أول ما يطالعنا في رواية ” زوجة الملوك الثلاثة ” للروائي المغربي مصطفى لغتيري المنحى التاريخي في ارتباطه بشخصية زينب التي تستهل بها أولى فصول الرواية في قولتها ( لن أتزوج إلا رجلا يحكم بلاد المغرب بأكملها ) قولة ختمت بها آخرفصول الرواية ” في قلب الصحراء” ، راسمة الحدود لنسق مجريات وقائع وأحداث في سياق تاريخي غني بمواقعه ، ومستجداته عبر شخوص حققوا بطولات تاريخية خلدت مجدهم ، وأرخت لسيرهم الزاخرة بكبير المنجزات ، وعظيم الملاحم. فالرواية تمتح من تاريخ جليل حافل بأحداث جسام ، ووقائع مشهودة : ” وهكذا التقت الجيوش في مكان يدعى الزلاقة … ” ص 81، في إشارة إلى موقعة الزلاقة التي حقق فيها المسلمون فوزا مظفرا على الإسبان : ” طارد المسلمون فلول جيوشهم ، وأثخنوهم بالقتل ، فتحقق المراد ، ونصرنا الله في هذه الحرب نصرا مبينا ، جعل راية الإسلام تستمر خفاقة في الأندلس ، بعد أن كانت مهددة بالسقوط والزوال . ” ص 81 ، حدث كلل بنصر َبيِّن خطط له الأمير يوسف بن تاشفين بمعية زوجه زينب ، ويتكرر نفس الإنجاز في مواقع أخرى كمملكة تلمسان : ” كان الشرق لم يستقر بعد ، فزحف جيشنا على مملكة تلمسان التي كان يحكمها الزناتيون ، فتمكن من التغلب عليهم وقتلهم ، ثم عمد الأمير يوسف بن تاشفين إلى بناء سور يحيط بها ، يحميها من غارات الأعداء … ” ص 84 ، إلى غيرها من الوقائع البارزة التي صنعت مجد أبطال تاريخيين كيوسف بن تاشفين في موقعتي الزلاقة وتلمسان .مقابل مظاهر الضعف والتشرذم التي عاشتها ربوع وأقطا رعربية مسلمة أخرى كالأندلس : ” خاصة في الأندلس ، بعد أن ضعفت الدولة هناك وتوزعت إلى ممالك يحارب بعضها البعض. ” ص 64 ، رواية تتقاطع فيها الأحداث بالشخوص . تتماهى . تتشابك عبر مرجعية تاريخية لا تخلو من مفارقات تتوزع بين النصر والإخفاق. التقدم والانكفاء . الفوز و الانتكاس . ويلاحظ كذلك سرد أمكنة ذات حمولة تاريخية وحضارية كفاس ، أغمات ، الأندلس ، القيروان ، مراكش ، قرطاج ، قرطبة ، سبتة ، قشتالة ، طليطلة ، مرسية ، إلى العمق الإفريقي كتومبكتو ، وغانا في ارتباط بحضارات من قبيل المرابطين ، والفاطميين ، وفرق عقدية كالشيعة الإسماعيلية ،وحضارة العباسيين بالمشرق العربي في تساوق مع أسماء بارزة ظلت راسخة في سجل التاريخ العربي الإسلامي مثل عبد الله بن ياسين الذي اشتهر بمهامه الدعوية والإصلاحية متبنيا المذهب المالكي ، ومساهما في تأسيس الدولة المرابطية . وعبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس ، وابن عبد العزيز صاحب مرسية ، وألفونسو ملك قشتالة ، والملك الشاعر المعتمد بنعباد ، وعقبة بن نافع أبرز قائد عسكري ساهم في الفتح الإسلامي للمغرب في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية والملقب بفاتح إفريقية وباني القيروان . زخم تاريخي غني بأعلامه وأمكنته ووقائعه … استمدت منه رواية ” زوجة الملوك الثلاثة ” أسس صرحها السردي ، ومادة حكاياتها من خلال نسيج حبكت خيوطه ، وتكاملت أطرافه في تمازج وتفاعل بين طبيعة الأحداث وقيمة الشخصيات التي تميزت بوفرة تفاوتت قيمتها ، ومستوى تأثيرها في شكل وتشكيل الوقائع ، وإيقاع سيرورتها ، بحيث تحظى شخصية زينب بموقع ريادة سردية ، وسلطة حكي محورية استحوذت على مجريات الرواية، وما طرأ عليها من تبدلات وتحولات ، وما استغرقها من تفاصيل ومستجدات ، إلى جانب الملوك الثلاثة الذين ارتبطت بهم ( لقوط بن يوسف بن علي ، فأبوبكر اللمتوني ، ثم يوسف بن تاشفين ) ، فضلا عن والد زينب ( التاجر القيرواني ) ، وصديقه ( التاجر أ بومحمد ) ، وابنته مريم صديقة زينب ، وأخواتها الثلاث ، والتاجر الشاب وزوجته عائشة كلها شخصيات أثثت فضاء الرواية ، وأسهمت في تشكيل نسيجها مع تفاوت لافت ومؤثر في حضورها داخل ثنايا الحكي ، وتسيير دفته ، وتوجيه مساره ، في تبدلاته وتحولاته ، لتحظى شخصية زينب بطابع محوري عبر تغلغلها في فصول المتن الروائي السبعة ( الاستهلال ، في رحاب القيروان ، الطريق إلى فاس، من فاس إلى أغمات، مراكش هدية زواجي،الحرب في الأندلس،وفي قلب الصحراء .) من عتبة العنوان والفصل الأول إلى الفصل الأخير ، ورغم تجاور الشخصيات والأحداث في سياق الرواية ، وما ميزهما من تنافر وتجاذب ، تنابذ وتناغم إلا أن هناك عناصر لا تقل قيمة على المستوى الرمزي والدلالي والجمالي كالحلم والهجرة ، ولعل أعلى مراتب ومقامات الحلم تجسد فيما آمنت واقتنعت به زينب وكرست حياتها لتحقيقه والمتمثل في الاقتران بشخص يحكم البلاد مختزلة ذلك في قولتها (لن أتزوج إلا رجلا يحكم بلاد المغرب بكاملها ) ، وهو ما تأتى لها بفضل ميزاتها الجمالية والعلمية المعرفية بما راكمته من ثقافة بفضل قوتها الذاتية على التحصيل وسط بيئة أسرية ساعدتها على ذلك : ” في طفولتي المبكرة ، كنت أسترق السمع للفقهاء والعلماء الذين يدعوهم أبي للبيت الكبير… ” ص 17، وما يعرفه مجلسهم من حديث غني بمطارحاته الأدبية والعقدية : ” من مكاني المتواري عن الأنظار سمعت كثيرا من الحديث ، الذي كان يأخذ من كل طرف ، سمعت أشعارا وحكما ، وقصص الأنبياء ، حكايات بلا حصر … ” ص 21 ، مما قوى رغبتها ، وأذكى حسها على النهل من حياض المعرفة بشتى ضروبها و ألوانها : ” يا لعقلي هذا الذي لا يرتاح أبدا يحاول أن يفهم كل شيء ، ويعرف كل الكائنات ويكتشف أسرار الحياة . ” ص 62،حلم امتدت حدوده ،واتسعت دائرة تطلعاته واستشرافاته من خلال ما أثارته صديقتها مريم في نفسها وذهنها من شوق وتوق لرؤية البحر ، والتمتع بشساعة أطرافه المكسوة بمياه لا ينضب معينها ، ولا تنتهي حدودها ، في انفتاح على الذات ومكاشفتها ببواعث عشق جارف لتحقيق حلم بات يستولي على كيانها ، ويسيطر على وجدانها ، بل يتغلغل إلى ألياف فؤادها : ” أصبح الحديث عن البحر يستهويني حتى أنني كنت أطلب من مريم أن تعيده على مسامعي بمناسبة أو بغير مناسبة … ” ص 26 ، حلم ما فتئ تحقيقه يغمرها بغبطة عارمة ، ونشوة لا متناهية : ” وكان لقائي الأول بالبحر ، لقاء ترسخ في ذهني العمر كله . بدت مويجاته ناعمة ولطيفة وهي تتسع بقدومي … لقد ملأني هذا الجو الطاغي للبحر بالانتعاش والانتشاء … ” ص 47 ، فشغلها ، وأشعل نيران البهجة والانبهار بداخلها : ” وانشغلت بالإبحار في رحابة هذا البحر، الذي كان إلى وقت قريب مجرد حلم مستعص … ” ص 48 ، محققة حلما لطالما راود عقلها ، وخامر حسها ، وخاتل نفسها . والهجرة كذلك التي نغصت على والد زينب ( التاجر القيرواني ) ، وعلى أهل البلدة نعمة الاستقرار ، وطيب العيش وهناءته إثر ما بلغهم من أخبار سيئة زرعت الرعب والهلع في أفئدتهم : ” لقد تأكدنا جميعا بأن الأمر لن يتعدى أياما حتى تغزونا قبائل بني هلال شديدة البأس ، وتستولي على مالنا وبيوتنا … ” ص 31 ، فتركوا بلدهم ، وشدوا الرحال نحو مدينة فاس المغربية التي سرعان ما استأ نست أسرة زينب بأجوائها ، وتعايشت مع ساكنتها من خلال ما جمعهم من روابط الألفة والمودة : ” ألفنا المكان بسرعة وأصبح لنا جيران ومعارف وصداقات ، حتى أن أبي اطمأن علينا وبدأ يخطط لتجارته ، رفقة صديقه في فاس… ” ص 55 ، إلا أن وتيرة الهجرة والرحيل سرعان ما تحرك إيقاعها صوب أغمات : ” غاب ( الأب ) شهرا كاملا ، ثم عاد إلينا بخبر جعلنا في حيرة من أمرنا ، لقد قرر أن نرحل إلى هناك ( أي أغمات ) ونتخذ لنا بيتا في المدينة … ” ص 56 ، فيغدو الرحيل قدرا يلاحق الأسرة ، ويعكر نعمة استقرارها : ” يبدو أن قدرنا الرحيل من مكان إلى آخر ، ها نحن بعد أن ألفنا المكان في ريف فاس ، اضطررنا أن ننتقل إلى مدينة جديدة … ” ص 57 . ولا تخلو الرواية من جانب أنتروبولوجي بخصوص ساكنة مدينة فاس في تشكيلتها الفسيفسائية الناجمة عن اختلاف في أصول النازحين نحوها، وتباين طبيعة هوياتهم على مستوى عادات وثقافات هي مزيج من الدين والحضارة والمعرفة : ” الأهالي القاطنين في المدينة خليط من العرب ومن الأندلسيين وقلة من أعيان الأمازيغ .. كان الصراع على أشده من أجل الظفر بمكانة في المدينة . كل فئة لها دوافعها ، فالعرب يلقبونهم الناس هنا بالشرفاء ، لأنهم من سلالة النبي محمد (ص)أو أنهم قدموا للبلد من الشرق ، ويرون في أنفسهم أنهم أحق بالرئاسة ، فيما القادمون من الأندلسيين يرون أنفسهم أكثر حضارة و قدرة على التنظيم وتسيير أمور الناس وأحق بالريادة ، فيما كان الأمازيغ يرون أنفسهم أصحاب البلد الحقيقيين … إلا أنهم الأحق بالقيادة وبالثروة والجاه … ” ص 54 .
فرواية ” زوجة الملوك الثلاثة ” التي استقت أحداثها وشخصياتها من التاريخ، ورغم تعدد الشخوص والوقائع فقد هيمن على مجريات الحكي ، واستحوذ على فصوله وتفاصيله شخصية زينب المنحدرة من وسط تعمه الثقافة والثراء مما خولها الار تقاء إلى سدة تدبير شؤون دولة من حجم و قيمة المرابطين ، وبزعامة قائد من مقام يوسف بن تاشفين زوجها الذي استفاد من رجاحة رأيها ، وسعة وبعد رؤيتها في تسيير أمور البلاد . فتختتم فصول الرواية كما بدأت ( لن أتزوج إلا رجلا يحكم بلاد المغرب بأكمله) ، بعودة ، حبلى بمشاعر نوستالجية تنضح شوقا وتوقا لمرتع الولادة والنشأة ( القيروان ) : ” بعد أن كحلت عيني بمرأى القيروان خرجت منها يوما مضطرة ، خائفة ومرتعبة ، وعدت لها اليوم أميرة ، بل ملكة متوجة فزرت بيتنا القديم … ” ص 86، لتتوقف فصول الرواية مع وفاة يوسف بن تاشفين ، ويتوقف معها اهتمام زينب وانخراطها في تسيير شؤو ن الدولة : ” حين انتقل الأمر إلى الأمير علي بن يوسف ، قمت بزيارته في قصره ، فرحب بي ترحيبا يليق بي ، وعرض علي أن أظل في وضعي السابق ، يستشيرني في أمور الدولة ، ابتسمت له ودعوت الله أن يوفقه ، وأخبرته بأن نفسي ضاعت بضياع
الأمير يوسف ، فلم أعد أنفع لهذا الأمر … ” ص 100 ، وانصرفت من ساعتها لقراءة القرآن ، وتشجيع الناشئة على طلب العلم : ” قررت أن أتفرغ لقراءة القرآن وتشجيع الصبيات والصبيان على طلب العلم . فأوفقت أملاكا في سبيل تحقيق ذلك ، وكان يلذ لي في الأماسي أن أجلس وحيدة أتلو وردا من القرآن الكريم ، وحين أنتهي من التلاوة أضع المصحف الشريف جانبا ، ثم أهيم في ذكريات مسترجعة حياتي لحظة بلحظة … ” ص 100 . قرار استغرقته رحاب حياة توزعت بين قراءة القرآن ، والنبش في ذكريات ماض حافل بشتى الوقائع والأحداث .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ الكتاب : زوجة الملوك الثلاثة ( رواية ).
ــ الكاتب : مصطفى لغتيري .
ــ المطبعة : روافد للنشر والتوزيع ـ مصر / 2023.