لنصوص الكاتب والقاص المغربي المصطفى كليتي الموسومة ب ” فقط ” والتي أدرجها ضمن ” قصيصات ” طابعا مختلفا ومغايرا من حيث الرؤية الإبداعية والأدوات المستعملة في ذلك والتي تساهم وتسهم في إغناء المتن السردي المحلي والعربي خصوصا في مجال القصة قصيرة جدا بتجربة ذات خصوصيات تؤسس لأواليات وإرهاصات قصصية تندرج ضمن لون القص الموجز لما تتوسل به من عناصر أسلوبية وتعبيرية من تكثيف واختزال وتلميح وإضمار وحذف … وذلك ما أكدته إضاءات ثلة من مهتمين بهذا الجنس ( قصة قصيرة جدا ) ؛ من كتاب ومبدعين ونقاد مغاربة وعرب كما ورد في إضاءة الأديب الفلسطيني محمود شقير : ” الذي يعتمد أساسا على قصر الشريط السردي وعلى الاختزال الشديد في عدد الكلمات . ” ص 143، فضلا عن موضوعات كبرى كما سماها محمود شقير ” لها علاقة بالمجتمع والإنسان … ” ص 143، ذات حمولات تاريخية وحضارية وفكرية وتراثية ، وأخرى مستقاة من الواقع اليومي في رصد لتفاصيل وجزئيات بأسلوب يعتمد التلميح والإشارة تماشيا مع طبيعة النصوص القائمة على الاختزال والتكثيف . وسنعمد في هذه القراءة إلى تناول بعض العناصر والتيمات التي تشكلت منها قصيصات المجموعة ، وما عرفته من تداخل وتقاطع وتصالب ، كموضوع التماهي ، ففي أول نص ” قلب حجر ” ، حيث يتماثل الدمع مع الماء على شكل تلميح أولا : ” تبكي حظها العاثر ” ص 9، البكاء الذي يتم تصريفه ، والتعبير عنه ، تفريجا وتنفيسا ، عبر الدموع ، في مقابل تشقق الحجارة بالماء : ” فتشققت الحجارة بالماء. ” ص 9، وفي ” رجفة ” حيث يفضي التواصل عبر تشابك الأصابع : ” اشتبكت أصابعنا ” ص16، وإيقاع النبض : ” وتسامع نبضنا ” ص 16، إلى انصهار واتحاد وحلول : ” وأمسيت لا أدري أين يدي وأين يدها . ” ص 16، لإطالة أرقى مقامات التماهي ، وعلى شكل ذوبان في قصة تحمل عنوان ” ذوبان ” ، وما تتضمنه من تضاد ( قسوة ، وليونة ) : ” أحضر قسوته ، استنفرت ليونتها ” ص 17 لتشكيل صورة حبلى بزخم دلالي ورمزي يجسده فعل الانصهار والتماهي : ” فانصهرت ملوحته في لججها ” ص 17، فتتوالى أوجه التماهي وتجلياته على شكل : ” اشتبكنا ” ص 19، ما يفتأ ينحو منحى مجازيا ؛ جميل الصياغة ، عميق المعنى : ” فغرقنا في لجة ضحكة جذلى . ” ص 19، بالإضافة إلى التيمة الرمزية التي تتطور عبر سياق القصص ونسقها؛ في مثل : ” وفي قلبيهما نبتت زهرة . ” ص 13، وما تحمله الزهرة من معاني جمالية تختزل العديد من الأبعاد الحسية ، والوجدانية ، والذهنية … فتنتقل وتتحول من طابع رومانسي إلى أجواء فزع ورهبة يتمثل في ” الغولة ” ككائن ذي صفات خِلقية مشينة ومريبة ( عجوز حدباء ) وهي حكاية ترعب بها الأمهات أطفالهن : ” (دادا ) زهرة عجوز حدباء ، كانت الأمهات يخفن بها أطفالهن المشاكسين … ” ص 34، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى صورة أفضل ، بل مغايرة ، تشيع الفرح في نفوس الأطفال لما يصدر عنها من سلوك ينم عن مشاعر حب وعطف : ” غافلتني مرة وقبضت على يدي وملأت جيوبي بقطع الشوكولاتة وقبلتني ومضت تاركة خلفها روائح أعشاب برية . ” ص 34، ماحية ما يحيط بصورة ” الغولة ” من مظاهر الخوف والرعب ويتجلى ذلك في اسمها ” زهرة ” الذي يتساوق مع الزهرة كنبتة جميلة المظهر ، زكية الرائحة ، وما يمكن أن يؤالف بينهما من تجاذب وتناغم انعكس على ما عرفته شخصية الغولة من تحول انتقل من مظاهر رعب وفزع إلى مشاعر دعة وحدب . وفي سياق هكذا تحول على مستوى الموضوع برز في ” ليلت ” التي صارت حية مرعبة : ” وهو يرى حية تسعى مقتفية خطاه . ” ص 27، بعد أن كانت شخصية ترفل في أجواء رومانسية حالمة : ” اغتسلت ثم جلست تسرح غدائرها ، وتغني للقمر وتراقص النجوم . ” ص 27 ، أو تغيير نظرة ” س ” إلى لوحة ” الموناليزا ” من امرأة مبتسمة إلى أخرى يستغرقها الحزن والأسى : ” كانت المرأة تبتسم ، بعد برهة هاله نشيجها…” ص 57، وإغناء للنسق السردي ، وما شابه من تغيير وتبدلات لجأ القاص إلى انتقاء بعض مواضيع قصصه من الواقع في تصوير لعلاقات محكومة ، أحيانا ، بحس انتهازي براغماتي كما في نص ” زوج تحت النظر ” معتمدا في ذلك أسلوب الإشارة والتلميح لكشف خلفيات علاقة مبنية على أسس متناقضة بين طرفين ( رجل وامرأة ) : ” كان يناجيها بشغف ، وكانت تستفسره عن الراتب والوظيفة … ” ص 29، حيث ترتسم ملامح علاقة قائمة على طرفي نقيض ( صدقية المشاعر: الرجل ، ورغبة في الاستفادة المادية : المرأة بتنسيق مع والدتها) ، و مظهر استغلال السلطة التعليمية المعرفية لأغراض دنيئة الذي غدا أكثرا انتشارا في رحاب الجامعة ، مع توظيف البعد الرمزي من حيث التسمية ( ليلى ) كاسم للطالبة ، والذئب الذي نعت به الأستاذ فيما أبداه من رغبة غير بريئة تجلت في قبول الإشراف على أطروحتها مقابل الانفراد والاختلاء بها في قصة ” ليلى والذئب ” : ” ودعا الطالبة المجدة لزيارته في خلوته تعميقا للنقاش ” ص32 ، سلوك رفضته بقوة وحزم : ” رمت حزمة الأوراق في وجهه وصفقت في وجهه الباب . ” ص 32، فتتسع دائرة كشف الاختلالات التي يعج بها الواقع إلى المشرفين على تسيير شؤون البلدان ومدى تمسكهم بسدة الحكم وكرسيه : ” فلم تفلح كافة المحاولات في فك ارتباطه بالكرسي … ” ص 120، كرسي الحكم الذي أظهرت التجارب ، وأثبتت مدى إصرار الحكام ، خصوصا في الدول التي تعاني من الجهل والتخلف … على التشبث به وعدم التفريط فيه ،والتخلي عنه . وفي سياق تعدد ، وتنوع الموضوعات داخل نسيج المتن القصصي تم استحضار ما يسود عقلية فئات من المجتمع من اعتقادات لا تمت للتفكير السليم بصلة كزيارة الأضرحة رغبة في تحقيق الأمنيات ، وقضاء المآرب والتي قد تصل إلى مستوى المعجزات : ” على عتبة باب الضريح ، الزائرات ينتظرن بشغف ، ناسجات أحلاما خضراء . ” ص 80، وما يحيط بهذه الزيارة من معتقدات وتصورات بمسوحات غيبية أسطورية تحقق فيها الطلبات والرغبات بله ، أحيانا ، المعجزات . هذا التنوع والتعدد الذي ينتقل زخمه إلى المعجم اللغوي الذي يمتح منه القاص ، والموزع بين ما هو تراثي تمتزج فيه جزالة اللفظ ورصانته ، وعمق الدلالة وغناها ، كفعل ” ذَرَق ” الدال على فضلات الطيور في قصة ” نكاية ” : ” وحط فوق وذرق . ” ص 96، وفي وصف أجواء معركة قديمة عبر عنوان يمتلك رمزية تاريخية وحضارية ” حصان طروادة ” : ” انقذف طابور الجند مدججين بالسلاح ، رمى الأعداء السيوف والرماح، لعلعات الرصاص تتعقبهم … ” ص 109، وما هو ، أي المعجم اللغوي ،حديث تمثل في استخدام مفردات ك ” سيناريو ” : ” فحرروا سيناريوهات ” ص 81، و” سِلفي ” في قصيصة ” رهافة ” : ” وسِلفي مع حمارة شهباء . ” ص 102، و ” روبتات ” : ” وأقام استعراضا لجيش من الروبتات ” ص 118 ، كما تم تضمين النصوص شخصيات بحمولات رمزية من مختلف المجالات كاستخدام عنترة وعبلة للهاتف المحمول في مشهد مثير للاستغراب : ” ضبط عنترة رقم هاتف ابن عم عبلة في علبة هاتفها المحمول . ” ص 22، ورموز من الميتولوجيا الإغريقية مثل باخوس إله الخمر : ” عُبّاد باخوس يتساقون الكؤوس … ” ص 83، وحي بن يقظان كعنوان لإحدى القصيصات ( ص 99 ) ، وابن بطوطة ، وامرئ القيس ، ونيرون ، وكليوباترا ، وأنطونيو ، والحجاج الثقفي ، وطارق بن زياد ، وأوديسوس ، وأبي زيد الهلالي ، وشهريار . فضلا عن توظيف أسماء حيوانات كالسمندل ، والسلحفاة ، والحمار ، والذئب ،والخرفان ، والأسد ، والثعلب ، والكلاب . وحشرات مثل النملة والصرصار بحمولاتها الرمزية ، وأبعادها الدلالية . كما لا تفوتنا الإشارة إلى الأسلوب المجازي الذي ميز نصوص الأضمومة في عبارات من قبيل : ” القمر يغسل وجه حبيبتي … تدلى القمر بين تلافيف الكرم ، غمز وابتسم وسقانا عصير الحب والعنب. ” ص11، أضفت على المتن القصصي جمالية في الصياغة ، وعمقا في البعد والمعنى ، بحيث يتكرر ، أي الأسلوب المجازي ، بعدة أوجه وأشكال مسهما في إغناء القصيصات ، وتوسيع دائرة انفتاحها .
نخلص أخيرا إلى أن لقصيصات ” فقط ” ميزات فنية وجمالية ورمزية سمتها التآلف والتكامل الصادر عن رؤية إبداعية بطابع مختلف ومغاير ممتد من عنوان تختزله كلمة ” فقط ” المشرعة على شتى أنواع القراءة والتأويل ، وتصغير قصص المتحولة إلى ” قصيصات ” في تنبيه المتلقي إلى طيبعة محتوى المجموعة التي اجترحت فعل إرساء لبنات جنس سردي ( قص موجز ) ينأى عن الشائع والمألوف.
—
* فقط ” (قصيصات) للمصطفى كليتي / مطبعة سليكي أخوين ـ طنجة 2017