إنها الرواية، المجال الأدبي الفسيح لاستيعاب تجارب الروائيين المفتوحة والمتناسلة، يتجاذب على رسم ملامحها المتنوعة مبدعون يرون فيها النوع الأدبي الجميل المشكل لعوالم يتفاعل فيه الناس ضمن أحداث تحركهم وتدفع بهم إلى التدافع والمواجهة والصراع والمصالحة والتوافق والتنافر ، وفي ذلك تصوير للكثير من المعطيات الفكرية والاعتقادية والتأملية التي لا تخلو منها بيئة الإنسان ووسطه.
وقد تطورت الرواية والإبداع بشكل عام فتعددت التجارب وعمت جميع البلدان العربية فـ” في الإبداع العربي اليوم ،لم يعد هناك مشرق أو مغرب،بل هناك إبداع،مع أن هناك خصوصيات لأدب كل بلد ،هي بشكل أوبآخر تنويعات لخصوصيات مشتركة منطلقها الدين الواحد واللغة الواحدة والجرح الواحد” 1.وهنا تجد كل روائي يقدم روايته في طبق يختاره معتبرا إياه المناسب لتجسيد رؤاه في قالب سردي تكون نهايته الوقوف على تمظهرات ومواقف يعج بها المجتمع ،مواقف متواجهة عبر العمل على تحقيق العدل وزهق الباطل. فالرواية تنعت بأنها” نص مفتوح ، وانفتاحها نابع من كونها دائمة التطور والتحول،وقادرة على استيعاب نصوص متباينة وإعادة إنتاجها ضمن أنساق جديدة”2 .
وتأتي رواية ” ظلال الخذلان” تجربة سردية لأمنة برواضي ، لتغرف بدورها من أحداث ،مفترضة في مجتمع ما وفي عصر ما أسعفها في ذلك قدرتها على تخيل واستحضار الأحداث ضمن مسار تصارعي يشد القارئ إليه متمعنا في الوقائع والمصائر الإنسانية ضمن عائلة يمكن اعتبارها نموذجا لعائلات كثيرة داخل المغرب وخارجه.
الرواية في طبعتها الأولى صدرت عن ديوان العرب للنشر والتوزيع بمصر ،وجاءت في 125 صفحة من الحجم المتوسط ، وبغلاف من تصميم الدكتور محمد وجيه ،غلاف يغلب عليه السواد ،صدره يحمل عنوان الرواية مكتوبا بالأبيض الناصع في الأعلى وتتوسطه لوحة تبدي وجه أنثى شاردة النظرات وكأنها تتوقع شيئا يحدث بعد حين …وتحْتَ اللوحة اسم الروائية “أمنة برواضي “.أما الغلاف الأخير فخصص لصورة الكاتبة وعناوين مؤلفاتها الكثيرة.
غلاف بواجهتيه يعكس الكثير من المعطيات الواردة في الرواية بدءا بالعنوان الحامل للظلال والخذلان وكلاهما يحيلان على الظلام والظلم.
الشجرة محطة للتفكير والتأمل
” جلس الحاج عبد الله تحت ظل الشجرة الكبيرة ،ينبش بعصاه على الأرض التي ظلت وحدها شاهدة على الأحداث التي مرت بها المنطقة ، بعدما استبدلت جل الأشجار ،إما بتغيير نوع الفاكهة ،أو لتجزئ حصل في الأرض،أو لبناء سور لسياج أرض لشخص دون غيره.
كانت الشجرة الوحيدة التي قاومت عوامل التعرية الطبيعية منها والبشرية ،ولم تجرؤ يد أي منهم على قطعها…” ص6.
استغلت الكاتبة الشجرة استغلالا تقنيا ورمزيا لتسرد أحداثها جاعلة منها المحطة التي يعود إليها الشيخ وبعض من أصدقائها للتأمل في الأحداث في ماضيها وفي حاضرها.وقد جعلت محيط هذه الشجرة فضاء يستعيد فيه الشيخ هدوئه متأملا فيما حصل ويحصل من تغييرات على جغرافية قريته ” كان المكان تحت الشجرة يشده كما الحنين إلى الأيام الخوالي،يجلس ويستمتع بخرير مياه العين التي لم تسلم بدورها من التقسيم الذي عرفته الأرض غير أن تقسيم العين كان بشكل آخر لأنهم لم يصلوا إلى طريقة تغير مجرى الماء،والماء له نبع يخرج منه ويشق طريقه من أعلى الجبل المطل على المنطقة ، وينهمر شلالا ليروي الأرض منذ آلاف السنين،ألا يقال أن الماء يعرف طريقه؟” ص7.
عائلة واحدة بنوايا مختلفة
في الرواية تتأزم الأحداث منذ البداية ليحتد تأزمها شيئا فشيئا مما يجعلها رواية تدفع بالقارئ إلى توقع الحلول وتوقع مآلات المعضلات المثارة من سلوك هذا الفرد أو ذاك من أفراد العائلة..وبذلك تذكرنا بالدراما الاجتماعية التي تتضارب فيها المصالح والرؤى بين الثوابث وضرورة التغيير.
وتحت سقف واحد ستتصادم المواقف والرؤئ بفعل التطور الذي يطال العلاقات بصورة متفاوتة فيخلخل المعتاد ويستحضر البديل والممكن الذي يراه صاحبه أفضل ، وبين التشبت والانفتاح ينشأ هذا الصراع بين الكبار والصغار وبين الإخوة ،كل يحاول التصرف وفق رؤيته نحو حاضره مقارنا إياه بمستقبله ، وبحياة آخرين مختلفين عنه.
فالحاج عبد الله كالشجرة التي يستظل بها ويتأمل تحتها عاش ردحا من الزمن في ماض مفعم بالوقار والتحصن وعدم التفريط في قوانين وعادات موروثة لا ينبغي المساس بها ، وهي التي تنظم العلاقة بينه وبين سائر أفراد أسرته وعائلته،والكاتبة ترمز إلى هذا الحرص وهذا الاسف الذي ينتابه حين توازن بين ماضيه وحاضره “استمر في سفره في ذكريات الصبا،وفي أشياء أخرى تشغل باله حينا آخر،ولا أحد يعكر عليه صفو خلوته،وبين الحين والآخر تتساقط إحدى الأوراق الجافة تتلاعب نسمات الهواء قليلا قبل أن تستقر إلى الوار،يرفع رأسه إلى الأعلى في محاولة منه لرؤية الفراغ الذي تركته،يتأمل جيدا مكان سقوطها فلا يكاد يتبينه،هناك أماكن كثيرة أصبحت فارغة،وهناك أماكن أخرى تعرف نمو أوراق صغيرة لها أوراق صغيرة حالها يشبه حال الإنسان في هذه الحياة ينتهي أجل وتسقط ورقته كما يقال ليوارى الثرى،ويولد آخر في مكان آخر،أو كانت الطبيعة قاسية معها ولم تسقها من مياهها فتبخل في عطائها،أو حين تهب عليها رياح عاتية وتسقط كل ثمارها قبل الأوان أوحين يتساقط البرد ويؤذي ثمارهاأو…لكن الإنسان تجده يتغير باستمرار إلى الأسوإ إلا القليل،فكلما أقبل جيل جديد إلا وحل بأفكار تساير عصره لكنها تحمل في عمقها الضياع والخراب للثقافة والقيم التي كانت قبله ، ويبقى الجيل الذي سبقه يفرك يديه حسرة على الماضي الذي ولى”.ص8،9.
الفقرة تحمل نظرة فلسفية وجودية بعين الحاج عبد الله المخضرم الذي عاش أجيالا ويتعايش مع أجيال مما يجعله يعيش بين نارين متوزعتين بين ماض مؤطر بضوابط ويل لمن يحاول اختراقها ،وحاضر ينبئ بالإخلال والهدم للمبني من قبل الأسلاف.
وكأن الكاتبة توحي بالأحداث التي ستتوزع صفحات الرواية، فهي تتهم الإنسان بالتغير السلبي الذي يباشره على محيطه وقيمه المتوارثة وتجعله مقابلا للشجر الذي لا يستبدل ثماره بأخرى ، ولا يتراجع عن العطاء إن توفرت له الظروف المناسبة.
هذا الرصد للتغير الذي لحق فضاء الأحداث انطلاقا من نوايا ومواقف الشخصيات هو الطابع المغلف للرواية من بدايتها حتى النهاية.
وستتقد جذوة الصراع بين أبنأء وبنات مصطفى ابن الحاج عمرو ،وهم محمود ،وعبد الله ومختار،ورقية والسعدية وراضية .ومن محمود ستبدأ خلخلة نظام القبيلة فمغادرته القبيلة نحو المدينة بحجة القرب من أبنائه المتابعين لدراستهم هناك ستجعله يستهين بنظام القبيلة”تغيرت أفكار هذا الابن ودخلها ما يشبه السوس وأصبح يرى في القرية مصدرا للمال فقط،كان يعود بين الحين والآخر ليغرف من خزائن والده التي ورثها عن الجد”ص13..هذا في الوقت الذي يحدثه أبوه مصطفى عن حق كل الإخوة في الأرض بالتساوي لأنها شريعة الله ،ولا يحق لأحد أخذ شيء ليس له وإلا أكل في بطنه نارا…
وتقدم الكاتبة محمودا بصفة الطاغية الاناني المادي الذي لا يعير القيم أي اهتمام ويحاول نزع الاهتمام والتعلق بالأرض في قلوبهم طهكذا بعدما خلا الجو لمحمود بعد وفاة والده بدأ يتقرب من إخوته أكثر من ذي قبل،يحدثهم عن الحياة في المدينة،وعن الرفاهية التي يعيش عليها أهلها،وطريقتهم في التفكير وتدبير أمور الحياة كان يجد من بينهم من يحلو له الاستماع…”ص16.
سميرة الأنثى المعذبة
وفي كل تجاذبات الأحداث في الرواية تظل شخصية سميرة الشخصية البارزة التي تحاول الكاتبة أن تحملها الحديث والتجسيد لمعاناة أي فتاة مثلها،فهي ذكية ، حاصلة على الباكالوريا لكنها ظلت وفية لأعباء البيت قبل وبعد وفاة أمها خديجة الذي خلف حزنا عميقا في نفسيتها ونفسية أبيها الحاج عبد الله…إنها الشخصية السيزيفية،الصبورة والأنوفة التي لا تستسلم بسهولة لأي إغراء. فأمين الذي تخلى عنها يوما مهاجرا إلى الغرب يعود إليها مسترضيا إيها بغية الارتباط بها لكنها قوية الردود ،خاصة وأنها القارئة للكتب باستمرار بشكل عمق أفكارها وقوى حججها ،وحين يتهمها بالغرور والعناد ترد عليه قائلة “كيف تريدني أن أنسلخ عن طباعي وأتغير؟ألم تدرك بعد أني لا زلت في نفس المكان الذي ولدت فيه(..) إذا كانت البلاد الأخرى قد تطورت وسبقتنا بأشواط فنحن ساهمنا في ذلك التطور بعملنا عندهم بخبراتنا وقدراتنا وعقولنا التي بيعت هناك بأبخس الأثمنة،وفي نفس الآن ساهمنا في تأخرنا كل هذه السنين”ص61،62.
ورغم هذا العناد ، وبعد استدراجات من الإخوة والأب الذي هم على تجديد زواجه بعد موت امرأته سترضخ سميرة للأمر الواقع وتقترن بأمين وهي حزينة متحسرة على مغادرة بيت يحمل رائحة أمها وأغراضها، وهو البيت الذي خدمته سنوات وسنوات “آه يا أمي ،لو كنت هنا لما قبلت أن تري ما ألم بي من ضعف،وما حل بجفوني،غسلت وجهي على الفور واستعدت طاقتي وحيويتي وأنا أتنقل في أرجاء البيت أرتبه وأمسح ما علق بالأثاث من غبار،وبين الحين والآخر أجمع بعض أغراضي التي قد آخذها معي إلى بيت عمتي بعد عقد قراني على أمين”ص96.
وبهذا الرضا وبعد منعطفات جسدت إباء سميرة وأنفتها ووعيها ستستسلم وتنهي تأجج أحداث الرواية “ابتسمت سميرة،وهيتنظر في حياء إلى أخيها،ركبت السيارةإلى جانب أمين ،وانطلقت بها تشق رحم الظلام وصدى الزغاريد يتردد في الأرجاء” ص124.
تركيب
تأتي رواية الكاتبة المغربية أمنة برواضي عملا سرديا جميلا ، ترجع جماليته إلى بساطة لغته البعيدة عن التشذيب والتكلف ، مما جعلها ذات انسيابية متسلسلة تسلسلا تقطعه بعض الاسترجاعات التي تحتمها العودة إلى الماضي ،لمخاطبة الحاضر ،والإشارة إلى التغير الذي قد يشكل ثغرة في قيمة من القيم التابثة في النفوس. والكاتبة في ذلك كسائر الكتاب الذين أصبح الماضي “في رواياتهم جزءا لا يتجزأ من الحاضر،ولا ينفصل عنه .فهو منسوج في ذاكرة الشخصية ومخزون فيها تستدعيه اللحظة الحاضرة أولا بأول على غير نظام أو ترتيب.ولذلك لا تكتمل الأحداث في تسلسلها الزماني سوى في نهاية القراءة.ويعاد ترتيبها في مخيلة القارئ،فلا تظهر الأحداث الماضية مركزة في كتلة نصية متكاملة لها خصائصها الفنية ولكن نراها انتشرت ونثرت على النص كله وأصبحت مهمة جمعها في صورة متكاملة هي مهمة القارئ لا الروائي” 3 .
الرواية مفعمة بالصراع بين ماض يراه الذين عاشوه بعمق جميلا غير قابل للاستبدال ، وبين من يراه عرقلة لتجربة الممكن من البدائل ومحاولة الانعتاق من الرتابة التي قد تعوق بدل أن تحفز نحو الأفضل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
1ـ وجها لوجه عبد الرحمن مجيد الربيعي وعبد الرحيم العلام ،مجلة العربي العدد 672 نوفبر2014 ص 69.
2ـ سيمياية السرد الر وائي ،من السرد إلى الأهواء،حليمة وازي منشورات القلم المغربي الطبعة الأولى 2017 ص7.
3ـ بناء الرواية ،دراسة في ثلاثية نجيب محفوظ،سيزا قاسم،الطبعة الأولى1985 ،ص 42 .