أنكر جمع من المثقفين على الروائي الجزائري القدير واسيني الأعرج فكرته عن موت حيزية الأسطورية مسمومة، على الرغم من أن لا أحد في تصوري ينكر عليه جمال موهبته الإبداعية الاستثنائية على مستوى التخييل الروائي و بنائه الفني، و مع تعالي الأصوات هذه الأيام بين مؤيد له و معارض تشكل ترند ثقافي جزائري، و ربما استمر دوي هذا الترند زمنا أطول.
من وجهة نظري أقول إن المبدع بشكل عام هو شخص يتميز بقوة حدسه، و ليس من المناسب أن نسأل قيس بن الملوح عن شطحات شعره في ليلى، و لا أن نسأل الحلاج لم قتل تلك القتلة الشنيعة، و أرى أن الأنسب للثقافة البشرية أن تعتد بحدس المبدع عوض أن تحاكمه عليه، و لا يمكننا أن نتناسى في هذا المقام جمال الحدس في روايات الخيال العلمي في القرن الماضي و جمال تحقق كثير من نبوءاتها في أيامنا هذه، و يبدو لي أن إئتمان المبدع على المستقبل هو أشد صعوبة من ائتمانه على الماضي.
واسيني الأعرج المعروف بثقافته الواسعة الدقيقة و قراءاته المتميزة للماضي هو مبدع من حقه أن يتسخدم ورقة الفيتو الخاصة به و هي الحدس، و إن تعلق الحدس في هذه المناسبة بموت حيزية الشخصية الشعبية الجزائرية التي نقلها لنا الشاعر الشعبي بلقيطون في قصيدته المعروفة التي أداها غناء فنانون جزائريون معروفون مثل عبابسة، و في حالة ما رأى الناس في كلامي هذا مبالغة حالمة فإني أتصور أنني لا أبالغ حين أقول إن سيناريو واسيني عن وفاة حيزية هو واحد من ضمن السيناريوهات التي قد تطرح مستقبلا من قبل مبدعين آخرين و يتوجب علينا أخذه بعين الحسبان عندما نتكلم عن حياة حيزية و موتها، و روايته عنها تندرج ضمن البناء الذي سيتواصل مستقبلا بشأن هذه القصة الرائعة.
ربما أفادنا كثيرا في فهم طبيعة الإبداع و تفهم طبيعة المبدع أن ندرك أن الروائي بشكل خاص كونه مبدعا لا يعني أبدا أنه ملزم بترديد صوت الجماعة، المبدع صوت فردي شخصي متميز قد تخدمه الظروف أحيانا فيصنع بذاته صوت الجماعة، و هذا ما حدث مع الشاعر الراحل بلقيطون في قصيدته عن حيزية التي صار الناس حاليا يعدونها حقائق تاريخية عوض أن يدركوا أنها في المقام الأول تمثل صوت الشاعر حتى و إن حملت لنا بعضا من حقائق الماضي القديم، الروائي يرسم صورة ممكنة عن التاريخ قد تكون صادقة و صحيحة، و لكننا غير ملزمين بتصديقها و إن كنا ملزمين بالإصغاء لها في سبيل استيعاب أفضل لأفكار الآخرين، و هو الأمر الذي يحسن بنا فعله مع رواية عن حيزية قد تصدر لواسيني في المستقبل القريب، و هو ذاته الأمر الذي يحسن بنا فعله مع رواية الديوان الإسبرطي لعبد الوهاب عيساوي في تصورها للوجود العثماني بالجزائر.
تمثل رؤية الروائي للتاريخ قالبا فنيا جميلا يعرض عبره إيديولوجيته الخاصة التي قد تتعارض مع إيديولوجياتنا بشكل كبير إلى حد يدفعنا إلى الشعور بالنرفزة لدى سماع اسم هذا الروائي فحسب، و لا أنكر أن هذا الأمر قد حدث معي شخصيا لدى قراءتي لرواية واسيني حارسة الظلال، هذه الرواية الجميلة تغنت بشكل متقن بفكرة الأمجاد الموريسكية الضائعة بين الريفيين من أبناء الجزائر، و هي فكرة ربما دفعت أي جزائري إلى الشعور مثلي بالنرفزة أمام هذا التعالي الموريسكي الذي ينكر فضل الجزائر في احتضانه في زمن شقائه و نكسته، و يبدو لي واسيني بهذا الشكل شخصية مستفزة على الرغم من كونه مبدعا أنيقا حاذقا في كتاباته الروائية.
تثير فكرة واسيني عن حيزية مجموعة من الأفكار و التساؤلات عن طبيعة الإبداع بشكل عام و عن الإبداع الروائي بشكل خاص، منها التساؤل عن مدى إمكان الإذعان لقوة حدس المبدع فيما يتعلق بالتاريخ، و منها التساؤل عن مدى إمكان الاستفادة من صوت إيديولوجيته الشخصية حتى في الحالة التي تعارض إيديولوجياتنا، و لكن ثمة فكرة أخرى قد تكون مهمة أيضا، و هي التساؤل عن مدى إصابته في تصوير الجو العام للحياة القابعة في غياهب التاريخ، و عن درجة إتقانه لهذا التصوير المتخيل الذي يستند أحيانا إلى وثائق تاريخية يعتد بها المؤرخون أنفسهم، و في هذا الشأن قد نذكر العمل البحثي التاريخي المتعمق الذي قام بها الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو تمهيدا لكتابة روايته اسم الوردة، و لربما كانت إحدى أجمل مزايا الرواية التاريخية أنها بتصويرها الحذق للماضي تجعلنا أكثر تفهما و استيعابا لحقائق التاريخ و أكثر تقبلا و تسامحا معها في أحايين كثيرة، على الرغم من كونها حقائق مؤلمة، من قبيل هجرة عشرات العائلات الجزائرية لقراها نزوحا إلى مدن الشمال.
——–
– طالب دكتوراه أدب حديث جامعة باجي مختار عنابة الجزائر و عضو دولي في مختبر بنغازي للسيميائيات و تحليل الخطاب ليبيا