-قبل البدء
إنّ رواية ” كفّارة الحبس للنساء” للكاتبة حبيبة المحرزي يعدّ رقما كمّيّا وكيفيّا في تجربتها الإبداعيّة بعد روايتها الأولى ” الوزر” الصّادرة سنة 2000و”قرار أخرس” كمجموعة قصصيّة سنة 2020 ثمّ “سبع لفتات”كرواية سنة 2021ثمّ “كفّارة الحبس للنساء”
هذه الرّواية إن أخذت كنصّ معزول عن تجربتها الإبداعيّة فلأجل تفكيكها وتحليلها. نصّ حاولنا سبر أغواره الدّفينة وقبل هذا كان نصّا وفيّا لمقوّمات الكتابة الرّوائيّة وتمفصلاتها وكنصّ مطوّل استطاعت به الكاتبة تقديم رؤيتها للحياة والنّاس هناك في أقاصي المدن التّونسيّة أو في مدن ودول ما بعد الأنهار والبحار لتكون الرّواية المدروسة ” كفّارة الحبس للنساء” رواية تونسيّة بامتياز بالأمكنة المذكورة والشّخصيّات الواقعيّة الّتي عايشناها وعشنا معها العقليّة وطرق التّفكير، المعتقدات الشّعبيّة، السّلط الّتي تتحكّم في مصائر البلاد والعباد.
-البناء الرّوائيّ في كفّارة
القارئ المتأمّل والباحث في بناء الرّواية لدى الكاتبة حبيبة المحرزي تستوقفه إحدى أهمّ ركائز البناء الرّوائيّ وهي البحث عن مصادر الإلهام، والفكرة مع متطلّبات القراءة في نفس الطّرح أو مساءلة جمهور مرّ بنفس التّجربة لتشكّل ملامح بطلها المحوريّ وهنا كانت بطلة جابت بها الكاتبة مسار أحداثها كلّ الأمكنة الّتي احتاجتها لتكون وعاء لطرحها ومواقفها ورؤيتها للعالم والمجتمع، كما أحكمت التّلاعب بالقارئ المتابع لمسار الرّواية والأحداث عبر استقدام أحداث متصاعدة وأحيانا ثابتة جامدة لتحرّك في القارئ لحظات المكاشفة ونداءات الذّات للتّفكّر والاعتبار ، أمّا العقدة فكانت متناثرة هنا وهناك وتتطلّب حلولا ونظرا لتناثرها تركت للقارئ التّمنّي بمعنى لو تفعل البطلة الرّئيسيّة وباقي الأبطال كذا أو هكذا. أو لو اختارت هذا الحلّ أو تلك الحلول، لكنّها تباغتك بحلّ للعقدة يتماشى مع رؤيتها الفكريّة المنطقيّة والمسار الّذي حدّدته لأبطالها وحياتهم داخل هذا النّصّ الرّوائيّ المميّز.
-عتبة العنوان: كفّارة الحبس للنساء” أو الصّعود إلى الأسفل
غالبا ما يكون العنوان بوّابة النّصّ الشّعريّ أو القصصيّ أو الرّوائيّ. قبس يحيلنا على متن النّصّ الموزّع بين أوراق الكتاب لكنّ الكاتبة صدمتنا نفسانيّا ووجوديّا بهذا العنوان بمعنى التّقدّم بالمسألة النّسويّة وتمظهراتها وتنافسها مع الذّكوريّة المقيتة الّتي رافقتها وما زالت ترهقنا وتعطّل مسار تقدّمنا رغم المكاسب النّسويّة عموما.
فهذا الكائن الّذي يقدّم كوردة حمراء وكنسيم عليل كشفاء لأمراضنا وعقدنا وكأغنية جميلة تغنّى بها الشّعراء والكتّاب منذ مئات السّنين فإنّ الكاتبة نبشت في مواجعها بطرح مآسي هذه المرأة ومعاناتها والّتي نجد لذلك أثرا، رسما أو شعرا أو سردا. ومنهم ومنهنّ الكاتبة حبيبة المحرزي الّتي قدّمت المرأة في وضعيّات صادمة ومنها تواجدها في السّجن وصراعها هناك مع البشر والقدر والحياة المتنكّرة.
فكلمة “كفّارة” ذات مرجعيّة دينيّة لتغطية بعض الأعمال بهدف السّتر أو الغطاء فهي مقابل خطأ أو جرم ارتكبناه لكنّ الثّقافة المجتمعيّة استنجدت بهذا المصطلح وأصبح جزءا من التّداول الشّعبيّ في حديثهم وأمثالهم وحكمهم الشّعبيّة ولقد استطاعت الكاتبة تنزيل هذا المصطلح وهذه المفردة في عدّة منازل فتداولها له خصوصيّة المكان وخصوصيّة العقليّة وخصوصيّة المفهوم وخصوصيّة السّجينة نزيلة هذا المكان كمثال ” المضيّفة” إذ تقول “يتوه فكرها إلى المضيّفة المتعالية الجميلة الجذّابة، صورتها وهي تختال متباهية بشعرها الأشقر وأناقتها العالية. سيرحّب بها أهلها وأفراد عصابتها وسيصافحونها قائلين ” كفّارة” (1)لكنّ البطلة لها موقف آخر إذ تقول “كفّارات الدّنيا كلّها لا تكفي شابّا أزهقت مستقبله ولا قاصرا نهشها الأوغاد المدمنون. هي أحطّ من “الكبرانات” كلّهنّ مجتمعات ومن القتلة والقتّالين والقاتلات هي شرّ رجيم مدمّر” (2)
وهذا الموقف تتبنّاه القرية لكن من زاوية أخرى مجتمعيّة في أفق مغلق وذي عقليّة محافظة إذ تصبح كلمة “كفّارة” حديث الزّوايا والتّجمّعات لأقاربها إذ تقول الكاتبة: “أبناء أعمامها وزوجا عمّتيها يتحلّقون في غرفة جانبيّة يفسّرون “كفّارة” ماذا قصد بها العمدة ؟(3)
ليصرخ أحدهم “نحن أهلك والعار يلحقنا كلّنا” (4)لتستحضر البعد الدّينيّ ورمزيّته في جهاد النّكاح وكيف اعتبر كفّارة عن الذّنوب إذ تقول:”والحقيقة أنّ مئات من الفتيات والنّساء جئن من العالم كلّه والتحقن ببؤر الإرهاب أوروبّيّات وشيشانيّات وإفريقيّات ليتداول عليهنّ الإرهابيّون بعد أن غسلوا أدمغتهنّ وزيّنوا لهنّ الرّذيلة والفسق بل واعتبروها خير كفّارة عن الذّنوب ما سبق منها وما لحق” (5)في حين يقع تداول هذه المفردة بإيجابيّة مع نزيلات السّجن وعندما يقع الإعلان عن الإفراج وبراءة إحداهنّ كما في مثال البطلة إذ تقول إحداهنّ “كفّارة كفّارة أنتم السّابقون ونحن اللاّحقون” السّجينات يصفّقن وينشدن “كفّارة كفّارة، الحيّ يروّح”(6)
أمّا المفردة الثّانية فهي كلمة “الحبس” أو” السّجن” وقد تشكّلت حولها جملة مفردات ارتبطت بهذا الحقل الدّلاليّ وهذا العالم الخاصّ الّذي احتضن العديد منهنّ ومن طبقات هذا المجتمع فهناك المضيّفة و البنكاجيّة وطالبة الدّكتوراه وعوامّ النّاس والدّاخل لهذا المكان كقارئ مكّنته الكاتبة من جملة مفاتيح ليستطيع فهم هذا العالم الخاصّ فبعد وصفه الّذي تناول البناية الكبيرة النّوافذ، القضبان الحديديّة، القاعات، السّيلون، الآرية، المفاتيح، الأبواب، الأسرّة، غرفة التّفتيش، الكبرانة والشّرطيّات تسحب الكاتبة القارئ ليلج معها هذا العالم الغريب العجيب. فتجوب به في الأروقة وتحشره معها في السّيلون وتدعوه لمعاينة مظلمة طوّحت بها في الزّنزانة الانفراديّة.
أمّا ما استوقف البطلة ومن ورائها تنبّهات الكاتبة هي اللّغة السّائدة والمختلفة عنها في أماكن أخرى، إذ تقول:”كلّ واحدة لها معجم خاصّ بعضه من الخيانة والنذالة وبعضه من الفساد والقذارة والبعض الآخر من الماخور”(7) لكن كلّهنّ يتبادلن كلمات نابية تحطّ من قيمة الانسان. هذا الكائن نزيل هذا المكان فهنّ في وضعيّة نفسيّة هشّة تضاف إليها نعوت وتشابيه مثل ” الميبونة، اليابسة، العاهرة، العاقّة، الفاسدة، عند السّؤال عن معرفة سبب الإيقاف “سرقة، قتل، أم قحب؟” والمعجم ليس وحده المهين بل طريقة التّعامل معهنّ ككائنات بعيدة عن كلّ ما يميّز الانسان، تقول الكاتبة :”يعاد الفرز كما تفرز الشّياه عند العودة” (8)
هذا السّجن رغم بشاعته وفظاعته تمنّته إحدى الشّخصيّات وهي المقعدة إذ تقول بعد الإفراج عن البطلة “مالك غزلان؟ الانسان منذ خلق وهو في أخذ وردّ مع المصائب. أغلبها تفرض عليه. ليت ما حصل لك حصل لي، ليتني سليمة أنطّ وأخرج وأمشي وأدخل السّجن. أتدرين يا حبيبتي أنّ المحكومين بالمؤبّد أسعد منّي …؟إنّهم أحرار ولو في زنزانة منفردة…أمّا أنا فرهينة محبسين، الفراش ودواخلي الّتي لم تقبل هذه الانتكاسة المرّة المهينة” (9)أو هو مكان تضنّه إحدى الشّخصيّات أقلّ فظاعة من الشّارع إذ تقول في رسالة لابنتها ” ابنتي العزيزة ابقي هناك في السّجن. أن تكوني تحت سقف يظلّلك خير من أن تكوني في العراء مشرّدة في الشّوارع” (10)مقدّمة لها نصائح غريبة مثل “لا تكوني بسيرة حسنة كي لا تخفّض عقوبتك ” وهذا السّجن في الأخير ملجأ يقيها القتل الموعود…إخوتها يتوعّدونها بالقتل ليغسلوا عارهم وتتمنّى الأخرى أن تكون في القبر لا في السّجن إذ تقول إحدى النّزيلات ” حتّى أنّني سأجلب لها العار والأتعاب. أن تعلم أنّني في القبر أفضل من أن تعلم أنّني في السّجن” (11) أمّا الثّقافة الشّعبيّة والمجتمعيّة فلم ولن تتفهّم بعد سجن المرأة رغم قدم هذه المؤسّسة الإصلاحيّة لذلك تجرّأت الكاتبة لطرح هذا الإشكال المحيّر في قالب إبداعيّ شيّق بل والتّقدّم بالمسألة لأقصاها معتبرة أنّ “الحبس للنّساء أيضا ” تقارع فكرة “إنّ الحبس للرّجال” رغم ما يرتكبونه من مظالم ومعاصي، فالمجتمع يحصّنهم ويرفّع من معنويّاتهم، وفي إحدى الجلسات تصبح البطلة متحدّية القرية والعقليّة إذ تقول “الحبس للنساء أيضا إذا غابت الرّجولة ولا دخل لكم في مصيرنا ومن يرانا من أهل كفّارةوخرّيجات سجون يتجنّبنا لا يتزوّج إحدانا، يبحث عن شريفة مخبّأة في الظّلام، اتركونا وشأننا”(12)
كما اكتشفت البطلة هذا العالم الغريب وتعاطفت مع العديد من السّجينات وتنقّلت بين طبقاته وقاعاته. اختلاف النّزيلات منهنّ بنات المؤسّسات مثل البنكاجيّة والمضيّفة والموظفات والمثقّفات وقاعة أخرى لعوامّ النّاس فلاحظت الاختلاف والمعاملات بل كان مكانا للمراجعات الفكريّة والمجتمعيّة وقدّمت الكاتبة أكثر من مثال فلقد فهمت معنى المتشائل لإميل حبيبي بل وراجعت موقفها من الموت الرّحيم والانتحار إذ تقول:” سأناصر أستاذي وأسانده وسأجد الأعذار لجارتنا الّتي شنقت نفسها ليلة العيد لأنّ زوجها تركها وأولادها الخمس للفقر والجوع ورحل ” يومها نقمت عليها وكرهتها وعيّرتها بالضّعف في سرّي وأنا أحاول التّخفيف عن صغارها الملتاعين اليوم أجد لها الأعذار، هي حتما مرّت بظروف صعبة أصبحت الدّنيا زنزانة ضيّقة كالّتي تكبّلني أناالآن” (13)
مقوّمات وأساسيّات النّصّ الرّوائيّ
أ- اللّغة بين العامية والفصحى وحمالة لأفكار ما : وأنت تدرس هذا النّصّ الرّوائيّ للكاتبة حبيبة المحرزي تستوقفك اللّغة الّتي حرصت الكاتبة على أن تكون مجموعة من المفردات تخدم النّصّ والفكرة والتّهويمات، لغة تمكّنت من الفكرة، لغة عبّرت عن الذّوات والأمكنة والحالات بنعوت وأوصاف، لغة تشدّ قارئها، لغة ساحرة لكاتبة وضّفت كلّ ما امتلكته طيلة سنوات المطالعة والتحبير وفرضت العامّيّة نفسها للتّعبير عن حالات وظروف أو ككلمات كانت في خدمة النّصّ بل وتعدّدت طيلة فصول النّصّ الرّوائيّ ومنها “الكناطريّة” الشّمبو” دوليبران” الدّش” الكابتن” الدجينز” أو في الأمثال الشّعبيّة الّتي لن تكتب إلاّ باللّهجة العامّيّة فذكرت العديد منها لتفي بالفكرة والحالة.
ب الحوار”الظّاهر منه والباطن:
لإن مثّل الحوار أحد أهمّ ركائز النّصّ الرّوائيّ فإنّه تواجد بل والتجأت إليه الكاتبة كلّ مرّة لتقارع حجج أبطالها بعضهم ببعض. ولأنّنا مجتمع لا يقبل الاختلاف في الرّأي والتّصوّرات والأفكار فقد جسّد الحوار هذه الخاصّيّة في محدوديّته في بعض الأحيان كنقاش البطلة مع أقاربها فيما يخصّ مصطلح ” كفّارة” أو في الحوار مع السّائق الّذي أعجب بجمالها ونعت الرّئيس الحبيب بو رقيبة بنعوت ذات مرجعيّة دينيّة لأنّه قطع حبل تعدّد الزّوجات ذات زمن وغيرها من الفصول والمحطّات المعيشيّة الّتي ذكرتها الكاتبة.
كما طلبت البطلة الحديث واستمتعت بالحوار بالسّجن. هذا الحوار والحديث يخفّف من آلام الوقت القاتل وفرصة للبطلة للتّعرّف على الحالات الاجتماعيّة والنّفسيّة وفتحت قنوات الحوار مع جدّتها طالبة معرفة بعض الحكايات لتترك مساحات ومسافات للحوار الذّاتي والباطني والمطلوب والّذي طلبته العديد من الشّخصيّات.
ج- الثّنائيّات مدخل اختيار في الكتابة:
للكاتبة خطّ سير نوعيّ طيلة تمفصلات الرّواية، تحملك وجدانيّا من هنا إلى هناك، من الأمكنة المغلقة إلى الأمكنة المفتوحة، من المجال الحيويّ لأبطالها إلى مجالات أخرى يكتشفونها عند التّلاقي وفي ترحالهم وتحرّكاتهم لذلك طلب من القارئ وجدانيّا اتّباع خطّ سير الرّواية، فهذه المراوحة أثرت المشهد الإبداعيّ الرّوائيّ وتواصلت طيلة الرّواية تتتبّع مسار البطلة وهي تنتقل بك مقارنة هنا بهناك باسطة أسس الأفكار وتحوّلاتها فقارنت بين أمن القرية وأمن السّجن ومنازله ومنازل القريةو صور الجدّ واللّوحات الفنّيّة بدار ميمونةونزع ثياب البطلة بالسّجن والإهانات ونزع ثيابها مع أمّها رمز الحنان والعفّة ومفتاح مخزن جدّها والمفتاح الحديديّ الكبير والمفاتيح الّتي تقلق مسامع السّجينات و يوم المولد النّبويّ بالسّجن وتفاصيل الاحتفال به ببيتهم ومصوّر السّجن والمصوّر ووالدهاو ولادة المنقّبة وتقاليد الولادة بالقرية وكلاب السّجن وكلاب القرية وكلاب الغرب هذه الثّنائيّات هي للتّفكّر والنّقد والوقوف على الفروقات في أساليب الحياة ومتطلّباتها.
د-الشّخصيّات: التّنوّع والتّفرّد:
صاحب النّصّ الرّوائيّ شخصيّة محوريّة تمكّنت منها الكاتبة فألبستها تفكيرها ومواقفها وزوايا نظرتها للحياة بجميع تفاصيلها. كانت الكاتبة حاضرة بقوّة خلف شخصيّتها الرّئيسيّة. أمّا بقيّة الشّخصيّات فكان مطلبا من الكاتبة أيضا لتقديم الشّخصيّة والتّعريف بها، وضعها في قالب ما، تفكيك تفكيرها ونقدها وفضحها فالذّات البشريّة متحوّلةو ثابتة، محكوم فيها أو متحكّمة في مصيرها وقد كانت هذه الذّوات وهذه الحالات يشقّها التّذبذب والحيرة كلّما تقاطعت مع موقف يهزّها ويخلخل قناعاتها وثوابتها، فالبطلة مثلا رغم تفتّحها واستعدادها للتّفاعل إيجابيّا مع الواقع المتقلّب إلاّ أنّها تفقد توازنها وتضيع البوصلة كغيرها مثلا في عدم تقبّلها العديد من التّصرّفات عندما تواجدت بفرنسا أو الأفكار الحديثة والخيارات الأحدث كالمثليّة والجمعيّات النّاشطة في هذا المجال أو التّواجد بالدّول الغربيّة محمّلين بالعقليّة الشّرقيّة المغلقة رغم الانفتاح وتلاقح الأفكار كما مسّ التّذبذب وعدم الاستقرار والمواقف من الحياة لتعدّد الكاتبة من حالات الانتحار الّتي صاحبت شخصيّات روايتها ” كفّارة الحبس للنساء” والعديد من الشّخصيّات عُدّت كأرقام كمّيّة خاصّة المتواجدين بالقرية والأرياف كعبيد لمعتقدات أجدادهم وطرق تفكيرهم لنقدّر التّعليم والتّعلّم الّذي ساهم في رقيّ الفتاة التّونسيّة أين استطاعت البطلة محاججة رجال القرية الّذين لم يتعوّدوا على هذا من قبل.
د-الأمكنة :الفضاءات والاحالات:
للأمكنة تأثير نفسيّ وجوديّ وذاتيّ يحتوينا أو نحتويه يؤثّر فينا ونؤثّر فيه إذا طلبنا الانطلاق والتّحرّر ولقد حاولت الكاتبة أن يكون الكائن الإنساني حرّا وأن تكون له بصماته أينما حلّ.
كان السّجن في البداية أين تفاعلت مع واقعها المرير. هذه البطلة المميّزة استطاعت الكاتبة وصفه بدقّة متناهية وهذا نتيجة مطالعاتها أو حديثها مع من زرنه ومكثنا به سنوات. القرية كمعمار وعمارة وعقليّات وفي محطّات عديدة كالطّبّ الشّعبي، عادات وتقاليد الزّواج، زينة المرأة بالرّيف، أعمالها المنزليّة. علاقاتها الأسريّة القابعة تحت جبّة التّقاليد والعادات بل حتّى الّتي تمرّدت ومارست قناعاتها فأحبّت خارج أسوار العائلة المقدّسة وتحمّلت مسؤوليّاتها حتّى الموت.
ومن المسكوت عنه واللاّمفكّر فيها دور المومسات وما يدار فيها وحولها من مآسي ومتعة مغلفة وسوق للجسد وتحقيق لرغبات جنسيّة خلّفت أبناء حرام كما يقال أو أبناء زنا.
أمكنة يؤمّها الرّجال وفتيات صغيرات وقد ذكرت الكاتبة إحدى اللّحظات القاتلة إذ تقول:” فتيات جميلات منهنّ القاصرات اللاّتي يتردّدن على الطّابق العلويّ بعد ترك محافظ كتبهنّ قرب الدّرج، يتزيّنّ ويتعرّين في انتظار زبائن يغدقون الأموال على بهيجة في مقابل العبث بقاصرات مغرورات حتّى كان يوم، حلّ زبون جديد عليه مظاهر النّعمة والجاه وطلب بائعة هوى قاصرة فجأة دوّى صراخ ولغط وجلبة وحضر البوليس ليضبط الزّبون الّذي تفاجأ بابنته تقدّم له عارية في فراش البغاء”.(14) كما قدّمت الغرب بمسارحه وثقافاته وعلاقاته الأسريّة والفرديّة وكيف تفاعلت بطلتها الأساسيّة مع الغرب وفي إحدى تقاطعاتها مع عالمهم الخاصّ قالت البطلة ” لم أعد أميّز الصّواب من الخطأ، أحيانا أبارك هذه الحرّيّة وأراها أمرا حتميّا في القرن الحادي والعشرين لكن ثوابت في فكري وأخلاقي تشقيني”(15)
ليكون المكان ملجأ ومهربا من مكان ما كالمثليّ الّذي لم يستطع التّأقلم مع مجتمعه والعكس بالعكس فهاجر ليمارس قناعاته هناك بعيدا عن هنا، وغيرها من الأمكنة الحاملة لتصوّر ما عن الحياة كماخور ” عبدالله قش” والجلاّز ووكالة العيّاشي وبو منديل والحفصيّة وغيرهم كما عالجت مسألة الطّبقيّة الّتي تفرضها الأماكن كمقارنة منزل ميمونة مع منزل البطلة إذ تقول ” أقصى طموحاتي أن أنام على حشيّة بسمك يعزل جسمي عن البلاط البارد الموجع. كنت في كوكب مختلف وأنا أسير بين الأشياء الجميلة المبهرة بين التّحف البلّوريّة والكؤوس الكريستاليّة المصطفّة في خزانة خشبيّة تحيط ببابها نقوش جميلة ساحرة. أتوقّف حينا، أشتّت نظراتي بين الأشياء، أطهّر ذاكرتي من شوائب قاتمة، كوكب لم أقرأ عنه ولم أره إلاّ في بعض الأشرطة السّينمائيّة والّتي لم تبهرني لأنّني كنت أعدّ ذلك البذخ من مؤثّثات التّمثيل ولا صلة له بالواقع، كرهت دار العمدة وابنته الّتي كانت تتعالى علينا بحوشهم الواسع وغرفهم الكبيرة الّتي بدت لي الآن خرابة لا تصلح حتّى للدّوابّ”(16)
الجسد: الكتلة والتّمظهرات:
رواية “كفّارة الحبس للنساء” منذ لوحة الغلاف للدّكتورة الفنّانة التّشكيليّة أميرة يعقوبي وجسد المرأة ينشد الدّفاع عن نفسه ببياض يديها وسواد أيدى المغتصبين لشرفها وكرامتها وانسانيّتها فلم يكن الجسد ملكا خاصّا بالمرأة والفتاة في القرية والمدينة وحتّى في الغرب كان كومة لحم كتعبير عمّن أنجب الفتيات. جسد المرأة محكوم بعقليّة ذكوريّة أين توجب على الفتاة المحافظة على جوهرتها المكنونة كما تقول الكاتبة وإذا انتهت خارج أسوار التّقاليد المتعارف عليها تصبح بلا شرف ويلحق بأهلها العار والخزي وهذه اللّحظة عبّرت عنها الكاتبة في أكثر من مكان وزمان فكان الحبّ والعشق والاستسلام وفقدان البكارة، وكانت السّذاجة في بعض الأحيان وكان غرور القاصرات واختيارهنّ هذا النّهج في الحياة، أو خيار إحدى الشّخصيّات الّتي تقول “عشرات طلّقوا نساءهم من أجلي..”أكره القيود والسّلاسل. أحبّ الحرّيّة كالنّحلة الّتي تمتصّ الرّحيق وتمضي مشحونة عسلا. تزوّجت مرّة واحدة بعد أن اتّفقنا على ألاّ يحاسب أحدنا الآخر على ماضيه” (17)وحتّى عن المستقبل في علاقة أخرى نوعيّة يقول الزّوج:” أنا زوجك فعلا لكنّني لست سجّانك، افعلي ما تشائين. أينما وجدت متعة ولذّة لا تفوّتي الفرص. أنا نفسي لا أؤمن بالوفاء وهذه الكلمات الجوفاء الّتي تكبّل الانسان ليعيش في النّكد والتّعاسة، لابدّ من التّجديد كي نستمرّ وإلاّ فالموت أرحم. شعاري في الحياة الحرّيّة فقط، الفراشة تحطّ على الزّهرة الّتي تستطيبها لو قمعت وحبست في الظّلام لانتحرت” (18)
بالمقابل في مجتمعاتنا القرويّة تهرب المرأة أمام جبروت زوجها أو جهله بالجسد وكيفيّة التّعامل معه ككتلة ولكن كإحساس إلى علاقات أخرى خارج البيت كما في المثال الّذي قدّمته الكاتبة “حميدة” إذ تقول ” والّتي أسرّت للنّساء بعلاقتها مع ابن جارهم الّذي يصغرها بأكثر من عشر سنوات انتقاما من زوج عنيف سيّء لكنّ إحداهنّ أفشت السّرّ حتّى وصل إلى الزّوج وأهله فشدّدوا عليها الحراسة إلى أن فاجؤوها ذات ليلة وهي بين أحضانه في ضيعة الزّيتون فذبحوها كما تذبح الشّاة”(19)
ليتلخّص جسد المرأة في عذريّتها وبكارتها وقطرات الدّم وجدار العذريّة المطلوب ليلة الزّفاف إذ تقول “نزع ملابسي وهو يقبّل يدي ورجلي لكنّه عبس وتغيّر وشحب وجهه لأنّه لم يجد جدار عذريّة يهدمه”(20) بل قدّمت الكاتبة ثنائيّة جميلة رابطة معركة الشّرف ومعركة الوطن مع الدّواعش إذ تقول ” هم أعجز من أن يحرّروا جبالهم من أوغاد استباحوا شرف الرّجال قبل النّساء، كلّ هامات الشّرف تسقط وتتداعى وينكّسون الرّؤوس، إلاّ إشارة الشّرف تلك تصبح مسألة أمن قوميّ” لتواصل هذه الثّنائيّة إبداعا وبمخارج لغويّة ومضمونيّة مميّزة بين الثّوب والبكارة والقماش والعذريّة إذ تقول ” سأهب حياتي لأخواتي وأمّي، سأصلح آلة الخياطة الّتي كسرها أبوك وسأرتق الثّوب المتخرّق لا البكارة المغتصبة وسأخيط القماش لا العذريّة”(21)
لتواصل تقديم المشاهد المرتبطة بالجسد ومن أفظعها اغتصاب ابنة الدّاعشي أمام عينيه وأطنبت الكاتبة في الوصف لغاية تقديم هذه الفئة ومآسيها إذ تقول” استنجد الشّيخ برجلين آخرين نادى عليهما بصوت عال، شلاّ حركتي، عضضت يد أحدهم، فصفعني حتّى كدت أفقد الوعي. صرخت وصحت، لكنّ أبي تركهم يغتصبونني بعد أن شدّوا وثاقي إلى خشبتي الفراش برباط قماشيّ قطعوه بأسنانهم من اللّحاف الّذي يغطّي الحشيّة وأنا بينهم أتمزّق كفرخة تنهشها الذّئاب وأبي بعيد عنّي بضعة أمتار متخمّرا يتخبّط على وقع أناشيدهم الصّاخبة” وشيوخ الدّواعش وعلاقتهم بالجنس وحبّ شيخهم فكّ البكارة وتنقل الفتيات بين مجاهدي هذه التّنظيمات مع فظاعات أخرى كالسّائل المنويّ في فم الرّضيعة عن طريق جدّها أو ممارسة الجنس بوحشيّة عند الفئات المهمّشة الّتي أنهكها الإدمان إذ تقول ” لا أدري كم قضيت في ذاك الجحيم. كدت أفقد عقلي ويئست من النّجاة. كانوا قساة يتعاطون المخدّرات والجنس بوحشيّة وكيفما اتّفق يتنقّلون عراة حفاة داخل الشّقّة. رأيت فظاعات تشلّ الذّهن، يمارسون الجنس جماعيّا وبقسوة تصل حدّ العنف والتّقييد واللّكم واللّطم والكيّ بأعقاب السّجائر”(22) فكما يغتصب شيوخ داعش القاصرات ويطلبون البكارة قصد اغتصابها أو في نهج آخر دينيّ متطرّف فالمريدات يغتصبهنّ ” وبعد أن يغتصب الرّبّ البديل. الفتيات القاصرات واللاّتي يطلق عليهنّ عبارة اللّحم الطّريّ والشّابّات الجميلات” (23) لتصل بهذا الفصل منتهاه كشذوذ ومرض عضال في مثل الجدّ والحفيدة والسّائل المنويّ واغتصاب النّسوة والقاصرات من الدّجّالين المحتالين لفكّ عقدة الزّواج والخطبة أو لوضع الطّلاسم للزّوج إذ تقول ” كيف ستفرحين؟ ستذهبين إلى الدّجّال الغرسلّي الّذي يزوّج الصّبايا ويداوي العاقر؟ هل سألت ابنة عمّك ماذا فعل بها؟ هل سألت مريم كيف أنجبت ابنها الوحيد؟ إنّه يغتصبهنّ ويغتصب العذارى ويعطيهنّ الحلول لتنطلي الحيلة على الزّوج. كما قدّمت الكاتبة زينة المرأة والتّبرّج بكلّ الأدوات القديمة والتّقليديّة مثل الحنّاء والحرقوس والسّواك وغيرهما.
الإرهاب: صفحاته وانتهاكاته
التحمت الكاتبة بقضايا مجتمعها فكانت وفيّة للمدّ النّسوي الطّامح للتّحرّر التقدّمي والمستنير وأن تكون منارة تضيء درب القادمات من البعيد أو حتّى القريب المتذبذب والمهمّش ومن القضايا الّتي طرحت على الكاتبة بل وفرضت نفسها عليها وهي تخطّ مسار روايتها وتحرّكات أبطالها ” الإرهاب” هذا القول الّذي تمكّن منّا وتوزّع كالخلايا السّرطانيّة فكانت قريبة من الأحداث واصفة إيّاها مقدّمة موقفها وموقف شخصيّات روايتها. هذا الإرهاب تحدّثت عن أماكن تواجده في الجبال والقرى النّائية في الشعانبي. كيف جنّد أنصاره للتّحرّك في هذه الأرض الزّكيّة، كيف روّعوا الأهالي ويروّعون حتّى أنصارهم عبر إجهاض الحوامل ونكاح نصيرات هذا المدّ الإرهابيّ وكأنّهنّ أغنام إذ تقول “جاءت المرأة وفي يدها ورقة وقلم وبدأت بالمناداة: فاطمة اليوم مع الأخ صفوان الشّيشاني، رماح مع المقاتل فرج السّوري، خديجة مع مصطفى الفرنسي…”(24)
ولكي تؤرّخ بطريقتها لفترة ما من تاريخ تونس ذكرت مقتل الأخوين السّلطاني والشّهيد شكري بلعيد والبراهمي طارحة كذلك أسئلة لمتابعي المسألة مزيد الفهم وتقصّي الحقائق والتّطوّرات. كيف لشابّ في الغرب أن يصبح إرهابيّا وغيرها من التّفاصيل المهمّة وهي تعالج وتقدّم بطريقتها الرّوائيّة هذا المرض أو شخصيّة كعبورة السّكّير الّذي صار إرهابيّا.
قول قبل الختام:
لرواية حبيبة المحرزي كفّارة سحر الطّرح وسلاسة اللّغة رغم الجوانب المظلمة في حياة شخصيّاتها فالرّواية نصّ مطوّل يأتي بالأفكار والتّحرّكات الّتي تلازم أبطالها لمزيد بسط ما استعصى عن الأفهام أن نعيش زماننا بين القراطيس، أن نؤرّخ للحظات أثّرت فينا. من هنا تنقلب الكاتبة بحرقة فنّانة وكاتبة تتالت صرخاتها وآهاتها لوضعيّة المرأة السّلبيّة والتّابعة والمغتصبة والمدمنة ونزيلة الزّنزانات المقيتة
وللرّجل أيضا مساحات ومسافات لأنّه رقم مهمّ في هذه المعادلة قدّمته برجعيّته وتقدّميّته لتكتمل الصّورة الّتي أرادتها في روايتها وفي طرحها. إلى جانب الأمثلة الوجوديّة، الثّقافة الشّعبيّة وتأثيرها في الانسان، الطّبّ الشّعبيّ كما كانت الرّواية مخزنا حكائيّا كبيرا قدّمت فيه العديد من النّماذج حتّى السّود في سابقة لوضعيّتهم داخل هذا المجتمع الفسيفسائيّ القادر على قبول الآخر، سلطة الذّاكرة، الماضي المتحكّم فينا وغيرها من القضايا كالمثليّين ليكون النصّ في الأخير فسحة فنّيّة لكن حمّلته من القضايا والمسائل ما يجعل منها رواية مكتملة الشّروط والوظائف والحالات.
الاحالات:
1 كفارة الحبس للنساء – حبيبة محرزي -دار نقوش عربية –ط1-2022ص( 122 )
2نفس المرجع ص( 122 )
3نفس المرجع ص( 159)
4نفس المرجع ص( 162 )
5نفس المرجع ص( 174 )
6نفس المرجع ص( 91 )
7نفس المرجع ص( 28 )
8نفس المرجع ص( 258 )
9نفس المرجع ص( 97 )
10نفس المرجع ص( 79 )
11نفس المرجع ص( 89 )
12نفس المرجع ص( 162 )
13نفس المرجع ص( 62)
14نفس المرجع ص( 36 )
15نفس المرجع ص( 257 )
16نفس المرجع ص( 12 )
17نفس المرجع ص( 76 )
18نفس المرجع ص( 334 )
19نفس المرجع ص( 159 )
20نفس المرجع ص( 76 )
21نفس المرجع ص( 166 )
22نفس المرجع ص( 121 )
23نفس المرجع ص(277 )
24نفس المرجع ص(132 )