يحظى عمل الأديب عز الدين ميهوبي، “رقصة أوديسا، مكابدات أيّوب الرُّوسي”، في طبعتها الأولى الصادرة عن دار الوطن اليوم، العلمة، الجزائر، 2023، بفرادة موضوعه العابر للحدود والاقتصاد في اللغة عبر الإيحاء والتكثيف.
لتحقيق هدفه الفكري المتعلّق بإشكالية هجرة قوارب الموت وتوصيف معاناة الإنسان في نقاط التناحر الساخنة، انتهج الكاتب نهجا مغايرا عن ذاك النمط السائد الذي سلكه بعض الروائيين العرب حينما استعملوا اللغة كغاية لا كوسيلة، وفي ظنّهم أنّ الخيال المطلوب في كساء الأدب يتوقّف عند بهارات التلاعب اللغوي المتهالك والمغامرات الفنّية والغرائبيّة المرتهنة للشكل دون المضمون. أمّا عز الدّين ميهوبي فقد التصق الخيال الأدبي لديه بنسيج الحكاية في حدّ ذاته، فوظّف اللغة في أفق هذه الرواية كأداة لتوصيل المعنى المراد تبليغه، بعيدا عن السطحية والسفسطائية التي هي عند البعض المغالاة في استخدام عناصر المحسّنات السردية.
على إيقاع القلق والألم، لجأ الكاتب عزّالدين ميهوبي إلى جنس الرواية لطرح مسار عبور مبتكر إلى فضاء اللا استقرار، وذلك بعرض عدّة محطّات مكانيّة مؤثّرة تمثّل في جملتها المواضع الحاوية لجسد أيّوب، بطل الرواية، في مسيرة انعطافه في دروب البحر والموت، محاولا قراءة البنية السّياسية والاجتماعيّة وتحوّلاتها في العقود الأخيرة بالجزائر، فالهجرة بالأساس هو انتقال المرء من مكان إلى آخر أكثر استقرارا وأمنا، وفي السابق، قبل سنّ القوانين المقيّدة لحريّة التّنقّل، كان الناس يهاجرون بحرية مطلقة دون الاستظهار بجوازات عبور أو تأشيرات دخول، وحين نُثرت الحواجز في طريق حركة المهاجرين كمسامير عائقة ووُضعت القيود الرادعة أمام المتسلّلين إلى فضاءات الحلم الذي ينشده المرء ويتمنى الوصول إليه، نشأت الهجرة السّرّية، وقد تناولت عدة أعمال إبداعيّة هذه الظاهرة، خاصّة لدى الكتّاب التونسيين بعد ثورات الربيع العربي، لكنّ معظمها جاء سافرا بلا نبض بسبب نزوع أصحابها إلى استهداف الأنظمة الحاكمة المتعاقبة على السلطة بشحنة فائضة من حساباتهم الإيديولوجية، بدل شرح أسباب الهجرة غير الشرعيّة ووسائلها ومآسيها، بأسلوب فنّي بديع هي جوهر المنتج الإبداعي.
وقد قسّم بعض الدارسين في المدوّنة الروائية المغربية، المتون الساردة لهذا الموضوع إلى ثلاثة أقسام: ما قبل الهجرة، وأثناء الهجرة، وما بعد الهجرة؛ وعددّ الأستاذ عبد الواحد عرجوني في دراسته “الهجرة السّرّية في الرواية المغربيّة” بعض النصوص كـ”سماسرة السراب” لبنسالم حمّيش، و”انتحار المبعدين” لأشهبار المتّقي، و”يوميات مهاجر سرّي” لرشيد نينّي، مشيرا إلى أن تقسيم الهجرة السّرّية إلى ثلاث مراحل زمنية: قبل، وأثناء وبعد؛ غير دقيق فهو يسقط من حساباته مراحل زمنيّة بينيّة مهمّة، مقترحا تقسيما جديدا مبنيّا على سبع مراحل، وهي: مرحلة التغرير، مرحلة التفكير، مرحلة الاستعداد، مرحلة التّربّص، مرحلة العبور، مرحلة الوصول ومرحلة الاستفاقة.
ومن الروائيين الجزائرين، تناول الصدّيق حاج أحمد هذه المسألة في روايته “كاماراد.. رفيق الحيف والضياع”، وعلي فضيل العربي في روايته “البحر والسراب”، غير أنّ عز الدين ميهوبي قد اختار أن يقدّم اتّجاها معاكسا لكل الأقلام التي سبقته في طرحها لقضيّة الهجرة السرّية، حتّى تلك التي خاض أصحابها “الحرقة” في واقع الحياة مثل الكاتب جمال عمر في سيرته الذاتيّة “مهاجر غير شرعي” أو خالد وحيد في تجربته الشخصيّة “التخزين”، عندما انطلق، بدافع واقعي لا من الخيال، في مغامرته السرديّة من محطّة استقرار إلى بؤر توتّر، أيّ أنّ منطلق العبور لم يكن هروبا من واقع الأوطان المريرة، من واقع الفقر والبطالة والاستبداد والحروب، إلى ضفّة الأحلام وجنان الأمن والعيش الكريم، بل كانت الوجهة معاكسة تماما، كانت هجرة أيّوب الجزائري بطل الرواية اضطرارا من المكان الذي وجد فيه الراحة والاستقرار والحماية رغم بعض القلاقل إلى منطقة الصراع والموت وهدفه هو الوصول إلى زوجته كلاريسا عازفة الكمان الأوكرانيّة وابنته شريفة الواقعتان كحبتي قمح بين فكي رحى حرب الروس والأوكران، اختزلها السارد في هذه العبارة: (ليتني وجدتُ من يمنعُني من السّفر، لو كنتُ في سنّك.. لكنني سأعبر البحر رغمَ أنفي وأنف البحر، لأنّ هناك من ينتظرني ورأسهُ تحت القصف. لا داعي أن تفهم، أنتَ تبحث عن حياةٍ مختلفة خلف هذا البحر، أمّا أنا فأبحثُ عن حياتين يُحاصرهما الموت.)
ومن المفارقات العجيبة التي مارسها الكاتب في لعبته الذكية على صفحات الرواية أنه مدّ في أنفاس المهاجر الوحيد الذي وجهته فضاء الصراع ودوي الرصاص حيث كل طرق المكان تؤدّي إمّا إلى الموت أو الهروب، وقضي بالموت وبجرّة قلم على كل المهاجرين إلى الملاذ الآمن وبهجة الحياة، كل شخصيات الرواية الحارقة إلى الملاذ الآمن هروبا من مصيرهم ينهي الكاتب دورها تاركا ناجيا وحيدا يواصل نجاحه في مغامرته في هجرته غير الشرعية.
ولأغراض هذه الدراسة ولتوضيح الفكرة الأساسية، سألجأ إلى تحويل التقسيم سابق الذكر في مراحله الثلاث: ما قبل الهجرة، وأثناء الهجرة، وما بعد الهجرة، من الأزمنة إلى الأماكن المجانبة لطريق السفر: أرض الوطن (المكان الأصلي)، فضاء العبور (المكان العرضي) وأرض المهجر (المكان البديل) الذي عبّر عنه حميدو قائد زورق الموت بـ”أرض الله”، حين قال: (منذ تسع سنواتٍ وأنا أعبرُ به البحر من دلّس أو أماكن أخرى حتّى لا يُكتشفَ أمرنا، نقلتُ المئات من النّاس. ليس أقلّ من خمسمائة شخصٍ عبروا معي، هم هناك في أرض الله ينعمُون بحياةٍ أخرى).
لم يرتبط حميدو بمكان واحد في حياته المهنية، وتفاعله مع الأماكن كان تفاعلا دينيا مقدّسا، فكل الأراضي التي يصلها ويرسو قاربه فيها هي في تقديره “أرض الله”، استنادا على الآية الكريمة في سورة النساء التي تدعو العاجزين إلى الهجرة وتكسير قيود الاستضعاف والذلّة، (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)، فلا عذر عند الله للأذلاء أصحاب الذوات المنكسرة الذين استحبّوا القعود بمشاعر السلبيّة في قبّة الأماكن الواقعة تحت نفوذ الأقوياء وقوانينهم الجائرة، محبطي العزائم والفعل.
ومن إحساسه هذا، قام حميدو بتأصيل عمله المجرّم في عين القانون وحوّله إلى عمل شرعي مقدّس يتباهى به ويتفاخر، ثمّ طوّره بتفاعله الإجتماعي إلى وحدة إنقاذ وتغيير لمصائر الناسّ وترميم لذواتهم، نجده في مقطع من الاقتباس السابق (ينعمُون بحياةٍ أخرى)، ورفعه، بعد ذلك، عاليا بهيّا حين أرفق كل ذلك بتفاعل آخر وهو التفاعل الثقافي عبر الإشارة إلى اسم قاربه “بابا عرّوج” وما يحمله هذا الاسم من دلالات وإيحاءات ورمزية تاريخية فائضة القيمة في مخيال الأمّة يذكرنا بماضي الأجيال السالفة المجيد، وأقلّها الصورة الزاهية لتاريخ خالد من الملاحم والبطولات، من أجل إيقاظ العواطف والأحاسيس وترسيخ مبدأ الإنتماء، (كان يقول لنا في كلّ مرّة “قاربي من بقايا بحّارة بربروس، لهذا أطلقتُ عليه اسم بابا عرّوج، هو قويٌّ ويقاوم الرياح والأمواج”).
وحتّى البلد الذي يحرق إلى سواحله المهاجرون فهو مكان مشدود إلى مرجع تاريخي يفوح منه رائحة الزمان القديم المشرق أين عاشت على أرضه الأجيال السالفة دون حواجز، فلا يمكن للقارئ أن يذكر إسبانيا دون أن يستحضر في سجلّ مخيّلته صورة الأندلس في القرون الماضية ويتجلّى التاريخ في ذهنه فتلوح له في صفحته مآسي الموريسيكيين ومكابداتهم الأليمة.
يقول حميدو: (هذا قارب تاريخي ومحترم .. نقل المئات من ضفّة البؤس والحرمان إلى شواطئ الفردوس المفقود الذي تركه لنا أجدادنا في الأندلس)
وإذا ما كان للقارئ حقل معرفي واسع سوف يحمله مخياله عند ذكر “أوديسّا” الأوكرانيّة إلى شبيهتها في النطق “أوديسة” هوميروس، القصيدة الإغريقية، فتمنحه معاني ودلالات عميقة فيها يتمثل مكان الألفة والأمان فضاءً معاديا باعثا للعنف والمكابدات، حيث يتّضح تشابها لافتا في الوسائل والأهداف وحجم المعاناة بين بطل رواية “رقصة أوديسّا” وبطل الرحلة الملحمية أوديسة، بالإمكان اعتبار مكابدات أيّوب الستّيني، الذي عاش بموسكو لسنوات يتعلّم فن الرقص التعبيري بالجسد في مسرح البلشوي والساعي في رحلته إلى العودة إلى أوديسا من أجل زوجته وابنته، شبيهة بمكابدات أوديسيوس ملك إيثاكا، مبدع فكرة حصان طروادة، المعروف باسم أوليس عند الرومان، الذي عاد متنكرا إلى زوجته وابنه في رحلة بحرية واجه فيها الكثير من المشاكل والمخاطر، ففي إحدى الجزر قامت عاصفة رعدية بتحطيم سفنه.
لقد ذهب الكاتب بعيدا في إيحاءاته، لم يقف عند حد التعانق مع مدارات المواقف والأحداث، بل زاد عليها كثيرا فعكست نواياه بناءً روائيا مشحونا بضبابة أسطورية، ففي جزيرة صخرية صغيرة غير مأهولة قبالة الساحل الجنوبي الغربي لجزيرة إيبيزا Ibiza الإسبانية كان السارد غير العليم معلقا بين الحياة والموت فقام عزالدين ميهوبي بسحبه من مكانه الرجراج غير المستقر، حيث القارب والبحر، إلى فضاء خارجي ثابت في غرفة الاسعاف بمستشفى كانْ ميساس Can Misses، محروما من الإحساس بالزمان والمكان، سعيا لدفعه نحو الانعطاف إلى عالمه العقلي المشوّش، كي يعيد رسم المكان الذي كان فيه وتشكيل إحداثياته من جديد، أين أفاق من غيبوبته على صوت الممرّضة رافائيلا التي افتكت منه صوت السرد لخياطة التفاصيل الناقصة بشكل يفتقد إلى الإتقان، فهي لم تحسن التصرف كشخصية ثانوية، فقد كان حديثها يخاطب القارئ علنا أكثر منه حديثا مع أيوب، لأنّ السارد لم يكن راويا عليما يمكنه نقل مجريات الوقائع التي حدثت له في غيبوبته.
لكن ما يهمنا من هذا كلّه هو مسقط رأس “تانيت” ألهة الفينيقيين Es Vedrà فكما هي مرتبطة بأوديسّا من خلال خطّ هجرة بطل الرواية، فقد كانت كذلك مرتبطة بأوديسة هوميروس حيث كانت صخرة البحر تلك موطنًا لحوريات البحر الذين حاولوا خداع أوليس.
لم يكن حميدو يدرك أن الخطاب الذي يبثه في نفوس المهاجرين يحدث المفارقة، فبدل أن يعزّز الإنتماء إلى المكان الأصلي المدبرين عنه، عمّق الرغبة في الإنتماء إلى الوطن البديل المقبلين عليه وزاد في تعلقهم العاطفي به، وما المكان العرضي الذي يمثّله القارب إلّا جسر من جسور النجاة من الأوضاع الاجتماعية البائسة وتجاوز الموانع والحدود إلى المجتمع الأكثر عدلا وإنصافا.
فالقارب، هذا الحيز المكاني نصف المغلق داخل فضاء البحر المفتوح اللا متناهي الذي افتكّ لوحده جزءًا كبيرا من حجم الرواية، يحمل في هيكله دلالات متنوّعة اجتماعية وسياسية ونفسية، اجتمعت فيه أنواع مختلفة من النماذج البشريّة ذات المستويات الثقافية المتفاوتة تنوعت أهداف رحلتهم وحركتهم نحو الفردوس الأوروبي الموعود، عدّدها السارد في بداية الرّحلة ثمّ وهو يكشف عن (صورهم ورسائلهم وبقايا أحلامهم) في خبيئة الصندوق الخشبي الذي اتخذه تابوتا له، فمنهم الحالم بحياة مستقرّة بعيدا عن الفقر والتخلّف والتهميش وعدم توافر الفرص، ومنهم الفار من المراقبة الأمنية، ومنهم الباحث عن تحسين النسل بالزواج من أجنبيّة تعرّف عليها عبر الفيسبوك، (أمّا فاتح فقال: أبي يملك معملا لصناعة الأدوية وأمّي طبيبة نساء… لا أحتاج المال… ولكنّني تعرفت على فتاة فنلندية، اسمها كارينا… يعني أنا، مثلما قال حميدو، أريد تحسين النسل)، إلخ، والقارب أيضا من الأمكنة التي تمّت فيه مناقشة بعض الأفكار الفلسفية والوجودية مع تلك النماذج البشرية كالظلام والبرودة والشر وعمّقت الروح بالإيمان، (الشر غير موجود … الشر ببساطة هو غياب الله في نفوسنا … الله لم يخلق الشر … الشر ليس مثل الإيمان أو الحب اللذين يوجدان مثل الضوء والحرارة)، إذ أنّ الكاتب قدّ وظّف الأمكنة المتعدّدة والمتنوّعة المفتوحة المغلقة، الصغيرة الضيقة في حجم تابوت والكبيرة الفسيحة في وسع البحر، لإبداء موقفه من بعض القضايا الوطنيّة كملفات الفساد السياسي وعلاقة الدين بالفنّ وانقلاب هوّاري بومدين على أحمد بن بلة، وعشرية الصراع المسلّح، وما لفت انتباهنا إلى ملف الأحداث التي مرّت بها الجزائر أنّ نظرة السارد إليها كانت بعين منحازة إلى العسكر، وكأنّ الخلل في المجتمع لا في النخبة حتى لو كانت تلك الاسقاطات من نوع الرقص بأسلوب غريب عن ثقافة المجتمع وعقيدته.
ولإن كان البحر يجسّد الفضاء الفوضوي الذي يموت فيه المهاجرين دون رحمة، فهو مع ذلك يجسّد الفضاء المعبّر عن الانفتاح على العالم الخارجي، استغلّه الكاتب لبسط شتات أفكار أيّوب وتأمّلاته في الثقافة والأخلاق والحياة وإسقاط حالته النفسيّة على الشخصيات الورقية في مركب “بابا عرّوج” ليفتح لهم آفاق المعرفة والتساؤل ويستفزّ قناعاتهم وفي نفس الوقت لابراز سعة اطّلاع حميدو وتنوّع ثقافته، وزاد فتوسّع في طرح تلك الأفكار وهو وحيد منبوذ يتملّى صندوق بقايا الغرقى وممتلكاتهم.
ففي فضاء السائل الشفيف المليء بالمخاطر، مثّلت المياه الخاضعة لرايات دول جنوب البحر المتوسّط الترسيم الجديد للحدود الخارجيّة لدول الاتحاد الأوروبي، من أجل تأمين وحماية المجتمعات الغربية من خطر الهجرة غير الشرعية. ممّا يضع مفهوم السيادة الوطنية في دائرة الشكّ، فعمليات مراقبة الهجرة واعتراض قوارب المهاجرين في تلك المناطق البحرية تتمّ بوسائل تقنية متطوّرة وبمراكز التنسيق وتداول المعلومات والصور. وعلى سواحل دول المنشأ والعبور، تجري أدوات المراقبة بالأجهزة الصلبة لدول المغادرة التي تعمل ككلاب حراسة مقابل بعض الأموال والمعونات والمصالح المشتركة لمكافحة شبكات الهجرة غير الشرعية وتجسيد بنود الاتفاقيات الدولية تتعمّق أحيانا إلى حدّ مخالفة قوانين حقوق الإنسان الأساسية في عدم الترحيل القسري للاجئين وإعادتهم إلى أماكن يمكن أن تكون فيها حياتهم أو حريتهم عرضة إلى الخطر. في مضمون الرواية، وبأسلوب ساخر، نجد هذا المقطع السردي عن مالك قارب “بابا عرّوج” الذي يسلّط الضوء على متاعب المهاجرين الواقعين بين فكّي تجارة المهربين وابتزاز الدول: (سألت الشاب المتزوج، نبيل: “هل هناك من ينتظرك في الشاطئ الإسباني؟”، قاطعني حميدو، وأجاب “تنتظرهُ شرطة أليكانت”.. وأطلق ضحكة، ثم أكمل قائلا “يأخذون معلوماته، ويسألونه عن علاقته بالمرأة، وما أن يقول لهم إنّها زوجتي، يأخذونه إلى مركز قريب.. وهي أول خطوة ليصير لاعبًا في هيركوليس أليكانت.”Hercules de Alicante)، مبيّنا أنّ أرض المهجر التي يطمع المهاجرين السرّيين في العيش فيها ويمتلئون شوقا ورغبة في الوصول إليها ليست فقط موقعا جغرافيا أو مكان إقامة منشودة، وإنما هي أيضا محنة منتظرة ومعاناة متوقّعة.
لجأ الأديب عزالدين ميهوبي إلى ذكر المواقع الجغرافية بأسمائها الحقيقية الموجودة على أرض الواقع، ومرجعيتها الفعلية، الجزائر روسيا أوكرانيا إسبانيا، لرسم المحطات البحرية لطريق الهجرة السرّية دون الحاجة إلى التخييل والوصف التقليدي لأماكن خط سير رحلة المهاجرين المضنية، فالكاتب لم يتّخذ فضاء الأمكنة كخلفيّات وأطر لأحداث الرواية بل جعله البطل الحقيقي والعنصر الحيوي المهيمن في عمله السردي، فكل حركات العناصر الأخرى للقصّة من شخصيات وأحداث وأزمنة تلف حول مدار قطبه. وليس أدلّ على ذلك من بصمة العنوان ودلالته من خلال الروابط الحميمية والعلاقة الوثيقة التي تربط بين الراقص أيّوب الروسي ذو الوجه القمحي، خريج أكاديمية البلشوي وأوديسا، المدينة الواقعة جنوب غربي أوكرانيا، التي تعرف بلؤلؤة البحر الأسود، فقد كانت علاقة المهاجرين بالمدن علاقة انجذاب أما علاقة أيّوب بأوديسا فهي علاقة حنين.
ولا يكتفي الكاتب في بنائه لأمكنة الرواية التي ترتبط بها الشخصيات على العناصر الجغرافية، بل يعمد أحيانا إلى المتخيل من أجل إثراء عمله الإبداعي وإكسائه حلّة من الجمال والفن، (أسمع أصواتا لا تشبه نعيق النوارس التي ألفتها… كلمّا اقتربَ منك نورس، رحتَ تسأله “هل أخبرتهم بوجودي وحيدًا في هذا المحيط؟”)
تبنى عزّ الدين ميهوبي مبدأ النصّ المجزّأ إلى وحدات سرديّة صغيرة، سمح فيه للشخصية الرئيسية الساردة بالتلاعب في الحكي تمزيقا واستطرادا وتفتيتا لنسيج الرواية إلى قطع متناثرة، مليئة بالعواطف والأفكار والكوابيس، وشظايا ماض مستعاد تولّدها الذكرياتُ وتكسّر تواريخها بفواصل مختلفة من الصمت والاسترجاع، في تناغم تام مع ديناميكيّة حركة الأمواج المتلاعبة بقوارب الموت في عرض البحر مثل أجسام غريبة تطلّ على المجهول.
كانت خطط ووسائل مجابهة الهجرة السرّية تتغيّر من حين لآخر، فتتغيّر معها مخطّطات المهرّبين وتتنوّع حيلهم المراوغة وصوّره المتّصلة بالرغبة في فتح المكان البديل، مهوى أفئدتهم. مقبلين عليه إقبال الصديق لا العدوّ، (وأطلق العنان لقاربه في البحر، بعد أن نبّهنا إلى أنّهُ لا داعي لإضاءة الهواتف، حتّى لا ينكشف الأمر، فهناك دوريات من خفر السواحل تتحرك عشوائيا. واستدرك قائلا “أنا الوحيد، من يستخدُم هاتفهُ كبوصلة تحّدُد له خريطة البحر بتفاصيلها، والرقم إسباني، حتّى لا نثير شبهة الإسبان بأرقاٍم أجنبيّة)
شغلت أجسام المهاجرين الفراغ المحدود للقارب وتموقعوا فيه هادئين دون حراك، حتّى إنّ السارد قد ربط نفسه بحلقة من حلقاته في ارتباط وثيق بوجوده، (سحبتُ حزام سروالي، وربطتُ كتفي الأيمن بالحلقة المعدنيّة، ثم استدرتُ نحوهم: “الآن أحكي لكم قصّتي مع البولشوي..”، قال فاتح “ولكن لماذا تربط نفسك؟”، أجبتهُ ضاحكًا “لأنّني نسيتُ كيف يعومُ النّاس..”)، كانت قدرة الراوي على العوم كالحجارة، وكانت تلك التفصيلة الصغيرة الكامنة في تضاريس أحداث الرواية الأساس المتين والمبرّر العقلي السليم الذي ساقه لنا الكاتب لتبرير بقاءه حيّا في مجتمع مهاجري الرواية الناجي الوحيد قيد الحياة كي يسرد علينا حكايته المأساويّة ويكون شاهدا على الواقع الأليم لمجتمعات بلدان جنوب البحر المتوسط بحكم قربه من الأحداث. لم يعد لذوات الآخرين ضرورة بعد أن استفرغت الفضاءات الذهنية للتفكير في الأسباب المختلفة للهجرة، وانتفى الفضاء المكاني الذي تحرّكت فيه أفكارهم وأجسامهم، وانتفت معه الدوافع والمصلحة من وجودهم كشخوص ورقية يعدّدون أسباب الهجرة المختلفة والعلاقة التي تربطهم بالمكان، لم يخطئ حميدو في توصيفه لقاربه وسمعته الطيّبة، فقد كان بالتأكيد وسيلة نجاة السارد من موت مؤكّد، ولولاه لما أمكن لنا سماع رواية أوديسّا وفهم مكابدات أيّوب الرّوسي، ولكنّه في الجانب الآخر لم يحقق للحالمين شيئا ممّا كانوا يرجونه من الرحلة في الوصول إلى الخلاص، لأن عالم وجدانهم كان مختلفا عن عالم واقعهم. وكان سعي حميدو، وبكل ما امتلك من لباقة لسان وسعة اطّلاع، إلى توظيف القارب كمكوّن مكاني مغلق على سطح مكوّن مكاني آخر مفتوح وهوالبحر توظيفا ملائما في خدمة الربح واستثمارا لروح المغامرة بالأرواح وكسب المال على ظهور الحالمين، وكان سعيه منسجما كليا مع حلمه.