ذهبت إلى ضفة النسيان التعهدات التي قيلت في اربعينية الكاتب والمخرج المسرحي الراحل (جبار صبري العطية) ومنها تشكيل لجنة لدارسة وأرشفة ما خلفه من نصوص مسرحية وبحوث وسيناريوهات و وثائق نادرة تعنى بالمسرح وإقامة مهرجان مسرحي وجائزة تقديرية لمسرح الطفل يحملان اسمه.اختفت تلك التعهدات خلف ذاكرة جمعية أدمنت النسيان أو التناسي.. توارى زملاؤه واختفى طلبته وما أكثرهم وتجاهلت المؤسسات الرسمية الثقافية ذكراه مع أنه كان خبيرها ومعينها في أعمالها ومهرجاناتها المسرحية الفنية. لم يُزحزح إرثه الذي يتجاوز الـ(70) نصاً مسرحياً ولم يعد له فضل الريادة في مسرح الطفل، هكذا إذن أقفلت ذاكرتنا وأوهنها النسيان والصمت عنه وهو الذي أوصى في وصيته التي املاها على ولده الاستاذ(هلال العطية)الذي كان يرافقه قبل وفاته في المستشفى وقُرأت من قبله في الحفل التأبيني- الاربعيني الذي اقامه اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة متمنيا أن يترك كرسيه فارغا في جلسة الجمعة الثقافية في اتحاد الأدباء والكتاب،وفي العروض المسرحية التي قد يجود بها هذا الزمن الوحش الرديء،والتي قد تقدم في البصرة، وأن يصنع نعشه من خشبات المسرح ويكون كفنه من ستائره وأن تُوضع على صدره عند دفنه الأوراق والأقلام ليواصل رحلة البحث والكتابة هناك ..في العالم الآخر الذي ربما سيحتفي به بما يليق بجهوده الثقافية-المسرحية بالذات- وبسيرته الناصعة وبوفائه للمبدعين البصريين والعراقيين الذين ارتحلوا قبله ، ووثق حياتهم ومكابداتهم اليومية ،في أزمنة القهر، وأعمالهم الادبية والفنية، في اعماله المسرحية وخاصة في اعماله الموندرامية الاخيرة التي فرضتها شحة الإمكانات خلال سنوات التسعينيات البائسة، ولقد فَعّل في نصوصه تلك مخاطبة الآخر الذي كتب له وأدخله في عالمه الخاص والعام وكأنه جزء من كيانه بنزوع أخلاقي قويم كما يذكر الناقد جميل الشبيبي(1)كان الراحل يتمتع به طيلة حياته وظلت نصوصه الموندارمية تَعرض مدينة يدمرها العسف السلطوي والقصف المدفعي الذي ينتهك روحها و جسدها المدمى ويرسخ كابوسها في الأعماق عبر شواخصها الدالة عليها, وتختلط شقشقة (طائرالحب) في موندراما (تحت المطر)(2) بأصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب- والقتلى في أمكنة وأزمنة أخرى- وصمتهم الأبدي المتفجر المتواصل بين الحياة والموت وبين الحب والكراهية والمقت ويبرز النزوع الإنساني لتشبث الضحايا بالحياة من خلال أصوات القذائف والأجواء المحيطة بالمسكن وساكنه الآمن المتوحد مع ذاكرته المتوقدة التي قد تواجه الفناء في أية لحظة تسقط فيها قذيفة على الدار وتستحضر الذاكرة الحياة المدنية والاطمئنان والسلام والعلاقات الاجتماعية التي تتجسد من خلال صوت طائر الحب المرعوب كمعادل للموت في اللحظة تلك. يبدو البطل في مسرحياته الاخيرة تجاوز سنوات الشباب ويتمتع بالصبر والتأني والحكمة بسبب تجاوزه للمطامع الخاصة وهو ممن نذر نفسه للقضايا العامة بسبب التزامه الاجتماعي ويدفع المؤلف بهذا البطل امام امتحان الحياة الراهنة,خاصة في زمن البؤس التسعيني المغلف برثاثة الحياة اليومية والذاكرة المفتوحة على الواقع الدموي الذي ميز عقد الثمانينات العراقية ووقائع الحروب البربرية التي خضع لها الانسان العراقي ، تلك الوقائع التي هرست كل احلامه بعجلاتها المسننة الهادرة وسط اصوات المدافع وراجمات الصواريخ وهي تجوب المناطق السكنية الخالية من السكان في البصرة بالذات خلال نزوحهم سنة 1987 المعروف وفي مشاهد الموندراما تلك يحاور الكهل نفسه و يستخدم الهاتف و يصغي لشقشة طائر الحب(لاحظ المفارقة)المرعوب ويستعيد الكهل المدينة وعلاماتها الثقافية الدالة عليها,روائح لياليها الشتائية وقطارها الجنوبي الصاعد وساعاتها وهي تبدو كالخيول وهي تجوب مملكتها السوداء وندبتها الزرقاء وحارس فنارها الذي يعد الوليمة تحت اناشيد المطر متطامنا مع اضواء شناشيل ابنة الجلبي ويستخدم الراحل موسيقى للموندراما متداخلة مع شقشقة الطائر واصوات انفلاقات القذائف للتعبير الواضح والمجازي عن صراع الحب- الكراهية ويبدو صوت الكاتب الكهل وهو يخاطب البيت كمعادل للوطن:
(منك ابتدأ الحب
ومنك وفيك آخر الحب
وبينهما يكبر العمر مزهوا
يابيتي)
لم ينعزل الراحل جبار العطية عن الحياة وحراكها ، وجدل التغيرات الاجتماعية والفكرية ، وظل متماسكاً في مواقفه ومرجعياتها وأفكاره التقدمية, وفي المحن التي تعرضنا لها بقيَ يواجه وحشيه الماضي وبربريته وشراسة الحاضر وقساوته بقوة الروح الأصيلة ونزوعها للمدنية المتحضرة التي تمسكت بالسعي نحو العدالة الاجتماعية والحرية والقيم الإنسانية النبيلة والتي لم يهادن فيها او يتراجع عنها، وانطوى على ذاكرة موجَعة مملوءة بالمرارة والألم والخذلان بسبب الأنظمة السلطوية التي وشمتنا منذ 8 شباط 1963 وبقي يواجه سواد الأزمنة وأدغال الأيام ومراراتها وعتمة الواقع اليومي ومخاتلاته بقوة الروح والمبادئ وحصانتها وقيمها وبثقة الرفقة التي انقض عليها (سراكيل) الثقافة السلطوية – في أواسط السبعينيات ليستبيحوا كل التجمعات الفنية-الثقافية-الجماهيرية – محولينها إلى مراكز لشرطة الأمن وانيابها الحادة-القاسية-القاطعة ولأفكارهم العنصرية اللاانسانية التي دمرت الإحساس بالحياة المدنية الآسرة التي كان الإنسان العراقي يندفع نحوها بتميز وثقة إلا أن(الفيتو البعثي-العفلقي)كان لها بالمرصاد فأوغل فيها سحقاً وتدميراً.
لقد تحاشى جبار العطية في سيرته وكتاباته وأعماله المسرحية المتنوعة التي وظف لها كل عمره،واكلت كثيرا من صحته، مغازلة المؤسسات الثقافية السلطوية ومنطلقاتها وبقي في أعماله وثيماتها ينشد الحق والحرية والعدالة الانسانية والجمال متوجهاً إلى الناس الذين طحنتهم الحياة وقساوة الأنظمة معرياً المخاتلات والتواطؤات بوضوح أمسى فيه الوضوح سبة، وظل يفخر بوضوحه، وتعرضت أعماله ونصوصه المسرحية للإهمال واللامبالاة والتجاهل بحجج واهية وذرائع قصدية كما تعرضت للسرقة (3)بلا حياء وواجه ذلك بجرأة كادت تودي به ولم يتراجع أو ينحني حتى تم الاعتراف له بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*في الذكرى الثانية لرحيل الكاتب والمخرج المسرحي جبار صبري العطية
(1)جريدة الحقيقة- البصرة- العدد18 في 11 شباط 2005
(2) وزارة الثقافة –بغداد- يحتوي على ثلاث مسرحيات موندراما-2002
(3) حدث ذلك في التسعينيات وخلال مهرجان الوفاء المسرحي في البصرة حينما شاركت فيه فرقة مسرحية خليجية تبين ان مسرحيتها مسروقة حرفيا من مسرحية للراحل تتناول سيرة (البحار ابن ماجد) وقام بسرقتها احد طلابه وبيعها لمؤلف مسرحي هناك وقد انبرى الراحل وفي القاعة بعد نهاية العرض لتوضيح ذلك رغم احتجاج المسؤولين الحزبيين والسلطويين عليه بحجة انه “يسعى لافشال المهرجان” وقد زاره في مسكنه ذات الليلة وفد من بعض المشرفين على المهرجان لتسوية الموضوع من بينهم الفنان عزيز خيون ود. باسم الاعسم ومعهم طالبه السابق (السارق المسرحي) الذي اكد ذلك وقدم اعترافا بتلك الواقعة، وقد تم تسوية الموضوع بأ قتراح ذكر عائدية النص المسرحي للراحل العطية في الجلسة النقدية الصباحية وصدرت (آوامر رسمية سلطوية- حزبية) بعدم اثارة الموضوع اعلاميا لاحترام (مشاعر الاخوة الضيوف العرب).
(منك ابتدأ الحب
ومنك وفيك آخر الحب
وبينهما يكبر العمر مزهوا
يابيتي)
لم ينعزل الراحل جبار العطية عن الحياة وحراكها ، وجدل التغيرات الاجتماعية والفكرية ، وظل متماسكاً في مواقفه ومرجعياتها وأفكاره التقدمية, وفي المحن التي تعرضنا لها بقيَ يواجه وحشيه الماضي وبربريته وشراسة الحاضر وقساوته بقوة الروح الأصيلة ونزوعها للمدنية المتحضرة التي تمسكت بالسعي نحو العدالة الاجتماعية والحرية والقيم الإنسانية النبيلة والتي لم يهادن فيها او يتراجع عنها، وانطوى على ذاكرة موجَعة مملوءة بالمرارة والألم والخذلان بسبب الأنظمة السلطوية التي وشمتنا منذ 8 شباط 1963 وبقي يواجه سواد الأزمنة وأدغال الأيام ومراراتها وعتمة الواقع اليومي ومخاتلاته بقوة الروح والمبادئ وحصانتها وقيمها وبثقة الرفقة التي انقض عليها (سراكيل) الثقافة السلطوية – في أواسط السبعينيات ليستبيحوا كل التجمعات الفنية-الثقافية-الجماهيرية – محولينها إلى مراكز لشرطة الأمن وانيابها الحادة-القاسية-القاطعة ولأفكارهم العنصرية اللاانسانية التي دمرت الإحساس بالحياة المدنية الآسرة التي كان الإنسان العراقي يندفع نحوها بتميز وثقة إلا أن(الفيتو البعثي-العفلقي)كان لها بالمرصاد فأوغل فيها سحقاً وتدميراً.
لقد تحاشى جبار العطية في سيرته وكتاباته وأعماله المسرحية المتنوعة التي وظف لها كل عمره،واكلت كثيرا من صحته، مغازلة المؤسسات الثقافية السلطوية ومنطلقاتها وبقي في أعماله وثيماتها ينشد الحق والحرية والعدالة الانسانية والجمال متوجهاً إلى الناس الذين طحنتهم الحياة وقساوة الأنظمة معرياً المخاتلات والتواطؤات بوضوح أمسى فيه الوضوح سبة، وظل يفخر بوضوحه، وتعرضت أعماله ونصوصه المسرحية للإهمال واللامبالاة والتجاهل بحجج واهية وذرائع قصدية كما تعرضت للسرقة (3)بلا حياء وواجه ذلك بجرأة كادت تودي به ولم يتراجع أو ينحني حتى تم الاعتراف له بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*في الذكرى الثانية لرحيل الكاتب والمخرج المسرحي جبار صبري العطية
(1)جريدة الحقيقة- البصرة- العدد18 في 11 شباط 2005
(2) وزارة الثقافة –بغداد- يحتوي على ثلاث مسرحيات موندراما-2002
(3) حدث ذلك في التسعينيات وخلال مهرجان الوفاء المسرحي في البصرة حينما شاركت فيه فرقة مسرحية خليجية تبين ان مسرحيتها مسروقة حرفيا من مسرحية للراحل تتناول سيرة (البحار ابن ماجد) وقام بسرقتها احد طلابه وبيعها لمؤلف مسرحي هناك وقد انبرى الراحل وفي القاعة بعد نهاية العرض لتوضيح ذلك رغم احتجاج المسؤولين الحزبيين والسلطويين عليه بحجة انه “يسعى لافشال المهرجان” وقد زاره في مسكنه ذات الليلة وفد من بعض المشرفين على المهرجان لتسوية الموضوع من بينهم الفنان عزيز خيون ود. باسم الاعسم ومعهم طالبه السابق (السارق المسرحي) الذي اكد ذلك وقدم اعترافا بتلك الواقعة، وقد تم تسوية الموضوع بأ قتراح ذكر عائدية النص المسرحي للراحل العطية في الجلسة النقدية الصباحية وصدرت (آوامر رسمية سلطوية- حزبية) بعدم اثارة الموضوع اعلاميا لاحترام (مشاعر الاخوة الضيوف العرب).