد، تشاركها العنادل بصداح محبب رقيق، وكان “الدوري” يبني أعشاشه فوق الأغصان حبا وولها، وحين كان يأتي الصباح بخطى الهوينى، كنا نفيق على صوت الأذان وهو يدخل أعماق البحر والنفس، أذان ترافقه نغمات الصداح والتغريد والزقزقة، ممزوجا بروائح البحر والليمون والياسمين، مضمخا بروائح العناب والكرز والحناء.
آه يابا، آه وألف آه!
أنت لم تجرب ولو مرة واحدة أن تأخذ بيديك قليلا من التراب الساكن أرض حيفا، لتقربه من أنفك، لم تجرب أبدا أن تدلك يديك بتراب حيفا حين تفرغ من تقشير البرتقال والليمون، ثم تقفز بعض خطوات نحو البحر، لتغسل يديك بملوحة البحر ورائحته، لم تجرب، لذلك أنا أعرف أنه عصي عليك أن تدرك كيف تأتلف المشاعر وتتشكل لتندمج بأغوار النفس والإحساس والذهن، كيف تتكاتف العاطفة مع الأرض، مع السماء، مع التراب، مع البحر، مع المدى، مع الآفاق المفتوحة على ما لانهاية، مع صوت المؤذن وهو يقتحم الأثير والأذان، حيفا يا ولدي، حكاية أخرى، لا تشبه الحكايات، قصة أخرى، لا تشبه القصص، رواية أخرى، لا تشبه الروايات، قصيدة أخرى، لا تشبه القصائد، حيفا أنشودة لا تنشد إلا بصوت بحرها وأرضها وسمائها، حيفا أنشودة الأناشيد، وقصيدة القصائد، حيفا يا ولدي هي حيفا.
لم يكن ليخطر ببالنا أبدا، يوما ما، بأننا سوف ننتزع من حضنها، ولم نكن نتوقع يوما ما، أن تنتزع حيفا من أحضاننا، لأنها أمّنا المطلقة الأمومة، ولأنها وليدتنا المتجددة الطفولة، لكننا انتزعنا منها قسرا وقهرا، وتركت حيفا عارية، بلا ستر، تركت عذراء الكون عارية لمجموعة من الأوغاد، فسالت دماء بكارتها، سالت نحو البحر، نحو الأرض، ودوت صرخاتها في أعالي الكون، فهزت الآفاق والآماد، هزت الجبال والأشجار، هزت البحار والمحيطات، لكنها يا ولدي، لم تهز نخوة العروبة أو حمية الإسلام.
تركت وحيدة، عارية، تتناوشها الرياح والعواصف، تضربها الزوابع والأعاصير، يستبيح حرمتها وعذريتها من لا يعرف للأخلاق أية قيمة، ومن لا يعترف للإله بألوهيته وعدالته، تركت وهي تصرخ طالبة النجدة، لكنها لا زالت منذ تلك اللحظات تصرخ، وحَمِيّة الدين، ونخوة العرب، تتحاشى سماع الصرخات المتأوهة، بل وشارك جل العرب والمسلمين في تمزيق بكارتها وفاء لأولئك الأغراب.
كنت وأمك نفيق كل صباح، نتعطر بروائح الزهر والياسمين، نعانق الأذان، نتلفع بهيبته، نصلي الصبح، نقطر إيمانا وخشوعا، نسبح، نرفع أيدينا متوسلين بالدعاء رحمة الله ومغفرته، نصنع الشاي، ونخرج لتناول الإفطار بين أغصان الشجر، نراقب البحر والموج، ننظر إلى المراكب والبواخر القادمة لترى سحر حيفا، لتتنسم عطر البحر والأرض، كنا نعيش في الجنة.
آآآآآآآآآآه يابا آآآآآآآآآآآآآآه
أتعرف ما معنى الآه؟
اليوم نحن خارج حيفا، نصحو على اللاشيء، على اللامكان، على اللازمان، نصحو لنجد أنفسنا في العراء، بلا سقف، بلا جدران، دون بحر، دون الياسمينة والمتسلقة، نصحو لا نعرف ماذا نفعل، نصلي وندعو، لكن لا نعرف كيف أو أين نقضي حاجتنا، لا نعرف كيف أو أين سننام في الأيام القادمة، كل شيء تغير، كل شيء، كانت الصدمة أكبر كثيرا من قدرتنا على التصديق والاستيعاب، كانت النكبة تخصنا نحن، نحن من شردنا وهجرنا عن أرضنا، عن ماضينا، عن ذكرياتنا، عن جذورنا، عن بحرنا، عن أصول أجداد الأجداد، كانت الكارثة كارثتنا نحن فقط، لم يكن العالم يفهم حين كنا نرسل آهاتنا وزفراتنا المكلومة إلى آفاق الكون، قالوا: “ستعودون يوما إلى حيفا”. كنت أعرف، كما عرف كل أهل حيفا، بأنهم يتحلون بالأعذار لتسكين حر شوقنا ولهفتنا، كانوا يشاركون في هزيمتنا، في تغريبنا، في تعذيبنا، كنا نسمع الجنود وهم يبكون لحظة تسلمهم أوامر الانسحاب لإخلاء الأرض أمام الغرباء، كنا نسألهم: “ما الذي يبكيكم”؟ كانوا يملكون جوابا واحد، بعدة لهجات: “ماكو أوامر”. حتى أوامر المقاومة انتزعت منهم، تماما كما انتزعت حيفا من أحداقنا، وكما انتزعنا نحن من أحداقها. دموعهم كانت تحرقنا، تزهق آمالنا وأحلامنا، العودة يا ولدي كانت تحتاج إلى رجال، إلى رجال، إلى رجال، وليس إلى جيوش لا تحمل سوى مدافعَ حَشَوَاتُها من قماش يثير دخانا، دخانا فقط، العودة يا ولدي كانت تحتاج إلى أناس يعرفون الله، يؤمنون بسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم-وأعماله، إلى رجال يعرفون معنى الألوهية، ليعرفوا معنى حيفا، معنى الشهادة من أجل حيفا، عروس الكون، ودرة العالم.
حيفا سقطت، حيفا ضاعت، ثم “يافا”، ثم “تل الربيع”، ثم “أم الرشراش”، وهكذا، ضاعت فلسطين، أصبحنا بلا وطن، بلا أرض، بلا جذور، وزعنا لاجئين على أرض العرب، وعلى أرض الوطن، لا نملك من أمرنا أي شيء على الإطلاق، ينظر الناس إلينا بتقزز وتعال، نحن أهل البحر، وسادة الآفاق، كنا ننتظر المراكب والجواري لنرحب بالقادمين، نستقبلهم ونمنحهم صدر البيت، تحولنا إلى مخلوقات يتحاشى الناس الاقتراب منها أو التعامل معها.
أتعرف يا ولدي معنى المثل القائل: “من خرج من داره، بنقل مقداره”. نعم يا ولدي، حين خرجنا من حيفا لنوزع على الأرض، فقدنا قيمتنا وفقدنا مقدارنا، الكل طلب منا أن نقابل كرم قبوله لنا بأرضه بإعلان الولاء التام له، وهذا الولاء كان يعني التخلي عن هويتنا، عن أحلامنا، عن حتمية عودتنا، وحين رفضنا جزرنا وذبحنا، وهجرنا من ميناء إلى ميناء، نحمل هويتنا وكينونتنا، نحمل أحلامنا ورؤانا، نحمل آلام ماضينا وصيرورة ثباتنا. كنا فوق الجراح، فوق العذابات، لا نثق بمن ضيع الأرض والعرض، لا نثق بالعروش المستعارة والألقاب الكاذبة، شققنا وبأيدينا حجب الظلمات، ومزقنا بإرادتنا قطع الليل، قلنا: -وبكل ما نملك من قوة- فلسطين حقنا الإلهي والتاريخي والشرعي، فلسطين يُبُوس وكنعان، فلسطين نبينا إبراهيم ويوسف ويعقوب ومحمد وزكريا وموس وعيس -عليهم الصلاة والسلام- فلسطين ملكنا، ملك العرب، ملك المسلمين، ملك صلاح الدين وعمر بن الخطاب، ملك نور الدين زنكي وسيف الدولة الحمداني وأحمد باشا الجزار، ملك شيخها أحمد ياسين ويحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي، ملك الجيش العراقي الذي خرج وهو يبكي وينظر إلى فلسطين نظرته الأخيرة.
أصبحنا -يا ولدي- سلعة، يتاجر بها الملوك والزعماء، كم يساوي حقنا بالعودة؟ سؤال يحاول العالم تثبيت إجابته رغما عنا، سؤال تشارك عروش العرب والمسلمين بتمريره قسرا وجبرا. لكن الذي لا يعرفه الجميع، أننا لسنا للبيع، لسنا للمساومة، وشجرة الياسمين والمتسلقة اللتان تركتهما خلفي حين انتزعت من حيفا، هما أكبر من كل العروش والمقامات السامية التي يتباهون بها أمام العالم، وإن ذَرَّةَ ترابٍ واحدة من حيفا هي أسمى وأعلى قيمة ووزنا منهم ومن عروشهم ومن جيوشهم الصامتة، فلسطين يا ولدي وصية الله والرسل والكتب والسماوية، لتكن أنت والأجيال القادمة حراس هذه الوصية، كونوا حراسا على مستوى الشرف الذي منحكم إياه الله، وارفضوا -بكل ما تملكون من قوة وإباء وشموخ مستمد من وصية الخالق- أن تكونوا عبيدا إلا لله، وشقوا بإيمانكم حجب طاعة من لا يطيع الخالق، واصرخوا صباح مساء، ليس هناك من يملك الحق بالتفاوض على الحق الإلهي للعرب والمسلمين في فلسطين. اصرُخوا بأعلى أصواتكم ولا تخشوا شيئا، فالعمر واحد، والرب واحد.
أما أنا فإني أحملك أمانة نقل رفاتي من أي مكان في العالم إلى حيفا، أمانة تحملها لأولادك إن لم يسعفك الزمن في تحقيقها، حَمِّلْها للأجيال القادمة، جيلا خلْف جيل، وضعوا رفاتي بجانب البحر، واغرِسوا فوق رفاتي شجرة ياسمين ومتسلقة، واكتبوا فوق شاهد قبري:
“حيفا يا عروسَ البحرِ ودُرَّةَ الكون، ها نحن قد عدنا إليكِ.
النرويج: 8-4-2006