مقدمة:
جاء في الموسوعة الحرة أنّ شعر “الهايكو” نوع من الشعر الياباني، يحاول فيه الشاعر من خلال ألفاظ بسيطة التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة.. تتألف أشعار الهايكو من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا باليابانية، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر (خمسة، سبعة ثم خمسة) في ثلاثة أسطر، ويعرفه “جاك كيرواك” في منجزه (كتاب الهايكو) بقوله : ” الهايكو هو أن تُبقي عينيك ثابتتين على الموضوع، والهايكو الأفضل يمنحه الإحساس القادم من النظر إلى رسم عظيم، مثلا لـ: (فان كوخ) بفعل قوة النظر”. ويعرفه الناقد المغربي “فريد أمعضشو” بأنه “قطعة شعرية مكثفة ومركّزة جدّا، تتوسّل بلُغة بسيطة، بعيدة عن التمحُّل والحذلقات الأسلوبية والشكلية، لكنها بساطة من السهل المُمْتَنِع، وقادرة على التقاط اللحظة الإنسانية الهاربة، وعلى تناول معانٍ عميقة، وموضوعات مألوفة يَرِينُ عليها حضورُ عنصر الطبيعة وما يتمحّض لها، وتؤطّرها رؤيا جادّة ينطلق منها الهايكيست..” ، ويعرفه الأردني “محمود عبد الرحيم الرجبي” بقوله: “مشهد عادي تَصِفُه بطريقة غير عادية .. شيء يراه الآخَرون بصورته الخارجية فقط، أنتَ تراه بطريقة تختلف عن الآخرين .. ترى أشياء أخرى لم يَرَها أحدٌ غيرك .. الهايكو أنْ تصف مشهداً يراه الجميع كلَّ يومٍ بطريقةٍ لم يفكرْ فيها قبلك أحد .. الهايكو أنْ تجعل الآخرين يَرَوْن ما تراه وَحْدَك أنت، أو أنْ ينظروا إلى المشهد عبر عيْنَيْك؛ عندها سيعرفون كمْ كانت عيونهم عاجزة وخادعة، ويتأكّدون مِنْ أنهم في حاجةٍ إلى أحاسيسَ جديدةٍ، وإعادة توقيع معاهدة تفاهم وصُلْح مع أنفسهم؛ لأنهم لا ينظرون عبر قلوبهم .. الهايكو هو ما وراء المشهد، وما بين المشهد، وما يحاول المشهد أنْ يمنعَك من رؤيته دونَ تأمّل عميق!!”
1. الهايكو ..الجذور والبدايات:
تعود بدايات هذا الوافد الجديد إلى القرن السادس عشر، ولو أنّه يتمّ التأريخ له انطلاقا مما قدمه الشاعر الياباني “ماتسو مونفوزا باشو” (1644-1694م)، غير أنّ قيام هذه التجربة أقدم بكثير في نظري لاعتبارات تتعلق بالموروث الشِّعري الياباني، فلم تتولّدْ هذه التجربة من فراغ، وإنما لها جذورها التاريخية المتعلقة بالقصيدة اليابانية القصيرة، كقصيدة “التانكا” الممتدة إلى القرن الثامن الميلادي ذات النظام المقطعي الصوتي المكون من 31مقطعا وفق الصيغة “5-7-5-7-7″، وقصيدة “الكتاوُتا” التي ظهرت فيمابعد بتوزيعها المقطعي المتناوب “5-7-5” و “5-7-7″، ومن ثمّة فإنّ ارتباط “الهايكو” بماقبله يبدو وثيقا بعيدا عن القفز على المراحل التاريخية للشعرية اليابانية بصورته المقطعية المكونة من 17 مقطعا صوتيا “5-7-5″ ، ويمكن الإشارة هنا إلى أثر فلسفة المعلم ” تشويانغ تسيو ” – الرابع عشر قبل الميلاد – في كتابات “ماتسو باشو” حيث يظهر بجلاء تأثره بما جاء في ( كتاب المعلم تشويانغ) الداعي إلى البساطة والتعمق و الجنوح إلى الطبيعة .
إنّ هذا الشكل الشعري ظلّ إلى زمن غير بعيد مرتبطا بالثقافة والخصوصية اليابانية، ملازما لها ، معبّرا عن هواجسها وأسئلتها الممتدة في عمق الزّمن ولم يستطع تجاوز الانغلاق الذي يعيشه هذا الكيان الآسياوي، فكان خاصية يابانية بامتياز فهو يرفض توظيف لغة أخرى عدا اليابانية، ويدعو إلى توظيف المحمولات الثقافية المحلية فحسب حتى تعبّر عن طبيعة وفكر وتوجهات الفرد الياباني من عادات وتقاليد وفي ظلّ الانفتاح المشهود في القرن العشرين.
بدأ هذا الشكل الشعري يعبر الحدود المعلنة من خلال “الترجمات” عن طريق “خوليو كورتاثار”، و”أوكتافيو بات”وغيرهم الذين نقلوه إلى أوروبا و أمريكا اللاتينية على نحو ماقدّمه “رودريغيس إثكيردو” في كتابه (الهايكو الياباني ..تاريخ وترجمة)، و” أنطونيو كابيثاس” و “غلوريا ثيدي” وغيرهم.
ويتمّ التأريخ لهذا الشكل الشعري بدء من قصيدة “الضفدعة” الشهيرة للياباني “باشو”، ذات17 مقطعا:
“البركة القديمة
تقفز فيها ضفدعة
صوت الماء..”
وفي مقطع آخر:
“بركةُ ماءْ
نطّةُ ضفدع
صوتُ الماءْ”
حيث تعتبر فاصلة مبدئية يمكن اعتمادها كمرتكز تاريخي مرورا بمجموعة من التحولات على صعيد الشكل واللغة والبنية، والموضوعة الأكثر ميلا لتوظيف عناصر الطبيعة وتوصيفها توصيفا دقيقا، ففي المقطعين السابقين وظّف الشاعر مجموعة من عناصر الطبيعة “البركة/الماء/الضفدعة..” مع تكثيف رمزي عال يثير أسئلة فلسفية عميقة رغم ظاهره السّطحي كما تتبدى للوهلة الأولى..ثمّة إحالة عميقة على تمجيد الفكر و الإنصات لتفاصيل الطبيعة وإيقاعها، مايعني أنّه يحمل الخصوصية اليابانية بامتياز، والأدب ابن بيئته –كما يقال- هذه الطبيعة المحركة لفعل التفكير و المثيرة لأسئلة فلسفية عميقة عمق المحمول الفكري لهذا الجزء من القارة الآسياوية خصوصا وأن تأثير فلسفة “الزن” القائمة على التأمل الشديد والاستتغراق والممتدة تاريخيا إلى طقوس “البوذية” لا يمكن إغفاله، بل هو خصوصية يابانية خالصة:
“لكني ومن خلال اطلاعي الدؤوب على التاو الصيني والزن والهايكو وبوذا وكونفوشيوس أرى أن الهايكو لايخلو من نكهة الزن ورائحته ومذاقه أيضا . كم نسبة الهايكو في هذه المختارات من الزن ؟!:
“لقد أطلِق السّهم
ومضى
ثم
سقط
وعاد إلى الأرض مجددا
أو هذا القول الزنّي :
العالم كلّه دواء
ماهو الدّاء
سنوات
وأنا أفتش
عن حافة الجبل
والآنضحكة ٌ عظيمة ٌ
عندسفح البحيرة..”
إنّ فلسفة كتابة “الهايكو” الياباني تقوم على التجريد بالدرجة الأولى، واعتماد مختلف الحواس كاللمس والذوق والسمع والشم والبصر.. لتوظيفها “كإدراكات مادية من الواقع الملموس وليس كاستدعاءات عقلية” ، كما أنّه يرصد الراهن بكلّ تفاصيله، فهو شعر يقبض على اللّحظة في زمنيتها ومكانها بمثابة ومضة،أو فلاش سريع، اعتمادا على “الجملة الناقصة كما الحياة ، فهي لاتظهر أسرارها الخفية ، جمل اسمية في الغالب معزّزة بمصدر، وقليلا مانجد جملا فعلية” ثمّة إحالة على وجوب “التعمق” لفهم علاقات الأشياء بعضها ببعض في النص الشعري “الهايكي” ، ومن علاماته النقصان الباحث عن إضافة ، هذه الإضافة لاتكون إلاّ بإعمال الفكر، ومحاولة تتمّة العلاقات بين الأسطر التي تبدو مفكّكة، لكن مآلاتها واحدة في النهاية.
نحن إذن أمام تجربة شعرية تختلف عن المتعارف عليه في الشعر العربي والعالمي، فضاء، و شعورا، ومعجما، وبنى، وتراكيب، ووحدات تنكمش في مساحتها لكنه تسعُ الكون في انفتاحها على تأويلات لاحصر لها، فهي “تتوخى قصيدة الهايكو الإيجاز وضغط المعطى الكلامي. انما تترك الكثير مما لا يقال، مقترحة بعض الترابط والاسباب الموجبة، لكن نادراً ما تجعل ذلك واضحاً. تعمد قصيدة الهايكو النموذجية الى وصف شيء أو عنصر طبيعي، زهرة، حيوان، أو مكان، متضمنة علاقة بين ذاك المدرك أو المحسوس وبين الشعور الإنساني أو الحالة الذهنية، كذلك تعتمد قصيدة الهايكو بشكل مكثف على لغة شعورية من دون أن تكون قَطْعية أو تعريفية محددة. هكذا، بدلاً من الاستنتاجات والملخصات، إقفال مناقشة أو أجوبة محددة، تتوخى الهايكو فتح الفضاءات، وإيقاظ مروحة من الاحتمالات الذهنية” .
لكن السؤال المطروح :
هل بقي “الهايكو” محافظا على نمطه التقليدي دون التأثر بعوامل “التعرية” الإبداعية كالزّمن؟
من المؤكّد أنه عرف جملة من التحولات بفعل حركية أنماط التفكير، وتطوّر أساليب الكتابة التي لا ينجو منها أثرٌ أدبي مهما كان جنسه، أو بيئته، على نحو ما وقع للشعر العربي الذي أصبح الآن مفتوحا على الآخر بكل تجاربه ومحمولاته ببروز أشكال شعرية جديدة –وهو موضوع دراستنا هذه والهايكو العربي أحد هذه الأشكال – فقد ظهرت تجارب يابانية جديدة مع بدايات القرن العشرين تحتفي بالممارسة التخييلية للشاعر، وتدعو إلى ضرورة التحرر من القيود التي وضعها “ماتسو باشو” و العفوية في اقتناص اللحظات المهمة بعيدا عن النّمط المعروف ذي المقاطع 17 على نحو مادعا إليه الشاعر “إيبيرو نكاتسوكا” ت-1947م بضرورة الاشتغال على “الهايكو الحر” ، فالهايكو –بتعبير “كيوشي تكهاما” –تعبير عفوي عن المشاعر و الحياة من خلال فصول الطبيعة الأربعة .
نشير في النهاية إلى بعض أعلام “الهايكو” اليابانيين البارزين عبر مختلف الأزمنة مثل “بوسون يوسا” ت-1783م، و “شيكي ماساوكا ” ت-1902م، و”كيوشي تكاهاما: ت-1959م، و”إيبيرو نكتسوكا” ت-1946م، و”سيكيتي هارا” ت-1951م، و هيساجو سوجيتا” ت-1946م، و “كاكيو توميزاوا” ت-1962م، و “سوجو تاكانو” ت-1976م، و”كونغاتا”ت-1997م، ومن الأحياء “بانيا نتسويشي” شاعر الحراك الهايكي الجديد، فقد أصدر سنة 1998م مجلة “التروبادور”، مجلة تعنى بالهايكو فحسب بالتعاون مع الشاعر مواطنته “سايومي “كاماكورا”، حيث ترتكز فلسفة هذا الشاعر على اعتبار “الهايكو” إرثٌ إنساني حالم، يمكن أن يُكتب بكل اللغات، وأن يضمّ و يحتفيَ بكلّ التجارب.
2.الهايكو العربي ..بين ضفدع “باشو” ومسبحة “جمال مصطفى”:
كيف تلقّى الشاعرُ العربي “الهايكو” الياباني، وهل استطاع أن يتخلّص من وقع ضفدع “باشو” ليؤسس لنفسه مقاما “هايكاويا” لايتّخذ من المحمول الياباني إلها شعريا يعبده خصوصا وأن بعض المواقف النقدية حاولت التأكيد على عدم قدرة الشعرية العربية صناعة خصوصيتها ولغتها بعيدا عن التأليه؟:
“لا أعتقد أن الشاعر العربي سيقول هذا إذا ما وجد أمام بركة أو حفرة أو مستنقع صغير من الماء وسط الطبيعة، وعلى الأغلب لن يشاهد الضفدعة وهي تقفز الى الماء..” لعلنا نتفق في كون “الهايكو” وصل العالم العربي متأخرا بعض الشيء عن طريق الترجمات المختلفة من الفرنسية والإنجليزية وحتى اليابانية التي حاولت نقل هذه التجربة المختلفة ، والاحتفاء بها للخروج من دائرة الانغلاق، والانفتاح على مختلف التجارب العالمية في الكتابة و الفنّ، و من بين هذه الدراسات المترجمة ماقدمه “تشامبرلين” في مجلة عالم الفكر الكويتية عن شعر “الهايكو” أواخر السبعينيات، و “منذ ذلك التاريخ بدأت تظهر دراسات مترجمة وقصائد هايكو في الدوريات العربية الخاصة بالآداب الأجنبية ، ومنها ترجمة حسب الشيخ جعفر في مجلة الثقافة الأجنبية العراقية، وترجمة عدنان بغجاتي لمجلة الآداب الأجنبية السورية، كما ظهرت محاولات لكتابة قصائد هايكو عربية..” ، و (تاريخ الهايكو الياباني) للياباني “ريو يوتسويا” نقله إلى العربية المترجم “سعيد بوكرامي” ، و(كتاب الهايكو الياباني) الذي ضمّ ترجمة لألف نص ونص من طرف الشّاعر السّوري “محمد عضيمة”و غيرهم.
أمّا على مستوى كتابة قصيدة “الهايكو” فثمّة بعض المؤشرات التي تحيل على ماقدّمه “عز الدين المناصرة” من محاولات أولى في هذا الشأن منتصف ستينيات القرن الماضي، ولايمكن اعتمادها كمرتكز في هذه الدراسة،إلاّ أنّ الإشارة إليها من صميم بحثنا هذا، فقد كتب ما أسماه “هايكو” دون أن يخلع بُردة “الخليل” في المقطع التالي:
“يا بابَ ديرتِنا السميكْ
الهاربونَ خلفَ صخرِكَ السميكْ
افتحْ لنا نافذةَ الروحِ..”
فالتفعيلة “متفاعلن” ترسم خطّيتها الإيقاعية عبر السطور الثلاثة، ولئنْ استوفى هذا المقطع شكلا ملمحه “الهايكاوي” إلاّ أنّه يبقى مجرد محاولة أولى يمكن الاستئناس بها في هذا الشأن.
لقد اعتبر “عز الدين المناصرة” قصائد “الهايكو” فرعا من فروع قصيدة “التوقيعة/ الومضة” محاولا إيجاد “شرعية” حضورية لها،وهي وجهة نظر تفتح نقاشا كبيرا يمتدّ إلى ضرورة تحديد ماهية القصيدة الومضة من جهة، والمرتكزات المعرفية وحتى التاريخية التي بنى عليها موقفه؟
يرى “المناصرة” أنّ قصيدة “الهايكو” هي “قصيدة قصيرة جدّاً جدّاً من نوع (جنس الحافة)، تتناسب مع الاقتصاد والسرعة. وتتميز بالإيجاز والتركيز، وكثافة التوتر. عصبها المفارقة الساخرة الذكيّة، والإيحاء والترميز والانزياح. ولها ختام مفتوح قاطع أو حاسم، مدهش، أي أن لها (قفلة) تشبه (النقفة المتقنة)، ملائمة للحالة. تحكمها وحدة عضوية، متمركزة حول ذاتها، مستقلة. وهي في شفافيتها، تشبه ومضة البرق في وسط الضباب، لكنها ليست مائعة الحدود مثل الومضة..” وهو في هذا الموقف ينحاز إلى كونه “قصيدة/ومضة” في “تخريج” نقدي قد لا يكون موفّقا، فهناك –بتعبير عذاب الركابي-“مَن استسهل كتابة الهايكو ظانًا بأنها قصيدة قصيرة وهي ليس كذلك، وأساء إلى تقنيتها وطقسها اللغوي، وتفرد موضوعها وصوغها، فجاءت النماذج التي حفلت بها الصحف والمجلات ونوادي الهايكو، نماذج مخيبة وفاشلة، بل وإساءة بليغة – جهلاً بهذا الفن العظيم.. مثلما تمّت الإساءة لـلقصة القصيرة جدا وقصيدة النثر في بدايتها..” غير أنّه لم يذكر في كلّ هذا الزّخم كيفية تلقّي هذا الشكل الشعري عربيا، هل تمّ وفقا للقواعد الصارمة “اليابانية”،أم أنّه تمّ إرباك وخلخلة هذه القواعد وفق الخصوصية العربية بيئة، طقوسا وتفكيرا، واعتقادا، أبنية ومجازات..في مشهد شعري يميل إلى الحركية والإيقاع؟ فلايمكن-في نظري على الأقل- كتابة شعر عربي بروح غير العربية، وهو ما يؤكّه الشاعر العراقي “عذاب الركابي” الذي يعتقد بأنّ تجربة “الهايكو” العربي ليست “صدى لآهات شعراء الهايكو الياباني أمثال ( باشو، بوسون ، إيسا) ، لكنها بسرعة وعمق عباراتهم البرقية (التلغرافية) الموحية، هم تعاملوا مـتأثرين بديانة ” الزن” مع اللغة بشكلٍ كهنوتي، وهم يحاورون الفصول ومكونات الطبيعة، وأنا اختلفت عنهم في أنسنة هذه المكونات وأنا أضفي عليها التجسيم والتشخيص، وديواني الأخير “رسائل المطر” يؤكد هذا. و”الهايكو” بمفهومي: إرسال تلغرافي، وبوح شعري روحي مكثف، ليس بهرجاً لغوياً، وإنما هو ثمرة شيء يغلي في الأعماق، فضاؤه لغة كونية آسرة .. لغة اللغة ، وخيال الخيال .. وجمل تضيء دون حدود ..”! غير أنّه بالمقابل ترتفع بعض الأصوات النقدية معتبرة هذا الشكل الشعري ذي الانتشار العالمي الآن- لايمثّل إلاّ مدونة “تمارين لغوية” –بتعبير بديع صنيج- أو عتبات نصية أولى نظير القصيدة العربية التي تتميّز بالفساحة، والاضطراب في المجاز، وكل محاولة خارج هذا “النسق” لاتعدو كونها ضربا في الهواء، ورغبة في “الاتجار” باسم الشعر بحثا عن مكانة مفقودة، إلاّ أنّ المعطيات تؤكّد بصدق أنّ “الهايكو” منذ بدايات الألفية الثالثة وإلى اليوم لم يعد “علامة مقيّدة” يابانية النشأة، وإنّما هو ظاهرة شعرية عالمية، ومن الطبيعي أن يكون للشعرية العربية نصيب منها من خلال تجارب فارقة أثّثت المشهد الشعري مشرقا ومغربا.
إنّ ما أوردناه سلفا لا يغني بالضرورة عن الاعتراف بالتخبط “النقدي/الأجناسي” الذي عرفه العالم العربي في تلقّي “الهايكو” من جهة، ومن جهة أخرى مدى خضوعه لبنيات الخطاب الشعري العربي كالإيقاع مثلا، خصوصا بظهور محاولات إيجاد علاقات تماس بينه وبين بعض المحمولات الثقافية العربية على غرار مارافعت لأجله الشاعرة العراقية “بلقيس خالد” حين أوجدت تقاربا بينه وبين “الدرامي” و “النعاوي” العراقيين، من حيث الرقة و العذوبة وكثافة الصورة الشعرية .. ، أو على نحو ما قدمته “بشرى البستاني” من إضاءات في هذا الشأن رأبا للصدع “النّقدي”، وتأكيدا على تعابر الآداب و الفنون كونها موروثا إنسانيا لايحتاجُ “فيزا” للعبور، ومن ثمّة فالحافز الإستيطيقي يتجاوز كلّ محاولات “التكريس النّقدي” لنسق دون آخر، والدّليل أن الشّعر العربي في شكله الكلاسيكي عرف محاولات للتكثيف و الإيجاز بما يضمن ُ الرؤية الجمالية مثله مثل “الهايكو” الذي يراهن على العنصرين السَّابقين، ومن ثمّة فإنّ الاختلاف الجوهري لايكون إلاّ في نطاق اللغة كخطابأ وكأصوات –بتعبير ابن جنّي- يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم، فالشعر “العربي بعمقه التاريخي الممتدّ لما قبل الإسلام بقرون قد تمكّن من النّبض بحلم الإنسان وبمشاعره المختلفة، وعبّر عن مكابداته الوجودية، وعن رؤاه ومواقفه من إشكاليات الإنسان والأحداث و الجمال، أما من النّاحية البنيوية فقد عرف الشعر العربي البيت الواحد والنتفة ، وما قلّ عن سبعة أبيات فمصطلحه قطعة…وداخل القصيدة العربية يوجد أبيات سارت أمثالا لاكتفائها بنيويا بالتعبير عن دلالات مفتوحة ، مما يدلّ على أنّ الشعر العربي مهيأ للاشتغال على الإيجاز و التركيز اللذين يتطلبهما الهايكو، وقادر على الإيحاء الذي هو جوهر الشعرية، ولذلك كانت نماذجه ناجحة منذ الريادة الأولى في النّصف الثاني من القرن الماضي تنظيرا وتطبيقا…”
وفي ظلّ ارتفاع أصوات نقدية حذرة، ظهرت أصوات أخرى كسّرت حاجز “التقعيد”، وأسبغت على “الهايكو” العربي نعمَ التمتّع بالخيارات الشعرية العربية في موقف وسط ساع إلى وضع نقطة لهذا الجدل، فقدم “محمود الرجبي” وجهة نظره في كتابة قصيدة “الهايكو” بأثواب عدة: “يمكن للهايكو أن يُكتب بثلاثة أساليب، على وحدة البحر، أو التفعيلة مثل الشعر الحر أو المزج بين البحور…أو على الموسيقى الداخلية التي تعتمد ‘لى إيقاع الألفاظ والصورة البصرية والشعرية، واستخدام البديع مثل قصيدة النّثر. فأية لغة في العالم يجب أن تفرض إرثها على أدب و إبداع يرتدي ثوبها، واللغة العربية هي لغة إيقاع في الأساس، وتتميّز بحساسية مدهشة، والألفاظ والمفردات و المترادفات فيها معان صوتية، وتقسيمات صوتية فريدة، لذلك اقترجت ثلاثة أساليب للكتابة في قصيدة الهايكو..” غير أنّ التركيز على الإيقاع في هذه المقاربة يجعلنا-في نظري- نبعث نقاشا جديدا قديما يعيد إلى الأذهان “إكراهات” الخليل بوجود أصوات تحتفي كل الاحتفاء بالبحر الشعري، وهو ما يعني إعادة “تلميع” القديم وإنْ اختلف الشّكل.
لقد حاول كثير من الشعراء و النقّاد وضع نهاية للجدل القائم حول إمكانية إخراج “الهايكو” العربي من عباءة “باتشو”، وكان المقال المثير للجدل “مسبحة الهايكو” لجمال مصطفى الذي حاول وضع استراتيجية عربية لكتابة هذا الشكل الشّعري وفق رؤية عربية خالصة، ولو أنّه لم يقدّم بديلا مقنعا خصوصا فيما تعلّق بضرورة عدم الخروج عن النمط المعروف القائم على ثلاثة أسطر- رغم خروج بعض الشعراء العرب عنه كالعراقي “عذاب الركابي”- إلاّ أنه قدّم بعض البدائل:
“…
ـ أن يكون السطر لافتا للنظر وليس طويلا.
ـ التركيز على أن إضاءة النص تعتمد على السطر الأخير.
ـ السطر الثاني بمثابة الحشو الذي يتجنبه أو يسقطه شعراء الهايكو العرب.
ـ ضرورة الابتعاد عن المجازات والتزويق اللفظي والزخارف الشعرية، لأنها ستبتعد عن نمط الهايكو ذو الطاقة الدلالية في تشكيله.
ـ أن يكون الهايكو سهلا وبسيطا من الخارج وذو معنى عميق تحت السطح.
ـ ممكن اللعب على الكلمات لتحقيق مبدأ الاثارة الشعرية.
ـ الابتعاد عن التحدث عن الذات وعدم التركيز على فعل المتكلم.
ـ الابتعاد عن توظيف الفعل لأنه يشتت التركيز.
ـ لا وجود لتسلسل منطقي وطبيعي للجمل الشعرية.
. الابتعاد عن حروف الربط مثل “أو، أم، ثم، كما…
ـ من الممكن توظيف الوزن الشعري….”
أمّا عن التقنيات التي يمكن اعتمادها في كتابة “الهايكو”، فقد قدّم نماذج يمكن الاعتداد بها، تقوم أساسا على العلاقات و التشابكات الموثقة لعُرى القصيدة رغم ما يمكن أن يبدو كأنّه تنافرأو مفارقة بين أجزائها احيانا :
“…………
تقنية (ماذا، متى، أين):
“غصن أجرد …………..(أين)
غراب………………… (ماذا)
عتمة الخريف”………….. (متى)
ـ تقنية المقاربة:
هذه المجاورة تخلق تعتيما وضبابية مطلوبة في هذا الالتباس في الفهم.
“ضباب تشرين
عمتي العجوز
تسأل من أنا..
ـ تقنية التفتح التدريجي:
حيث تكون الضربة الأخيرة هي خاتمة الفكرة وذروتها.
“على جرس المعبد
تنام
فراشة”
ـ تقنية الانتقال من العام الى الخاص، أو من الجزئي الى الكلي وبالعكس:
“السماء كلها ………….(عام)
في حقل الزهور الفسيح…..( تخصيص أولي)
زهرة الخزامى”…………..(تخصيص نهائي)
ـ تقنية التلغيز:
وغالبا ما نجد حل اللغز في السطر الثالث.
“الزبون يشتري لغيره
البائع يطرد فكرة الاحتفاظ بواحدة
محل بيع الشواهد..”
إضافة إلى تقنيات أخرى عدّدها الشاعر كالتضاد، و اللّعب البصري، والمشهدية بالمقابل، وهناك من ينظرُ إلى الشعرية العربية بعين القصور والعجز عن استيعاب هذا الشكل الجديد بحكم عادتها المستتبة في عشق المجاز والإيقاع، لأنّ –بتعبير الشاعرة الجزائرية عفراء قمير طالبي- مَنْ ” تربّى على شعرية عربية غنائية متخمة بالمجاز والبلاغة، ومتخلّقة داخل نظام صوتي/ موسيقي موزون ومقفّى، وعلى مرجعية خطابية مهيمنة تقوم أساساً على مركزية الأنا، سيكون عصيّاً عليه أن يتحوّل إلى الهايكو، ولكن قدر كلّ جديد المرور بفترة حرجة قبل أن يتبوّأ مقاماً ومنزلاً، وقد يظلّ مجرّد غريب مستهجن. ألم يحدث هذا مع قصيدة النثر؟”.
هذا الموقف يحيلنا إلى مايذهب إليه الشاعر الجزائري “عاشور فني” الذي يعتبر “الهايكو” حالة شعرية مختلفة لا كما تبدو بتشكيلها المقطعي الصارم، وإنما هو تجربة لمحمولات فلسفية جديدة تقف “على النّقيض من البلاغة الطنّانة والأصوات العالية واللّغة السّميكة. الحدّ الأدنى من الحروف ومن اللّغة يكفي لتفجير نواة التّجربة الشّعرية الخلّاقة بعيداً عن البديع والبيان والتمجيد والمديح أو الهجاء والتبخيس المبالغ فيه. لحظة صفاء مع الذّات وصداقة مع العالم. أن تكون في الحياة، لحظة الكتابة، من العالم لا فيه ولا خارجه. إنّ فلسفة الهايكو هي أقوى ما في التجربة..” ففي قوله إشارة واضحة إلى النّمطي السائد في الشعرية العربية التي بقيت حبيسة القواعد اللغوية والبلاغية المحسومة سلفا، والمحتكمة إلى مايردّده اللغوي أو عالم البلاغة القابع -زمنيا- في عصر التدوين ومابعده بقليل، هي دعوة صريحة إلى “التكفير” عن خطأ لا يد للشعر فيه أو هكذا أراد أنْ يقول.
وبين هذا وذاك، أعتقد أنَّ رهان “الهايكو” الراهن لا يكون إلاّ على “الصورة الشعرية” كخطاب، وكملمح، حتى نتجنّب إحياء “النزعات” النّقدية، ولو أنّ توليفة “محمود الرجبي” تحقّق غايات عدد معتبر من شعراء العربية “المحافظين” إلاّ أنّ محاولة إرضاء كلّ الأطراف قد لا يكون في صالح التنوع و التأثيث لمشهد شعري عربي منفتح على كل التجارب.
3.تجربة الجزائري “لخضر بركة”:
تجدر الإشارة أولا إلى أنّ هذا النّوع الشعري عرف رواجا كبيرا في الجزائر بظهور عدة أسماء مفصلية شقّت عصا الطاعة الشعرية، وأشعلت فلسفة الاختلاف في منابر عديدة، والملاحظ أنّ أغلب هذه الأسماء الشعرية سبق لها الكتابة في العمود والتفعيلي والنّثري، فركبت الموجة وهي تمتلك أدوات “التجريب” على غرار “عاشور فني، الأخضر بركة، خيرة حمر العين، معاشو قرور، عفراء قمير طالبي، وفيصل الأحمر..”
إنّ تجربة “لخضر بركة” من التجارب الشعرية اللاّفتة في المشهد الشعري الجزائري، حيث كتب قصيدة ” التفعيلة” و”النثر”، واشتغل على “الهايكو” بنسق مختلف حاول فيه صناعة التميّز، من خلال مجموعته الشعرية (حجر يسقط الآن في الماء) فهو يمثل ” تجربة لها كل خاصيات الاستثناء و الخصوصية بكل مستوياتها و دلالاتها ، تجربة اختراق و تجلٍّ ، تجربة وصل بالوجود.. استغراق في التفاصيل و انفصال عن الانفصال عنها ، انفصال ببلوغ مستوى تجريد المجسد و تجسيد المجرد . و هاجس الانخراط في ما يحقق هارمونيا وجودية دفع الأخضر إلى تجربة الهايكو كتجربة علاقة مع الطبيعة…”
إنّ الكتابة بنفس عال، ووتيرة مكثّفة ، ورغبة في مشاكسة “الهايكو” واستثارته بالبحث عن تجلياته كلحظة كتابة فارقة، تجعله يجسّد هذه اللحظة و يُلبسها رداء شفافا، فيقول:
“العالم قبضة رمل
نصّ الهايكو
مايتبقى في اليد منها !”
*** ***
ولايكتفي برسم المعاني وإنما يفجّر شحنة من الأسئلة الوجودية أشبه بفيسلوف مسكون بإثارة التفاصيل، وبرغبة التجاوز بخطاب يكفر بالسائد، وينفر من “مسكوكات” اللغة إلى تقصّي مضمراتها و تموجاتها في خطاب يحفر في المعنى ويشي بأسرار الرؤيا الشعرية التي تسكن الشاعر ويسكنها:
“بأيّ دلو
يمكن إخراج القمر
من قاع البئْر؟!”
*** ***
إنّه بهذا الشكل ” يستفز الحواس و يتربص بالمخيلة و يزعزع ما احتوته الذاكرة و يخترق حجبا حجبت ما يشحن الدال..” :
“شتاء..
شجرة التين العارية
تحلم بفستان جديد!!”
*** ***
إنّ الشاعر لايغفل أبدا –بتعبير الأمين سعيدي- “ملاحظة حركة العالم بعين البصير الذي لا يفوّت كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها..” فهو معني بالتفاصيل، بلْ بأدقها ليحرّك أدواته الشعرية منصّبا فخاخ المعنى ومتأهّبا لكلّ احتمالات الفجاءة، فهو –بتعبير عبد القادر رابحي – “يضع الذات الشعرية على حواف المغامرة التخييلية التي تستمد طاقتها الإبداعية من الحاضر والآني والمعيش اليومي، لا في ما يحمله من أغلفة ظاهرة عادة ما أرقت الكتابات الشعرية العادية..” :
“هواء
يواعد النافذة
تفضحه الستارةُ
*** ***
في النّافذة
امرأة…
عينها نافذة!!”
*** ***
من مشهد بسيط ظاهريا، يمكن أن يتحوّل اليومي إلى سؤال مفتوح لم يُنتبه له، أو إلى حالة إرباك حقيقية تمارس سطوتها الجمالية، فكأنما يخلق من العادي الاستثناء، ومن الضائع الحضور، ومن الفراغ الامتلاء في قدرة غير مألوفة على التحريك و التفعيل و المجازفة بأدوات شعرية أقرب إلى الإدهاش، فهو –كما يقول الأمين سعيدي- ” ينهل من قاموس الحياة كمّا هائلا من المسمّيات والموجودات المادية، ليتخذها مشروعا لتركيبته الشعرية، لكنه في الوقت ذاته، يستمر في عداوته مع الواقع، أو مع النسق المرجعي للغة، عن طريق ترحيل أشياء العالم ومسمياته إلى عالم الشعر، وتجريدها من معانيها السابقة، وتتويجها بمعانٍ جديدة تقتضيها الجغرافيا الشعرية المغايرة التي أصبحت تنتمي إليها” ، ولعلّ للنافذة سرّا أودعه الشاعر فيها، حيث استفرد بها ، وشكّل منها موضوعة بمخرجات شتّى، فهي مرة للصفاء، ومرة للجمال، ومرة للخيبة، وأخرى للتجسّس..فنفخ فيها روحه الشعرية وأودعها هواجسه:
“من النافذة بعد الخمسين
الخريف يجرّ
عربة العمر نحو العدم”
*** ***
“النوافذ المغلقة دائما
كائنات مصابة بالتوحد
أو الإنطواء.”
.نتائج:
.إنّ التجربة الشعرية المعاصرة الجزائرية منفتحة على كلّ أشكال القول الشعري، محقّقة حضورا مغاربيا وعربيا ودوليا غير مسبوق بوجود أسماء لها حفرها في هذا الشأن على غرار “عاشور فني، عبد الرزاق بوكبة، معاشور قرورو، عفراء طليبي، خيرة حمر العين، لخضر بختي” وغيرهم كثير.
.إنّ تجربة “لخضر بركة” تمثل استثناء شعريا جزائريا وعربيا مكتمل الأركان، فقد اشتغل الشاعر بكلّ أدواته وحواسه ومحمولاته ليقدّم نموذجا “هايكيا” جزائريا يمكن الاعتداد به، وتقديمه على أنّه النّموذج الشعري الأبرز على الإطلاق.
.بالعودة إلى تلقّي “الهايكو” في الجزائر، يمكن الإشارة إلى الغياب أو “الغيتو” النّقدي-بتعبير تودوروف في كتابه (الأدب في خطر)- لهذا الشكل الأجناسي باستثناء مبادرات قليلة نتيجة لظهور “غيتو” شعري/نقدي –إنْ صحّ التعبير-يرفض كلّ تجربة جديدة، ويضع الحدود الفاصلة لكلّ محاولة تجديد أو تمرّد على النّمط الخليلي بشقيه العمودي أو التفعيلي فيما يشبه الحجر على الذائقة وفق”إكراهات” أو “مسلّمات” لاينبغي الخروج عنها، ومع ذلك، فإنّ التجربة الشعرية الجزائرية المعاصرة أوجدت لها صدى طيبا وتلقّيا مقبولا جدا بفضل الأسماء التي سبق ذكرها.